قصة السينما من تاريخ مائة فيلم

إبراهيم العريس وجد المنهج الصحيح في اختياراته

تراث الإنسان: تاريخ السينما في 100 فيلم - المؤلف: إبراهيم العريس - الناشر: مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث (البحرين، 2014)
TT

في مقدمة كتاب الناقد والمؤرخ ديفيد تومسون «هل رأيت؟» (Have You Seen?) فقرة يتساءل فيها عن كيف يمكن لواضع كتاب في السينما اختيار الأفلام التي يريدها أو يفضلها؟ يقول: «كيف يمكن لمائة ألف فيلم الهرب من الوجود في عناوين التاريخ والقفز لخارج الذوق؟». السؤال ليس هينا ولا بد أن تومسون واجهه في اختياره لألف فيلم أراد تخصيصها بالحديث كونها فتنته على نحو أو آخر.

لكن تومسون ليس الأول، ولن يكون الأخير الذي يواجه هذا السؤال (يواجهنا كلما وضعنا قوائمنا حول أفضل أفلام العام) ويحاول التغلب على صعوباته. قبله ظهرت قواميس وكتب نقدية قامت على اختيار «الأفضل» و«الأحسن» و«الأهم»، وكل ذلك حسب رؤية الكاتب أو الناقد الخاصة غالبا.

على كثرة هذا التناول وجد الناقد الزميل إبراهيم العريس المنهج الصحيح لوضع اختياراته للأفلام التي شكلت بعض أهم ما يتكون منه التاريخ الإنساني في هذا المجال. كتابه «تراث الإنسان: تاريخ السينما في 100 فيلم» هو طبقات من المعرفة المسددة جيدا صوب القارئ الذي إما يريد أن يعرف أو أنه يعرف ويرغب في المقارنة.

اختار الزميل (الناقد السينمائي لصحيفة «الحياة») مائة فيلم مواجها، بلا ريب، ذلك السؤال حول ما هي الأعمال التي تستطيع أن تفي ما يقترحه مشروعه الثقافي - السينمائي. هل «الهجمة على الذهب» (The Gold Rush) لتشارلي تشابلن (1925) أهم، كفيلم كوميدي من «الخريج» بطولة هارولد لويد في العام ذاته؟ وهل «عز الظهيرة» (High Noon) لفرد زنمان أكثر تعبيرا عن فحوى الكتاب من فيلم وسترن آخر حققه في العام ذاته هوارد هوكس بعنوان «السماء الكبيرة»؟ ولماذا «تيتانيك» لجيمس كاميرون وليس فيلمه اللاحق «أفاتار»؟

لكن على الرغم من تعدد الاختيارات في نحو 120 سنة من السينما، فإن الأفلام المنتخبة في هذا الكتاب (416 صفحة أنيقة) لا غبار عليها لا من حيث صحة الاختيار ولا من حيث اندماجها في مشروع الكاتب الثقافي ككل. كل واحد من هذه الأعمال (ومنها، لجانب ما تم ذكره، أفلام للهندي ساتياجيت راي وللياباني أكيرا كوروساوا والروسي سيرغي أيزنشتاين ولآلئ من الفرنسي الآن رينيه والبريطاني - الأميركي ألفرد هيتشكوك والبولندي أندريه فايدا وملوك السينما الصامتة الألماني مورناو والأميركيين باستر كيتون وشابلن والفرنسي آبل غانس).

الغاية المرصودة هنا هو تقديم مسيرة السينما في التاريخ الإنساني عبر اختيار مائة فيلم كل منها تقدم بها خطوة إلى الأمام على الأقل. وسواء تحدث عن «الجنرال» لباستر كيتون (1926) أو عن «لورنس العرب» لديفيد لين (1962) فإن المنهج العام يربط بين اختياراته جيدا. كل واحد من الأفلام المنتقاة هو أبعد من أن يكون اختيارا قائم على الإعجاب وحده، فهو أساسا، وكما تغذيه نفحة العمل بأسره، قائم على عنصري التقدير لدور الفيلم في تغذية ذلك العصب المكون لتاريخ السينما، ثم الإعجاب لنجاحه في هذه الغاية تحديدا.

* قلق العواطف

ما يجده الناقد من قضايا وملامح (في المضمون كما في الشكل) معزز عنده، بالمعلومات الخلفية التي يرصدها لكي يتداولها القارئ، كما يذكرنا بأن المعرفة تلعب دورها الكبير فيما يضعه الكاتب على الورق، وهو صاحب كتاباته في زاويته اليومية «ألف وجه لألف عام» التي انتقى منها غالبية مواد الكتاب، إذ يكتب ليؤرخ كما يكتب ليساهم في حركة الإنسان العربي الثقافية وينجح في الغايتين.

القراءة قد تختلف، لكنها قد تلتقي أيضا بين ناقد وآخر. يذكر الزميل في غضون عرضه لفيلم «لمسة الشر» لأورسن ولز (1958) أن الناس في معظم أفلام المخرج ولز «يقعون في نهاية الأمر ضحية لرغبتهم العارمة في النهل من السلطة التي تعطى لهم ويقعون ضحية لذلك في النهاية»، ولا أدق. حتى عندما قام ولز بإخراج «عطيل» (1952) فإن الجانب الذي استهواه في مسرحية ويليام شكسبير، لجانب موضوع الغيرة العاطفية، كان شاغل عطيل لممارسة سلطته كاملة ولو عن إدراك بأن ذلك الهوس مجاز كونه، بسمرته الأفريقية، لا يزال غريبا بين أترابه.

الاختلاف حين يوجد، نراه ينبع عادة من صميم رغبة المخرج في إثارة القراءات ذاتها، كما الحال في فيلم مايكل أنجلو أنطونيوني «المغامرة» الوارد في هذا الكتاب. عند العريس يتحدث الفيلم «أصلا عن العواطف وعن الحب وعن الإخفاق»، لكن بذات المستوى يتحدث عن الطينة الاجتماعية القلقة التي تفرز هذه العواطف أو سلبياتها. أحيانا ما نجد الحاجة لتمحيص بعض التفاصيل: تشارلي شابلن في «أزمنة معاصرة» (1936) لم ينتزع من خلفية الشاحنة التي مرت به علم التحذير (الأحمر) كما يكتب المؤلف، بل سقط منها فالتقطه وحاول الركض وراء الشاحنة ملوحا به. طبعا ما يلي ذلك نتيجة فنية وفكرية رائعة والمؤلف يدلف إلى ذلك، إذ تصل إلى شابلن مظاهرة عمالية كبيرة، بينما هو يلوح بتلك الراية (المفترض أنها حمراء ولو أن الفيلم بالأبيض والأسود) ما يجعله يبدو، لرجال البوليس كما للمشاهدين، كما لو أنه يقود فعلا تلك المظاهرة.

لقد صدرت كتب سينمائية عربية كثيرة (لكنها ليست أكثر مما يجب) في العام الماضي، معظمها لا يستحق المداد الذي سطر به والقليل الباقي لا يصل إلى قيمة وجهد هذا العمل الذي، وبلغة التقييم الفيلمية، يستحق خمسة نجوم.