فرنسا.. من التطرف الأصولي إلى العلماني

منذ قانون 1905 أصبح رجال الدين متفرغين للشؤون الدينية والروحية

فولتير - ديكارت
TT

ابتدأ القادة الفرنسيون يطالبون المسلمين بالتحلحل والتحرك ضد التيار الجهادي المتطرف الذي أصبح يمثل مشكلة عظمى بالنسبة للمجتمع الفرنسي. نقول ذلك وبخاصة بعد كل ما حصل مؤخرا من أحداث جسام هزت فرنسا. لنتفق على الأمور منذ البداية: جاليتنا العربية الإسلامية في أغلبيتها وسطية معتدلة تحترم القانون وليست مسؤولة عما حصل من اعتداءات آثمة على مجلة «شارلي إيبدو». إنها طيبة، عاملة، متواضعة، تسعى إلى لقمة عيشها وتربية أطفالها ونجاحهم في الحياة كبقية البشر. إنها من أعظم الجاليات وأشرفها وأكثرها مكارم أخلاق. ولكن هناك أقلية متطرفة داخلها وهي التي ستجر عليها الويلات والشبهات للأسف الشديد. في كل الأحوال فإن رؤساء الجالية الذين نددوا بالاعتداءات الدموية الأخيرة مضطرون لإجراء تغييرات واتخاذ قرارات بغية مصالحة الإسلام مع الحداثة والدولة العلمانية الديمقراطية. ولكن ذلك سيكون عسيرا ولن ينجح بين عشية وضحاها. يخطئ من يظن أن هذه هي المواجهة الأولى لفرنسا مع الأصولية التوتاليتارية الإرهابية. للدلالة على ذلك يكفي أن نستعرض هنا قصة الصراع الذي جرى بين الدولة الفرنسية وأصوليتها الخاصة بالذات: أي الأصولية المسيحية الكاثوليكية. ومعلوم أن المذهب الكاثوليكي يشكل أغلبية الشعب الفرنسي تاريخيا، أي بنسبة 90 في المائة. ولذلك فإن الصراع كان ضاريا بين الطرفين العلماني والكاثوليكي على مدار مائة و50 سنة قبل أن يصل إلى حل معقول عام 1905 عندما صدر قانون فصل الكنيسة عن الدولة، بمعنى لا يحق للكنيسة أن تتدخل في الشؤون السياسية بعد اليوم، ولا يحق للدولة أن تتدخل في الشؤون الدينية. فللسياسة رجالها وللدين رجاله ومن مصلحة الجميع أن يعرف كل طرف حدوده وينشغل بمهامه. ولكن رجال الدين المسيحيين لم يقبلوا بهذا القانون عن طيبة خاطر، وإنما قاوموه زمنا طويلا قبل أن يستسلموا له، بل ويجدون فيه فوائد جمة لمصلحتهم. فقد أصبحوا متفرغين للشؤون الدينية والروحية ومرتاحين من تحمل عبء الشؤون الدنيوية والسياسية. ما عاد الدين يتلوث بكل شاردة وواردة.

لنلقِ نظرة إذن على التيار الكاثوليكي المسيحي الذي حاربته الثورة الفرنسية والجمهورية الوليدة منذ عام 1789. فنحن نجد مثلا أن الحكومة العلمانية الفرنسية سنت الكثير من القوانين المضادة للحزب الأصولي الكاثوليكي بين عامي 1901 ـ 1904. وهي قوانين منعت رجال الدين من ممارسة التعليم في المدارس الفرنسية لأن عقليتهم أصولية تبث سموم المذهبية والطائفية وتحدث الفرقة بين أبناء الشعب الواحد والمتعدد في آن. كما صادرت الدولة أملاك الجمعيات الرهبانية وطردت ما لا يقل عن 30 ألف راهب وراهبة، فاضطروا للذهاب إلى الخارج والعيش في المنفى (غالبا في بلجيكا المجاورة).

وفي أثناء الفترة نفسها أغلقت الحكومة العلمانية الفرنسية 14 ألف مدرسة دينية كاثوليكية، كما ضاعفت من المراقبة والتضييق على طبقة الإكليروس أو رجال الدين المسيحي. ثم عاقبت الضباط الذين يذهبون إلى الكنيسة يوم الأحد لأداء القداس الكاثوليكي باعتبار أنهم رجعيون! وأخرت من ترفيعهم في الرتب العسكرية.

ولكن ينبغي ألا ننسى أن الكنيسة الكاثوليكية ذاتها كانت قد مارست القمع الفكري على الناس طيلة العهد القديم السابق على الثورة الفرنسية. فقد كانت تسيطر على نظام التعليم سيطرة كاملة وتمنع حرية الفكر والضمير والمعتقد على كل أراضي المملكة الفرنسية. وكانت تضطهد أتباع المذهب البروتستانتي وتقتلهم وتشردهم في شتى أنحاء العالم أو تجعلهم يعيشون غرباء في وطنهم. وهذا شيء ينبغي ألا ننساه أو نتناساه أبدا. وبالتالي فقد نالت جزاءها بعد الثورة التنويرية.

كما ينبغي ألا ننسى محاكم التفتيش سيئة الذكر، حيث لاحقت الكنيسة الكاثوليكية العلماء والمفكرين، بل وحتى الناس العاديين، وقتلت منهم الكثير أو حرقتهم حرقا، ويقدر عددهم بعشرات أو مئات الألوف. كما وحرمت تداول كتب الفلاسفة من أمثال ديكارت، وغاليليو، ومالبرانش، وسبينوزا، وفولتير.. إلخ. واعتبرتها مهرطقة، مزندقة.. وكفّرت العلماء والمثقفين وأطلقت الفتاوى في حقهم وأباحت دماءهم ففروا إلى المنافي البعيدة أو نزلوا تحت الأرض!

وبالتالي فلا ينبغي أن نستغرب رد الفعل العنيف على الكنيسة الكاثوليكية بعد اندلاع الثورة الفرنسية وانتصار نظام الحداثة العلمانية. فهذا الشيء كان متوقعا بعد مرور قرون كثيرة على تحكم رجال الدين برقاب الناس وضمائرهم. لقد أرعبوا الناس رعبا كما يفعل الداعشيون عندنا حاليا. ولذا أثأروا موجة عارمة من الغضب ضدهم. وهو نفس رد الفعل الذي نشهده حاليا على تيار الأصولية الإسلامية. وبالتالي فما أشبه الليلة بالبارحة!

لماذا نقول ذلك؟ بغية توضيح الصورة أولا عن طريق المقارنة. فإذا كانت فرنسا قد رفضت أصوليتها الخاصة بالذات فإنها لن تقبل بأصولية أخرى وافدة عليها من الخارج. هذه نقطة. وأما النقطة الثانية فإننا نريد الرد على التيار المحافظ الفرنسي الذي ركز كل جهوده في السنوات الأخيرة على نقد أعداء الكنيسة الكاثوليكية. فهو يقول مثلا إن فرنسا احتفلت قبل بضع سنوات بمرور مائة عام على تأسيس النظام المدني العلماني وفصل الكنيسة عن الدولة 1905ـ 2005. وهذا صحيح. وهو يستغل هذه المناسبة لتصفية حساباته مع مؤسسي هذا النظام الجديد الذي حل محل النظام الكاثوليكي القديم الذي كان قد سيطر على فرنسا طيلة 18 قرنا. انظر قصة الانتقال من الدولة الدينية الثيوقراطية إلى الدولة المدنية الحديثة. وهي قصة تلخص تاريخ الحداثة كلها.

لا ريب في أن الأحزاب السياسية التي حكمت فرنسا بين عامي 1789 ـ 1914 كانت معادية لرجال الدين، وقد أزاحت الكاثوليكيين عن المراكز الرئيسية للسلطة، وفرضت قانون العلمنة فرضا على الشعب الفرنسي دون أي تفاوض أو استشارة سابقة مع الكنيسة الكاثوليكية التي تشكل أغلبية سكان البلاد كما ذكرنا.

والواقع أن العلمانيين كانوا يريدون القضاء على الأصولية المسيحية البابوية في البلاد. وقد نجحوا في مشروعهم إلى حد كبير بدليل أن القانون المدني (أو قانون نابليون) حل محل القانون الكنسي أو الشريعة المسيحية. ويقال إن نابليون كان يفتخر بذلك في أواخر أيامه وهو منفي في جزيرة سانت هيلانة الشهيرة ويقول: هذا ما سيتبقى مني على مدار التاريخ. بل وحتى المحافظون أصبحوا يعترفون بإيجابيات قانون العلمنة أو فصل الكنيسة عن الدولة رغم كل معارضتهم السابقة له واتهامهم للعلمانيين بالكفر ومعاداة الدين. والحال أن القانون المدني ترسخ الآن في فرنسا ولم يعد أحد يفكر في التراجع عنه. ولكن هذا لا يعني أن المناقشة انتهت أو أغلقت كليا. فبعد العلمانية الحامية التي تشكلت في القرن الـ19 كرد فعل على الأصولية الحامية أصبحوا يفكرون الآن ببلورة علمانية جديدة متصالحة مع الدين لا معادية له. فالأصولية المسيحية أصبحت ضعيفة جدا في فرنسا إن لم تكن معدومة، وبالتالي فلا داعي لمحاربة طواحين الهواء. والإيمان إذا كان مستنيرا لا يشكل خطرا على العلمانية أو الدولة المدنية. بالعكس، تماما فإنه يخلع عليها قيما أخلاقية وروحانية لا تقدر بثمن.

ولكن نلاحظ أن الإيمان كقيمة عليا بحد ذاتها لم يعد له أي وجود بالنسبة للشبيبة الفرنسية. ونلاحظ أيضا أن مسؤولي البرامج التلفزيونية لا يدعون المثقفين الكاثوليكيين إلى المشاركة في البرامج، وإذا ما دعوهم فإنهم يهاجمونهم أو يضحكون عليهم أو يتخذونهم ككبش فداء. وعندما تعلن إحدى القنوات أنها ستتحدث عن الدين فإن ذلك يعني أنها تريد مهاجمة الدين واللاهوت المسيحي بتهمة الرجعية. ولا تسمح للمثقفين الكاثوليكيين بالرد على هذا الهجوم! وهكذا انتقلنا من النقيض إلى النقيض: من تطرف إلى تطرف آخر، من تطرف أصولي كاثوليكي إلى تطرف علماني ناهيك بالإلحادي.

وهناك برامج ساخرة كثيرة لا تتردد عن الاستهزاء بالبابا والعقائد المسيحية على هواها. بل وتنكر حتى وجود المسيح تاريخيا. وتقول إنه مجرد أسطورة لا حقيقة واقعة. ولكنها لا تتجرأ على أن تفعل الشيء نفسه مع الأديان الأخرى كالإسلام واليهودية حتى ظهرت مجلة «شارلي إيبدو» مؤخرا ودفعت الثمن غاليا.. وعموما أصبح الجهل بالثقافة المسيحية عاما شاملا في فرنسا. فطالب الثانوية يمكن أن ينال البكالوريا من دون أن يعرف أي شيء عن الإنجيل أو عن يسوع المسيح أو عن دين آبائه وأجداده. ولكن الاستهزاء بالإسلام أصبح موضة رائجة في السنوات الأخيرة. وتصاعدت موجة الإسلاموفوبيا بشكل مقلق. ويخشى أن تزداد أضعافا مضاعفة في الأيام المقبلة ليس فقط في فرنسا، وإنما في كل أنحاء أوروبا. وهنا أقول لهم مع إدانتي الكاملة للمجزرة التي حصلت مؤخرا في عاصمة النور: على مهلكم يا سادة العالم، يا متطورون، يا حضاريون! خذونا بحلمكم! فالمسلمون لا يستطيعون أن يستوعبوا بين عشية وضحاها طفرات فلسفية وعلمية وسياسية هائلة كان قد استغرق استيعابها من المسيحيين الأوروبيين مدة مائتي سنة على الأقل. أقصد مائتي سنة من الصراعات الفكرية والمواجهات السياسية والتفاعلات الجدلية الخلاقة.