نصوص سردية تلعب على وتر معاناة المرأة في مجتمع ذكوري

الفكرة وجدلها في كتاب «أوهام شرقية» للمصرية هناء نور

غلاف الكتاب
TT

تهرب الكاتبة المصرية الشابة هناء نور برشاقة من المواضعات التقليدية لتصنيف النوع الأدبي، في كتابها «أوهام شرقية»، الصادر حديثا عن دار النسيم بالقاهرة، مشبهة ما تكتبه في أحد نصوصها بتحليق الطائر، وأنه لا يعي ما يفعله، ولا يهمه ذلك. لكن، أيا كان الأمر، فالطائر ليس معنيا بالأمر، إنها خبرة البشر واللغة والحياة، هي التي قالت: «إنه يطير، إنه يحلق، إذن لا بد من تسمية الأشياء، حتى نعرف كيف نفهمهما، كيف نحبها أو نكرهها، ولا تظل نقطة فارغة في فضاء العدم».

يلعب الكتاب على وتر قضايا المرأة الشائكة في مجتمع شرقي ذكوري، ومدى ما تعانيه من إقصاء وتهميش لدورها في المجتمع والحياة، ويتخذ من «سرد الفكرة» محاولة لإبراز هذه المعانة، بصيغ وأشكال أدبية متنوعة، يختلط فيها نفس قصيدة النثر، بكتابة الخاطرة، واللقطة العابرة السريعة. وتوسع الكاتبة من صيغة المخاطب، فهو: الأب وإلام، العاشق الحبيب، الصديق، الإنسان العادي، وتتقاطع معه، في سياق الهم العاطفي الخاص والهم العام. ومن ثم فالآخر، هو محض فكرة، تتبدى فعاليته في شكل العلاقة مع الذات الساردة، وفي إطار الفكرة نفسها، ويعلق في هذا الإطار ملامح من سيرة الذات في المكان، وتساؤلاتها حول الزمن وحقائق التاريخ والأشياء.

وما بين هذين المقومين، السرد والفكرة، تتبدى جوانب السلب والإيجاب في نصوص الكتاب، المتفاوتة في بنيتها، حيث تأتي أحيانا في شكل الومضة القصيرة التي لا تتجاوز بضعة أسطر، وأحيانا في شكل نص يطول نسبيا. وهو ما يستدعي أن يكون النص بمثابة مرآة، تنعكس عليها هموم الذات الساردة، بكل ثقلها وخفتها، فهناك لحظات عابرة، لا يبقى منها شيء على مسطح الورقة، اللهم مزاحمتها البياض بشكل مؤقت، وهناك لحظات مقيمة، يتناسل وخزها، من نص إلى آخر.. اللحظات الأولى العابرة، تتسم بطابع الرتوش، وهي تنحصر دوما في مشاغبة فكرة الآخر من زاوية محددة وخاطفة، غالبا ما تنحصر في ذكرى ما، هدية، أمنية ما، نظرة ما، وهي كلها رتوش وأشياء عادية بسيطة، فعلى سبيل المثال تقول: «أغار من كتاب تقرأه بحب، فأتمنى. لو كنت حرفا من سطر فيه». وأيضا تتساءل: «ألا يوجد جرّاح تجميل، لعلاج تشوّهات الروح. من آلامِ السنين؟»

لكن الطابع التقريري الإنشائي، جعل هذه النصوص تبدو كنوع من تسجيل الموقف أو الخاطرة، مفتقدة التأمل العميق والتقصي والحفر، ومحاولة الإمساك بمساقط أخرى لتجليات الفكرة نفسها في تجاويف الوجود الإنساني.

وفي النصوص الطويلة نسبيا، تحاول الكاتبة تنمية فعل السرد، فتطعمه أحيانا بنتف من حيل المفارقة والتناص، تبرز في تماثلات من القصص القرآني، وسير الأنبياء كقصة يوسف، وجلال الدين الرومي، وشمس التبريزي، وآدم وحواء وإبليس.. ومحمود درويش، وغيرهم. الأمر الذي يمنح الفكرة مساحة من التنوع، ويبدو حس الحكي سلسا، لا يفصل واقع الفكرة في النص، عن إمكانية تمثلها على أرض الواقع.. ففكرة الحب رغم تشابكها مع الواقع المادي المعيش، فإن رحمها الأساس هو الكائن البشري روحا وجسدا، وكذلك فكرة الحرية، لا جدوى لها على أرض الواقع، إن لم تحرر الجسد والروح، من قيودهما وتعارضاتهما، على مستوى العاطفة والرغبة والحلم والواقع، وكذلك فكرة الإيمان وغيرها، مما تومض به النصوص، وتطرحه بعفوية، تصل إلى حد البداهة أحيانا، حتى تبدو الفكرة مغمورة بسلاسة في مياه السرد.. ففي نص بعنوان «قوس قزح» يتحول الحوار بين الذات الساردة (الكاتبة) والرسام، إلى نوع من المكاشفة، تذهب أبعد من ملامح بورتريه عابر، ليصبح فعلا الرسم والفكرة، وكأنهما لوحة للوجود، في سقفه الأعلى والأتقى والمباغت، في سقف قوس قزح.

تقول الكاتبة:

«قال لي صديقي الرسام:

سأرسم لك لوحة

فضحكت قائلة على سبيل المزاح:

احذر أن ترسمني أجمل مني

فقال لي:

سأرسُمك كما أراك ِ

فقلت بشيء من الأسى والاستسلام:

حسنا، لكن.. رجاء:

اجعل ألوان الصورةِ بالأبيض والأسود

فبهذين اللونين أرى الحياة

وبين هذين اللونين..

وضعني القدر

فأطال النظر إلى في صمت ثم تنهد وقال:

حسنا.. سأرسمكِ بالأبيض والأسود

ولكن اتجاه النظر سيكون

نحو قوس قزح».

وجه آخر من وجوه الفكرة تنفتح عليه النصوص بطرافة وحميمية، حيث توظف الكاتبة معادلة الأرقام، في استجلاء جوانب خفية في البشر والعناصر والأشياء، كما في نص عنوانه «1003»، تعدد فيه ثمن الماكياج، التي تتخفى وراءه، لتعري ازدواجية الداخل والخارج، ازدواجية القناع والممثل، وفي سياق سردي ساخر، موجه إلى الطرف الآخر، الرجل، ويشير النص ضمنيا، إلى قضية لافتة، وهي أن الحقيقة لا تعني بالضرورة ظلها ولا يمكن أن تتخفى فيه، تماما مثل ماكياج المرأة، فمن دونه لن ينقص شيء من ملامحها، إنها مجرد غطاء، مجرد قشرة، لجلب إحساس عابر بطمأنينة الجمال.. كما نلمح نفس الشعر، في نص تلعب فيه على تيمة الحرف، فتشبه الألف بالأم، والباء بالبحر، والكاف بفعل الكينونة في شقه الإلهي المقدس، أيضا تدفع هذا الملح في استكناه جوانب غير مرئية، أو غير مألوفة للفكرة، في نص آخر بعنوان «تعريف اللص»، حيث تصبح اللصوصية، ليست فقط معادلا للسرقة بالمعني الدارج، بل معادلا لانتهاك فعل الحرية نفسه.

ورغم أن الكاتبة لا تكف على مدار نصوص الكتاب عن مساءلة الفكرة، حتى في أقصى لحظات الشك والتمرد وعلى الذات والآخر،، فإن الوقوع أحيانا في براثن إسداء النصح، على سبيل الحكمة، أو الإقرار بيقين ما كعيار للخطأ والصواب، للوهم والحقيقة، للشرف والعهر، للرجولة والخسة، جر فعالية الفكرة، وجدلها الإنساني الرخو إلى عتبة الوعظ والخطابة بمعيار أخلاقي بارد.. أضف إلى ذلك أن الانحياز لـ«الفكرة» المجردة من غواية الخيال، كثيرا ما حد من قوة الفكرة نفسها، وأوقعها في المعتاد والمألوف. يعضد ذلك أن الكاتبة تتعامل مع الأشياء والعناصر والقيم، وكأنها حقائق مجردة، مكتفية بذاتها، لذلك كثيرا ما تظل الأشياء في النصوص محض وسائط لغوية للتعبير، لا تنحرف عن حيواتها العادية الشائعة، وتراتبها المنطقي المباشر، فالممحاة للإزالة، والمطر للري، والنار للدفء، والعصفور للتحليق، وهو ما يجعل الفكرة مقيدة في فلك هذا التراتب، بعيدا عن علاقاتها الخاصة المتغيرة مع الأشياء.