صور تزوّر الحقيقة

تأثيرها لا يقل خطورة عن تزوير الوثائق

صورة نشرتها مجلة «دير شبيغل» الألمانية لإطلاق صواريخ إيرانية، واعترفت المجلة بعد ذلك أن الصورة مزورة
TT

على مر التاريخ تم تزوير وثائق مهمة جدا ظلت لسنوات طويلة ينظر إليها وكأنها حقيقية إلى أن كشف أمرها. من هذه الوثائق قصة تزوير مذكرات أدولف هتلر على يد كونراد كوجاو أشهر مزور ألماني في العالم الذي أقنع إدارة مجلة «شتيرن» عام 1983 بأنه يملك مذكرات هتلر الأصلية وبالفعل قبض مقابل بيعه المذكرات لهذه المجلة ونشرها أكثر من 9 ملايين مارك ألماني إلا أن الشكوك التي حامت حول حقيقة المذكرات دفعت المكتب الاتحادي الجنائي لإجراء تحريات والكشف عن الحقيقة. فتقليد المزور لخط هتلر كان من المستحيل كشفه لكن نوع الورق الذي كتبت عليه المذكرات فضحه وكانت صناعة في الثمانينات وليس الثلاثينات وهو التاريخ الذي ادعى كوجاو أن هتلر قد كتب مذكراته خلاله.

والمشكلة أن المذكرات بيعت بسرعة بالملايين فأصبحت كالمرجع المقدس للذين كانوا ما زالوا مقتنعين بالفكر النازي وأجج مشاعرهم، وهذا شكل خطرا على ألمانيا من إيقاظ الفكر النازي. وتمكن المزور كوجاو من تزوير 62 مجلدا، الكثير من الأعداد ما زال بين الأيدي رغم مصادرة معظمها، وتعتبر اليوم لبعض هواة جمع الوثائق وثائق غير عادية، وللنازيين من الوثائق النادرة، ووجدت لها طريقا إلى كل أنحاء العالم.

وتزوير الصور لا يقل خطورة عن تزوير الوثائق، لأنها تتحدث في الكثير من الأحيان أكثر من النص المكتوب، ففي كل زاوية منها تفاصيل أكثر دقة تراها العين وليست بحاجة إلى تفسير أو شرح، وهذا سبب تغييرا حتى في مجرى تاريخ بعض البلدان لذا اهتمت مجموعة من المصورين الأوروبيين بقضية تزوير الصور وأقامت معرضا متنقلا بعنوان «صور تكذب» يضم أكثر من 300 صورة. جال المعرض في البداية مدينة بون الألمانية ثم مدينة برن السويسرية وسوف يعرض في مدن أخرى بعد أن جمعت المئات من صوره في كتيب.

وتأثير الصور يدفع إلى القول: «إن من يملك صورا يملك سلطة». فالصورة المزورة خاصة إذا كانت معبرة بإمكانها أن تتلاعب بمشاعر ومفاهيم الإنسان بالتأثر بها أو التأثير عليه، وهذا دفع أنظمة ديكتاتورية لاستغلال تزوير الصور لمآرب معينة، فهي لعبت دورا كبير في الثورات الشعبية في الماضي أو في الحروب. فعلى سبيل المثال غيرت الصور المزورة الكثير من مفاهيم ما سمي بربيع براغ في جمهوريات تشيكوسلوفاكيا سابقا، حيث أزيل كل من سمركوفسكي وسفوبودا من صورة الاحتفالات بهذه المناسبة عام 1968 وكانا يقفان إلى جانب رئيس الحزب ألكسندر دوبتشيك فأزيل خوفا من أن تذكر الصورة بأفكارهما الإصلاحية المعارضة للحزب وللرئيس، واختفيا تماما بعد ذلك من أدبيات الحزب.

ومن صور الحرب العالمية الأولى المزورة واحدة تحت عنوان «موت في الجو» ونشرت عام 1933 وهي لطائرة تهوي بعد اندلاع النار فيها نتيجة إصابتها بقذيفة يابانية، لكن اتضح عام 1994 أنها كانت لعبة يمكن تحريكها من الأرض صنعها أحد مصانع اللعب الأميركية. كما استغلت الصور المزورة في الحرب الأهلية الأميركية لأهداف دعائية ولتعميق العداء بين الجنوب والشمال وبيعت هذه الصور بعد ذلك بأسعار خيالية كتذكار. وكرست النازية أفضل المزورين للدعائية وللترويج والتهويل وإقناع الناس بأن النصر لألمانيا، لذا كان لدى النازية ما يسمى وزارة الدعاية.

والصورة المشهورة جدا في العالم وتحولت إلى رمز لهزيمة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية تلك التي التقطت في الثاني من شهر مايو (أيار) 1945 تظهر جنديا سوفياتيا يرفع علم بلاده فوق قبة مبنى الرايخ تاغ (مجلس النواب الألماني)، لكن السوفيات تأخروا في التقاط الصورة فدخول الحلفاء إلى برلين وإحراق مجلس النواب كان في 30 أبريل (نيسان) 1945 فما كان من الجيش الأحمر إلا الادعاء بأنه يوم النصر، كما أزيلت من الصورة يد جندي كان يسند زميله الذي يرفع العلم لأنه كان يحمل في يده ساعات مسروقة، ومن أجل إكمال التزوير أضاف المزور دخانا داكنا يرتفع من المبنى مع أن الحرائق كانت قد أطفئت.

إلا أن تزوير الصور ليس وليد القرن العشرين بل قبل ذلك بكثير حتى أن مصادر تتحدث عن تزوير تم في أواسط القرن الـ19 لصور فوتوغرافية بالاستعانة بتقنيات بسيطة يومها وكانت إما مواد كيماوية أو إلصاق صورة فوق أخرى بالشكل المطلوب ثم إعادة تصويرها وهذا سمي «خدعا تصويرية».

لكن الأهم من كل ذلك هو تزوير الصور التاريخية بهدف صنع صورة لحقيقة معينة غير موجودة، إما سياسية وإما اجتماعية كما حصل في الثورة البلشفية أو الثورة الثقافية الصينية أو الحروب في أوروبا والعالم.

ويعتبر المصور الفوتوغرافي الفرنسي ايبولت بايار (1801-1887) أول مزور صور، ففي مارس (آذار) عام 1838 طور أول طريقة تزوير بنقل الصورة محمضة على الورق وبعد إدخال التزوير الذي يريده أعاد تصوير الصورة باستخدامه عدة صور غير محمضة إلى أن تصبح لديه الصورة المطلوبة وكأنها صورة أصلية.

وحسب تقدير علماء نفس فإن تزوير الصور لهدف سياسي يكون عادة جزءا من سياسة حكام يستغلون حقيقة أن الإنسان العادي يميل إلى المبالغة في تقدير مصداقية الصور، لذا فإن استخدامهم لهذه الصور من الأمور السهلة، خاصة إذا كان الإعلام يساهم في ذلك، وهذا حدث ويحدث في كل المجتمعات لمصالح أفراد أو جماعات معينة وهذا ما قام به مثلا ديكتاتوريون مثل ستالين الذي أسند مهمة تزوير جزء كبير مما التقط من الصور خلال وبعد ثورة الفلاحين في روسيا إلى أشهر المصورين المعروفين بالتزوير من أجل شطب معارضيه أو منافسيه، على سبيل المثال الثوري المجري تيبور ستامبولي من صورة كان يقف فيها خلف لينين. وتمكن المزور من صنع صورة، وكأن ستامبولي لم يكن في الصورة أصلا بعد أن أعاد المشهد الذي كان خلفه بكل تفاصيله، وكان هدف ستالين محو كل علاقة لهذا الثوري بالثورة البلشفية، وبهذا اختفى من تاريخ الثورة الروسية ولا يذكره أحد ومحيت كل علاقة له بها مع أنه كان من أبرز القياديين فيها.

ولم تسلم صور الثورة الصينية من التزوير بهدف تزوير ملامحها السياسية أيضا.

والصورة التي أخضعت للتزوير الأكثر نجاحا وظلت حقيقية حتى مطلع التسعينات في الصين هي صورة لماو تسي تونغ وهو يحفر لزرع شتلة شجرة بالقرب من سد مينغ ونشرت عام 1958 وإلى جانبه عمدة بكين بينغ تشاو، لكن عندما تسلم الأمانة العامة للحزب هويا غوينفونغ أقال عمدة بكين لخلاف سياسي معه وجرده من مناصبه وكان يجب أيضا أن يمحوه من كل الصور. ومن ينظر إلى الصورة اليوم لا يتصور أن شخصا قد اختفى منها، فالأشخاص.

ومن الصور الساخنة، تلك التي نشرتها عام 2011 صحيفة «تسوتونغ» التابعة للمجموعة اليهودية الحريديم أو الحريدية الأصولية. إنها صورة لأسامة بن لادن وهو مقتول، ويقال إنها حصلت على النسخة الأصلية قبل أن تنشر في الإعلام فقامت بتزويرها، حيث ظهرت إلى جانب الجثة وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون وامرأة أخرى محجبتين لأسباب دينية، إلا أن الصورة اختفت بدورها قبل أن تحدث أزمة بين تل أبيب والبيت الأبيض.

ومع أنه لا يعرفها شخصيا حسب قوله ظهرت صورة لوزير الخارجية الأميركي الحالي جون كيري، عندما كانت سيناتورا عن الحزب الديمقراطي، مع الممثلة جين فوندا في مظاهرة في نيويورك في 13 يونيو (حزيران) 1971، ضد الحرب الأميركية في فيتنام. وكان يقول إن صورة الممثلة تعود لتاريخ آخر وجمعها المصور الأميركي كان لايت بعد ذلك مع تاريخ العام الذي سبق ذكره.

والصورة التي زادت التوتر الشعبي في سويسرا هي تلك التي نشرتها الصحيفة السويسرية الصفراء «بليك» في نوفمبر عام 1997 لساحة معبد حتشبسوت في الأقصر، فقبل يوم شن متطرفون هجوما على مجموعة من السياح السويسريين وآخرين غربيين وقتلوا عددا منهم، إلا أن الصحافية أرادت المبالغة جدا، فصبغت ساحة المعبد بالأحمر وكأنه بركة من دم الضحايا، إضافة إلى وجود جنديين مصريين.

وكادت صور نشرتها مجلة «ديرشبيغل» الألمانية يوم 10 يوليو (تموز) 2008 لصواريخ قالت إنها لإيران وانتشرت كما البرق في كل وسائل الإعلام، وكادت تحرك السفن الأميركية في الخليج العربي، لكن المجلة اعترفت بعد ذلك بأن الصور مزورة وما أطلق ليس إلا صاروخين أحدهما تعطل قبل إطلاقه.

ولم يقتصر التلاعب بالصور على الأمور السياسية بل والمصلحة الشخصية أيضا، فالكل يذكر صورة الرئيس الفرنسي ساركوزي في صيف عام 2008 وهو يجدف مع ابنه في قارب، لكن ترهلا في بطنه ظهر واضحا، فطلب من الصحيفة التي نشرت الصورة إزالة هذا الترهل وكان ما أراده الرئيس فعاد بطنه مشدودا.

وفي محاولة منها للتصدي لتهمة الإخفاق في اكتشاف حياة فوق كوكب المريخ نشرت «التايمز» الأميركية صورة نقلتها صحيفة «بيلد» الألمانية يوم 23 يناير (كانون الثاني) 2008 قالت إنها من وكالة ناسا فيها شيء كما لو كان كائنا بشريا فوق رمال حمراء ومرتفعات، مع عنوان «هل هناك حياة فوق المريخ»؟ وكانت هذه الرحلة قد كلفت أكثر من 600 مليون يورو وظلت تبحث لنحو 4 أعوام عما يدل على وجود حياة. وكان هدف التزوير مواصلة حصول ناسا على تمويل لاكتشاف المريخ.

والصورة التي كادت تباع بثمن مرتفع أرسلها أحد الشبان الألمان من شرفة شقة تقع أمام المركز التجاري في نيويورك، في 11 سبتمبر (أيلول) 2001 تظهر طائرة ادعى الشاب أنها إحدى الطائرتين في طريقها لاختراق أحد الأبراج، لكن بعد تفحص الصورة اتضح أن الطائرة كانت بوينغ 767 وليست 757 أي أن الشاب استعان بصورة الطائرة الخطأ من أجل حيلته ففشلت محاولته في الحصول على بضعة آلاف من الدولارات من إحدى الصحف الألمانية.

وفي مطلع فبراير (شباط) 2005 عرضت محطة التلفزيون الأميركية «سي إن إن» صورة لجندي أميركي بكامل ملابسه ومعداته العسكرية قالت إنها نشرت على موقع لمجموعة إسلامية متطرفة وبأنه مخطوف لديها وهو يجلس أرضا وقد صوبت إليه فوهة بندقية. وحسب قول المحطة كان الجندي في مهمة بالعراق، لكن اتضح فيما بعد أن الصورة للعبة بملابس جندي أميركي صنعتها شركة «دراغون موديل يو إس إي» وأنتجت هذا النموذج عام 2003 وأطلقت عليه اسم «كودي» وكانت الأخطاء كثيرة أيضا، سواء فيما يتعلق بالسروال أو القميص العسكري أو لون التنكر. لكن الصورة انتشرت رغم الأخطاء فيها.

ولا داعي للحديث كثيرا عن الصورة المزورة للحرب العراقية ضد الكويت، فإلى جانب آبار البترول التي زورت صورها وبأنها تحترق ولا مجال لإطفائها شنت منظمات حماية البيئة حملة شديدة اللهجة ضد بغداد بعد إظهار مصورين طيورا نافقة ومغموسة بالنفط وبأنها مهددة بالانقراض إذا ما لم يتم إنقاذها لكن اتضح بعد ذلك أن الصور لطيور في مناطق لا علاقة لها لا بآبار النفط ولا بالحرب العراقية الكويتية.

ونشرت صحيفة «لوس أنجليس تايمز» يوم 31 مارس 2003 خلال الحرب ضد العراق صورا غير متقنة التزوير منها صور التقطها المصور براين فالسكي في البصرة جنوب العراق نشرتها الصحيفة بسرعة وتظهر هاربين عراقيين، لكن من يدقق في الصورة يرى أن بعض الأشخاص ظهروا في الصور مرتين، وهذا ما اعترف به المصور وقال إنه دمج صورتين مستفيدا من تقنية الكومبيوتر من أجل الإثارة. وعقب الإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين نشرت صحيفة «بيلد» الألمانية صورة لجموع غفيرة متجمعة في ساحة ببغداد من أجل تحطيم تمثاله لكن المصور اعترف بعد ذلك بأن القليل من العراقيين تجمهروا وهو أضاف بضع عشرات كي تكون الصورة ذات قيمة تاريخية. وهذا التزوير يعتمده مصورون عند التقاط صور لمظاهرات، خاصة في الصين.

والصورتان اللتان أثارتا الاستياء خلال الحرب في العراق هي لجندي أميركي يروي عطش جندي عراقي في الأسر، ففي واحدة يقدم له الماء من دون تصويب البندقية على رأسه وفي الأخرى يصوب البندقية، ولكن حتى الآن لم تعرف الصورة الحقيقية كما تقول أرسولا دامين التي أشرفت على تنظيم معرض «صور تكذب» عندما كان في بون.

واضطر البيت الأبيض إلى سحب صورة للرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش في موقع للإنترنت وإصلاحها بالتزوير وتظهره في إحدى المدارس وهو يقرأ في كتاب للأطفال بالقرب من تلميذة صغيرة، والمضحك أن الرئيس كان يحمل الكتاب بالمقلوب.