وصية شاعر ألماني إلى شاعرة روسية

هانا آراندت تتحدث عن أودن، وعلاقة حب مستحيلة بين ريلكه ومارينا تزفيتاييفا

TT

في نص بديع عن اودن كتبته عشية وفاته في 21 سبتمبر (ايلول) 1973، تقول الفيلسوفة الالمانية اليهودية الاصل هانا آراندت: «التقيت باودن في وقت متأخر من حياته وحياتي، في سن لم تعد فيها مقبولة تلك الحميمية السهلة والبدهية، ذلك انه لم يعد هناك ما يكفي من الوقت للحياة، او لم يتبق منه ما يمكن ان يتقاسم مع الآخرين. وهكذا كنا صديقين جيدين، دون ان نكون صديقين حميمين، بالاضافة الى هذا، كان له تحفظ يحبط التلقائية. وهذه التلقائية قدرتها عن طواعية ذلك اني اعتقد انها ضرورية للشاعر الكبير الذي فرض على نفسه ان يكون منذ فترة الشباب».

وتضيف هانا آراندت قائلة: «التقيت باودن في خريف 1958 غير اني لمحته قبل ذلك، وتحديدا في نهاية الاربعينات خلال حفل اقامه احد الناشرين، ورغم اننا لم نتبادل ولو كلمة واحدة خلال تلك المناسبة، فانني احتفظت منه بذكرى محددة، ذكرى «جنتلمان» جذاب، جد انيق، جد انجليزي، ودود ومطمئن البال. عقب مرور عشر سنوات على ذلك، لم اتمكن من التعرف عليه ذلك ان وجهه وسم بتلك التجاعيد الشهيرة العميقة، فكما لو ان الحياة نفسها رسمت نوعا من المشهد لكي تجعل اكثر وضوحا «الهيجانات اللامرئية للقلب».. (...). ولم يكن من السهل عليّ ان افهم لماذا كان جد بائس وعاجز عن معالجة الظروف اللامعقولة التي كانت تجعل حياته اليومية غير محتملة. ولا اعتقد ان ذلك كان بسبب عدم الشهرة. فقد كان في ذلك الوقت مشهورا الى حد ما. ثم ان الطموح الى الشهرة لم يكن يعني له شيئا ذلك انه كان الاقل زهوا بنفسه من بين الكتاب الذين تعرفت عليهم. وكان جد محصن ضد الغرور العادي. ليس لانه كان متواضعا وانما لانه كان شديد الثقة بنفسه.

فلقد ذكر احدهم انه لما كان على اهبة التخرج في جامعة اكسفورد سأله استاذه «وانت ماذا تنوي ان تفعل يا سيد اودن بعد ان تغادر الجامعة؟» فرد هو على الفور «سأكون شاعرا!» فعقب الاستاذ على ذلك قائلا: «اذن في مثل هذه الحالة، سيكون من المفيد لك ان تدرس الادب الانجليزي!» وكان جواب اودن على هذا التعقيب: «انت لم تفهم يا جناب الاستاذ. سأكون شاعرا كبيرا».

ويقول الناقد المرموق ستيفان سبندر الذي كان صديقا كبيرا له ان الحب كان القيمة الرئيسية في مجمل اعمال اودن واذا ما كان ديكارت قد قال ذات يوم: «انا افكر، فانا موجود» فإن اودن كان بامكانه ان يقول: «انا محبوب فانا موجود» وترى هانا آراندت ان ستيفان سبندر كان محقا في رأيه هذا وتقول «إن اودن كان مختصا في تلك الوجوه اللامتناهية للحب، وما كان يجعله شاعرا بالمعنى الحقيقي للكلمة هو حبه الخارق للكلمات وقدرته الفائقة على استعمال كل واحدة منها في المكان الخاص بها».

* بين ريلكه ومارينا تزفيتاييفا

* عن منشورات الجمل بألمانيا صدر مطلع الخريف الماضي، كتاب صغير احتوى على وصية الشاعر الالماني الكبير راينار رانيا ريلكه وعلى رسائل تبادلها مع الشاعرة الروسية مارينا تزفيتاييفا في الايام الاخيرة من حياته. وقد جاءت الترجمة التي انجزها الكاتب اللبناني شربل داغر غاية في العذوبة والدقة بحيث تمكن القارئ من الحصول على متعة حقيقية وتخول له الغوص في اعماق شاعرين من اهم شعراء القرن العشرين، ومن اكثرهم التصاقا بالتجربة الوجودية للكائن الانساني في ابعادها السيكولوجية والميتافيزيقية والفلسفية.

كان ريلكه منهمكا في انهاء «مراثي دينو» التي كتبها على ضفاف البحر الادرياتيكي، عندما اندلعت الحرب الكونية الاولى، وفي الحين ضمرت طاقته الابداعية، وجف رحيق الشعر فيه، فانصرف عن الكتابة وهو في حالة من القنوط واليأس الشديد وسوف يرسم في نص جد مكثف حمل عنوان «الوصية» ولم يصدر إلا عام 1974، تلك المرحلة العقيمة من حياته. ومستعملا ضمير الغائب يكتب عن نفسه قائلا: «علينا ان نلقي نظرة الى الخلف، حتى صيف العام الرابع عشر، لكي نفهم حالته عقب الشتاء هذا. الحرب المشؤومة شوهت العالم لاجيال عديدة قادمة، ومنعته من الالتحاق مجددا بالمدينة النادرة التي يعود اليها اجود عطائه. تبدأ مع تلك الفترة مرحلة من الانتظار طويلة، في بلد تربطه به اللغة وحدها، هي التي خصها بعد ان عاش في بلدان متمزقة بالعمليات السرية، حتى انه ينظر اليها، بعد وقت بعيد، بوصفها المادة النقية والمستقلة لابداعاته.

ويشغل الجد في نص «الوصية» وكما هو الحال في مجمل اعمال ريلكه مكانة بارزة. فهو الشعور الوحيد الذي يتيح له نسيان اجواء الحرب والموت وتلك الرتابة القاتلة التي تتخلل الحياة اليومية في ريف يحز صمته وسكونه ازيز منشرة قريبة. كما انه يساعده في «جريه في الحدود البينة لهذه السعادة، ويضاعف نشاطه، بعد ان ينهل من صور الحنين المربكة». ويضيف ريلكه قائلا: «حياتي شكل خصوصي من الحب، وقد تحقق هذا الحب، مثلما اتخذ حب القديس جاورجيوس، شكل مقتلة التنين ، أي الفعل الذي يدوم في الزمن حتى نهايته، كذلك تحولت مكابدات قلبي لا تبذيراتها الى حدث ناجز وقاطع. حدث لي احيانا ان ارتفعت حتى وسط هذا الحدث: صورة من الاكتمال». ومخاطباً نفسه كفنان، يكتب ريلكه قائلا: «ايها الفنان لا تذهب الى الاعتقاد بأن الامتحان لك، يقوم في العمل. لا يمكنك ان تكون الشخص الذي تقدمه على انه انت، والذي يتصور هذا وذاك انه عليه، لانهم لا يعرفونك على حقيقتك ما دام العمل لم يندمج في طبيعتك، لدرجة انك لا تستطيع ان تفعل شيئا اخر غير تمكينه من نفسك، عندها، وبهذه الطريقة، تصبح السهم المنطلق باحكام، بعيدا عن اليد الرامية، قوانين تستقبلك وتذوب معك فوق الهدف. اي شيء اكثر ضمانا من سفرك نفسه». ومحددا مفهومه للفنان يقول «الفنان هو من الذين تخلوا، بفعل طوعي، واحد ومحتوم عن الربح والخسارة. لأن هذا وذاك لا ينتسبان الى القانون، ولا الى ميدان الطاعة الكاملة».

ولكن ريلكه سرعان ما يتبين من جديد ذلك الخواء الذي استبد به وحرمه من مواصلة رائعته «مراثي دونيو» فيكتب: «ان الحسرة علىما لم أحقق تهاجم الأن، مثل الزنجار، حتى جسدي، والنوم نفسه يرفض قبول بأسها، والدم يضرب على الصدغين عين النعاس، والنوم مثل خطوات رازحة لا تني عن الضرب».

وفي نهاية العام 1825، تلقى ريلكه رسالة من والد الشاعر الروسي بوريس باستارناك الذي كان موجودا، انذاك ببرلين وذلك بمناسبة عيد ميلاده الخمسين. وقد تم اللقاء الأول بين الرجلين اواخر القرن التاسع عشر عندما قام ريلكه بصحبة لوانيدرياس سالومي برحلة الى روسيا. وفي تلك الرسالة يتحدث ليونيد باستارناك (هذا هو اسم والد بوريس باستارناك) عن شغف ابنائه بشعره، ولا سيما ابنه البكر، يعني بذلك بوريس الذي كان قد بدأ يصبح شاعراً معروفا ومعتبرا في روسيا». وتقود هذه الرسالة صاحب «مراثي دونيو» الى اكتشاف شاعرة روسيا، شابة كانت على علاقة حب مع بوريس باستارناك ومعها سوف يتبادل رسائل لن يلبث الموت الذي ضربه في ديسمبر 1926، بعد صراع مع سرطان الدم ان اوقفها.

وكانت مارينا تزفيتاييفا «المرأة الحب» كما كانت تسمي نفسها والتي تشنق نفسها يأسا بعد ان ايقنت انه لن يكون لها مكان في روسيا الرازحة تحت طغيان ستالين، قد فتنت بريلكه بعد ان قرأت «مراثي دونيو». وفي الرسالة الأولى التي وجهتها له بتاريخ 9 ايار مايو 1926، كتبت تقول: «راينار ماريا ريلكه، هل أناديك على هذه الصورة؟ تعرف من دون شك وأنت الشعر مجسداً في رجل، ان اسمك وحده قصيدة. راينار ماريا أصوات تذهب بنا الى كنيسة ـ طفولة ـ فروسية. اسمك لا يوافق هذه الحقبة، يأتي من زمن من قبل ذلك وبعده، ومن كل زمان. هذا ما طلبه اسمك، وانت اخترت اسمك..» ورغم انها لم تلتق به قبل ذلك، ولن تلتقي به حتى النهاية، فإن مارينا تزفيتاييفا التي كانت قد عشقت العديد من الرجال قبل ذلك، و«احرقتهم جميعا» حسب تعبيرها، احبت ريلكه وراحت تتوسل اليه ان يبذل اقصى ما في وسعه ليلتقيا في مكان ما، وهي تكتب له قائلة.. لماذا اتجه صوبك لأنك الكائن الاعز عندي. بكل بساطة. ولأنك لم تعرفني ايضا. لنوع من الاعتزاز المؤلم، لاحترام الصدف (القدر، اي الشيء عينه) وربما لجبن في النفس، ولتجنب مواجهة نظراتك الغريبة عند عتبة غرفتك».

وفي رسالة بتاريخ 21 يوليو (تموز) 1926، يرد عليها ريلكه قائلا: «يا مارينا الرائعة. كما في رسالتك الأولى،احب في كل رسالة اخرى لك، منذ ذلك الوقت طريقتك الصارمة في البحث، في الوصول، الى الطريق الثري الذي يؤدي بك الى حيث تقصدين، والى حيث تصيبين القول، مرة بعد مرة، أنت مصيبة، مارينا.. أليس هذا نادراً عند امرأة؟...».

وتعلم مارينا تزفيتاييفا بالمرض القاتل الذي اصيب به ريلكه فتكتب له ملتاعة متفجعة: «أتنقضي السنة بموتك؟ أهي النهاية؟ بل البداية. راينار العزيز، اعرف الآن ـ راينار، ها أنا اشرع في البكاء انك تتوصل الى قراءتي من دون بريد، وانت تقرأني يا عزيزي، اذا كنت، أنت، تموت فيعني ذلك عدم وجود الموت، والحياة لا تعود حياة كذلك، ماذا أيضاً (...). ايها الغالي اجبني بكيفية اخرى، واكثر من أي شخص اخر. لا تغضب مني اعتمد عليّ كما انا».