رواية عن مراهق غيرت الأدب الأميركي

خمسون عاما على صدور رواية «الحارس وسط حقل الشوفان» لديفيد جيروم سالنجر

TT

لدى صدورها قبل خمسين سنة، أحدثت رواية «الحارس وسط حقل الشوفان» لديفيد جيروم سالنجر (1919) ما يشبه الرجة في مياه الرواية الاميركية الراكدة حينئذ. إن كاتبا آخر، وهمنغواي حي يرزق، لم يستطع ان ينسي النقاد الاميركيين تحفظهم ازاء كل اختراق استثنائي قدر ما فعل سالنجر في روايته الموما اليها، والتي اعتبرت منذ نشرها، أحد ابرز الانجازات الروائية في القرن الماضي. لقد قضى همنغواي نحبه قبل أربعين سنة (1961)، ومن المؤكد أن المفهوم التراجيدي للرجولة، كما عكسته رواياته، كان قد فقد اذ ذاك تأويله المهيمن على مقاربة الاميركيين لواقعهم الذين اخذت تساورهم شكوك بصدده. ان سالنجر لم يكتب سوى أربعة كتب ضئيلة الحجم من بينها رواية وحيدة، غير أن ذيوع صيته لا يعود في الواقع الى عزلته عن منصات الاعلام الادبي، التي غدت أسطورية، وانما لكون سروده استطاعت ملامسة مجازات راهنها المتسم بالقلق.

لقد كان على سالنجر ان يبحث في ذكرياته عن صورة المراهق الذي يملك جرأة الاستخفاف بكل شيء: هكذا تبدأ رواية «الحارس وسط حقل الشوفان» على النحو التالي: «لو كان يهمكم حقا ما سأرويه لكم، وتريدون فوق كل شيء معرفة مسقط رأسي، وكيف مضت مباذل طفولتي، وماذا كان يفعل أبواي قبل أن أولد، وغير ذلك من الترهات التي يمكن العثور عليها في روايات من قبيل «دافيد كوبرفليد»، فإنه لا يلذ لي أن أروي شيئا من ذلك البتة». لم تكن هذه البداية لتندرج في أفق توقعات القارئ في بداية الخميسنات، وذلك لكونها اعتمدت أساسا على صوت راو يشي خطابه بأن ما يريد حكايته ليس هو العالم كما ينتظره القراء، وانما كما ينظر اليه مراهق مشبع بأنانية لم يستطع المجتمع تدجينها. من هنا لاحظ النقاد الاميركيون أن لغة «هولدن كوفيلد» كانت تعبيرا طبيعيا عما يفكر فيه كل المراهقين في مختلف الحقب: تفكير قائم على الضجر وعدم الرضى والصفاقة، لكنه ينطوي، في نفس الوقت، على نوع من الشفقة على الذات والحنين الى تجارب الطفولة التي رسخت الوعي بآفاق وهمية.

إن سلسلة الاحداث التي شكلت مصير «هولدن» تبدو عادية، وليس فيها حدث واحد بارز يمكن تذكره بسهولة: فإثر طرده من معهد (بانسي) ـ بعد تجارب طرد اخرى ـ يقرر «هولدن» الافضاء بمشاعره لاحد أساتذته، ثم يستقل القطار الذاهب الى نيويورك فيلتقي هناك بوالدة زميل له في سنوات الدراسة، قبل أن يمتطي سيارة أجرة ويذهب الى أحد الفنادق الهامشية حيث يقيم في غرفة قذرة. يغادر الفندق للالتحاق باحدى الحانات، وأثناء عودته تتاح له فرصة التعرف على امرأة ، لكن الامر ينتهي نهاية سيئة. في اليوم التالي يتذكر «هولدن» صديقته «سالي» فيحدثها عبر الهاتف، ويقرران اللقاء مساء في قاعة سينما... على هذا النحو تتراكم الوقائع التي تشكل لحمة وسدى الرواية، دون ان تكون احدى تلك الوقائع بؤرة السرد إلا في حالة ما إذا اعتبرناها كافة مسرحا خلفيا لمزاج فتى يطمح الى اختبار انتظاراته على ضوء واقع أقل شاعرية، كما تجسده مدينة كبيرة مثل نيويورك. ان ذلك ما يبرر ايضا حدة لهجة السرد وجرأتها التي تحتل منصة خلت من كل واقعة استثنائية، عدا واقعة لقاء «هولدن» بشقيقته «فوب» التي تعتبر احدى أجمل لحظات الرواية، وحيث تغدو المكاشفة الوجه الآخر لخيبة الظن.

يتحدث مارك صابورتا، مؤرخ الرواية الاميركية في القرن الماضي، عن استقبال رواية «الحارس وسط حقل الشوفان» فيبرز كيف استطاعت الظفر باعجاب القراء، سواء كانوا مراهقين أو بالغين، بحيث صارت علامة على جيل يواجه مصاعب وجودية متنامية، وذلك ما رفع بطلها «هولدن» إلى مرتبة رمز لرجولة قيد التشكل قائمة على انعدام اليقين. إنه من الضروري القول بأن نزعات التمرد التي ميزت عقد الستينات، في أفق التدخل الاميركي في حرب فيتنام، ساهمت في التأكيد على الوظيفة الاستشرافية لرواية سالنجر وتعبيرها الضمني عن شقاءات المراهقين ازاء حماقات الكبار في مختلف أنحاء العالم. لكن ذلك لم يجعلها قط تسقط في خانة رواية تسجيلية يعتصرها الحاضر، أو يقتصر هدفها على رسم لحظة تاريخية تتسم بالتوتر.

لم تثر «الحارس وسط حقل الشوفان»، ككل نص مثير للجدل، اعجاب القراء والنقاد فقط، بل هناك من انتقدها بعنف ايضا: في هذا الصدد لا بد من الاشارة الى «ملحق التايمز الادبي الذي اعتبر الرواية «سيلا من البذاءات والكلام الفاحش»، بينما رأى ناقد انجليزي ان حساسية مواقف «هولدن» لم تكن تتطلب كل الحدة والقسوة اللتين ميزتا خطاب الراوي، فيما ندد معلق مجلة محافظة هي «العالم الكاثوليكي» بـ «دناءة اللغة التي تنم عن تلقائية غير متزنة». لكل ذلك كان من المنطقي تماما ألا تبرمج رواية «الحارس وسط حقل الشوفان»، كنص مدرسي، في المؤسسات التعليمية الاميركية حينئذ وعلى امتداد أربعين سنة: ذلك أن الرواية كانت، في العمق، تخييلا لكل المقاربات التربوية التي تستهجن استقلالية حق المراهق في ابتكار صيرورته الخاصة، ونهج سبل الذات.

بيد أن احدا لم يجادل في جاذبية شخصية، «هولدن»، سواء عند صدور الرواية قبل نصف قرن أو اليوم. فهل تكمن تلك الجاذبية في سلوكاته التي تعاكس التيار؟ أم في وجوده على طرف نقيض من الحلم الاميركي؟ أم في موقفه الصريح من طهرانيه منافقة؟ أم في رغبته في فرض نفسه كمخاطب؟

لم يكن ديفيد جيروم سالنجر رجل أفكار، بل كان يسخر من معاصريه الكتاب الذين أقحموا على تجاربهم أشكالا ذهنية غير مناسبة، لذا آثر الصمت دائما ازاء تحليل النقاد لاعماله الادبية. لقد أثرت ايحاءات الواقع القابعة تحت السطح تأثيرا بينا في نظرته القصصية، وانه من المنطقي الاعتراف بأن كتاباته رددت عميقا صدى التحولات التي كانت أميركا حبلى بها بعيد الحرب العالمية الثانية، وخاصة التحولات المتصلة بدور الفرد داخل نظام اجتماعي متكلس.