سلطة الخوف من المجهول في «الرجال لهم رؤوس»

تجربة المسرح الشاب في القاهرة .. من الحماس إلى انعدام الفرص والإمكانيات

TT

مرة أخرى توفق مسرح الشباب بالقاهرة في العثور على خشبة مسرح فارغة استعارها مؤقتا من مسرح السلام ليقدم عليها «الرجال لهم رؤوس» من تأليف الراحل محمود دياب واخراج الشاب محمد بكر. وعلى الرغم من قلة المنافذ والامكانات وشح الميزانية فان مجموعة المسرحية استطاعت تحقيق تجربة فنية لامعة.

انتظم السياق في «الرجال لهم رؤوس» في علاقة درامية مثيرة بين الزوجة فردوس (أماني يوسف) وزوجها الموظف البسيط (احمد مراد) من خلال ثنائية «الموت/الرؤوس» وما بينهما من علاقة جدلية متغيرة، فمن أسوأ الأمور مهانة في هذه الحياة ان يعتاد الانسان الموت وهو يتنفس، وهو ما يعني ان يعيش مقطوع الرأس بلا أدنى حواس ولا عقل يناقش أو يجرؤ على فكرة التمرد ضد القمع والقهر، وخير دليل على ذلك هذا الزوج الموظف البسيط الذي يهمله زملاؤه ورؤساؤه ويتخطونه، وكل ذنبه انه مثل الكاتب المصري القديم يضع عينيه في الأوراق ويعمل فقط من دون نميمة أو نفاق، والنتيجة الوحيدة التي يلقاها طيلة السنوات رغم تغير الادارات، هي الظلم الدائم في الترقيات والدفوعات المادية والمعنوية حتى أصيب بجدب عام، وقد عمم العرض المسرحي هذه الحالة ورسخها على المستوى الجنسي أيضا عندما علمنا ان الموظف لم ينجب بعد سنوات مكن الزواج الطويل. وعلى ذلك لعب العرض جيدا على المستوى المباشر والرمزي في ان واحد من خلال أحداث درامية تبدو مبسطة، لكنها وتقوم على حوار مركز. وفي المقابل لعبت الزوجة دور المحرضة، ولم تيأس مطلقا من اتهام زوجها بالضعف وحثه على التمرد والانتفاضة الفعلية وافاقته من خداعه الأبله لنفسه طيلة الوقت مهما اختلفت الآمال والأنظمة على كافة المستويات. وقد توفق المخرج من خلال تصميم الحركة الى حد ما في توضيح الشخصيتين، مع تقليص الحوار والتخلص من التكرار وخصوصا في اثبات مواقف كل من الزوجين، ثم اعطاء الفرصة لعناصر السينوغرافيا لاثارة ما بين سطور من دلالات ورموز.

وبينما جسدت موسيقى سندريلا حسن المحتوى الداخلي واعترافات الزوج بأحزانه الشجية رغم كل ما يحاول أن يخفيه بالضحك، لعب ديكور مصطفى سعد الدين المعادل البصري لحالة التشوه الداخلية الفردية والجماعية التي تعتري الجميع من خلال لوحات سوريالية تبرز أنصاف الوجوه أو مجرد أجزاء منها. وقد أعطت هذه اللوحات إيحاءات بصرية جمالية أيضا،بينما شابها في الوقت نفسه بعض التكرار ولم توظف حركيا من قبل المخرج، فاعتادت العين رؤيتها الى حد انها فقدت مدلولها. وقد أدى تضافر تلك العناصر الى تجسيد قبح الخلل على جميع المستويات، مع التلويح دائما بسلطة القمع الغاشمة ممثلة في جار الموظف ضابط الشرطة خيري الذي لم نره، مع الاعتراف بأن عدم تشخيص خيري في الحدث المسرحي جسد سلطة الرعب التي يمارسها الجار أكثر من وجوده الفعلي، لأن الخوف من تصور المجهول أخطر وأسوأ بكثير من وجوده الفعلي.

انتهج العرض المسرحي طريق الكوميديا السوداء طوال الوقت دراميا، وهو ما تطلب اجتهادا كبيرا من الممثلين الشابين، وان كانا رغم جديتهما في حاجة للتركيز والتدريب على كيفية تجسيد مشاعر متناقضة في آن لتكثيف اللحظة الدرامية واستخلاص ما تحويه من طاقة موحية. تأتي اللحظة الفاصلة في العرض المسرحي عندما يتسلم الزوجان طردا لجثة بلا رأس من مجهول، ليضربا أخماسا في أسداس حول حظهما الاسود ومصيرهما المجهول وأهوال تخمينات خيري التي تؤدي حتما لاتهامهما بالقتل.

ومن هنا يحدث التحول في التركيبة الدرامية عند الزوج والزوجة على التوالي من فرط الملل من الصبر وخداع النفس، مما أدى في النهاية للحظة المواجهة والتوتر، ومن هذا المنطلق تنقلب العلاقة الثنائية المطروحة من الخنوع السلبي الى التفاعل الايجابي الرافض المستنير، مفجرة انتفاضة شاملة من رؤوس ترفض فكرة الموت تماما.

=