حرب سميرة الأهلية

TT

كانت تنظر في وجه زوجها كل صباح فلا تجد الا صفحة زجاجية تبدو فيها عيناه وشفتاه وفتحتا أنفه وأذناه مثل الشروخ التي يخلفها حجر مقذوف على لوحة مرايا. لكنه رجل شفاف على نحو خاص، بحيث تنظر زوجته سميرة فلا ترى من ملامحه شيئا ولكن يبين الذي خلفه.. موغل في الشفافية التي لا يكاد يراه من يحدق فيه.. رجل من هواء، يذهب ويعود فلا يترك أثرا. يمشي على الأرض مشي الوجي الوحل، لكنه لا يترك على التراب شيئا يتقفاه الحاذقون في تتبع آثار الهاربين المارين على الرمل. ولكن هل من فائدة من زوج شفاف في عين امرأة عاشقة تواقة للحب بكامل معانيه، يحرقها جوع خفي، ويؤرقها بحث عن شبع يستحيل الوصول اليه، وراحة لا تتوفر في أركان الدنيا، قالت لا بد لي من التخلص من كل ألواح الزجاج وألواح المرايا المعلقة في غرف المنزل الواسع. شمرت عن ساعديها ذلك الصباح وشرعت تكسيرا في الاطارات الزجاجية المعلقة. لم تترك مرايا الردهة، ولا لوحة الموناليزا على الدرج المؤدي الى الطابق العلوي. بين المطبخ وغرفة الطعام داست برجليها لوحة الطفل الباكي.. لم تسلم الغرف الصغيرة ولا الكبيرة كما لم يسلم ولا ينبغي ان يسلم اللوح الزجــــاجي المتحرك، زوجها سمير.

قال لها الرجل الخفيف: اريدك لنفسي. لا تخونيه! إنه من زجاج، بل اخرجي من اطاره، حطمي زجاجه، تعالي اليّ، أنا اعطيك ما تستحقين وأكثر، هذا لوح زجاجي وليس بزوج يهبك حياة تحتاجينها، وشبعا تبحثين عنه ولا ترينه عبر هذه الشفافية المفرطة. دعي الاطار الزجاجي الأملس.. وتعالي الى خشونة التمثال الحي المتماسك.. الذي يشبع الليونة فيك.. وهذا الغنج وبهتت التي كان يحاصرها الزجاج لأن ترى وعداً بالامتلاء بعد الفراغ، أو لفحة دفء، وحرارة بعد برد، الاطارات الزجاجية على جدران المنزل الموحش الواسع، أو زهو الصلابة بعد الخواء الممل. قالت له: أنت لي وأنا لك! لكنها لم تسلم ايضاً من الهجمات الكاسحة من طرف الرجل السمين. قال لها: أنا المارد الذي سيحيط دنياك بالسحر المطلوب، أنا الجني الذي يأتيك بما تشتهين: طعاما أو شرابا، لباسا، جواهر أو حرائر.. أو عريا كاملا إن رغبتي! قالت له: أنت لي وأنا لك! لكن يا ويل من يغني بلسانين، أو يرقص بأربعة أرجل، أو يطير بكل أجنحته في كل السماوات أو يعبر كل الغابات، اذ ان اللسانين سيختصمان فلا يخرج حرف الغين أو حرف القاف فتنهار اللغة، وكيف للأرجل الاربع ذلك الاتزان، اذ لن تقدر إلا ان تنبو عن ايقاع الرقص. أما الطيران بكل الاجنحة وعبر سكون الغابات، فلن يسلم صاحبه من هجمة نسر أو نوبة انهاك علوية تودي به الى القاع.

قال الرجل النحيف: اريدك لي.. ايتها المرأة المليئة بالشباب والعنفوان والانوثة. اريدك وجبة كاملة ودسمة ـ ليس مثل افطار الانجليز: طبق من بيضة مفلوقة ومسلوقة وأصابع بطاطس مقلية لا تشبع.

ولكن أراد لها الرجل السمين ان تخفف من شحمها ولحمها. اذهبي الى الجمناستيك، اريدك ريشة في يدي.. آخذك تحت يدي، ابتلعك حبا.. صغيرة لا تملأ الكف ولكن تأخذيني بكاملي اليك. اريدك انحف، وأخف وزنا.. فأنا ثقلك، وأنا الذي أتوق اليك. ضحكت صاحبة الوجه الطفولي البريء، لكنها لم تمض الى النهاية، فتحطم كل الاطارات الزجاجية، ولم تقو على القضاء على اللوح الزجاجي الشفاف الذي يقاسمها فراش الزوجية. كيف الهروب منه: كيف؟ قال لها الرجل النحيف، حين سعت اليه مستنصحة، هذا زوج زجاجي شرس لا تجدي معه القوة واستعمال العنف. الانسب اتباع الحيلة وتلمس اساليب خفية لاصطياده دون تكلفة كبيرة. اقترح عليها سم السايونيد. لن يعرف انه يموت وسيصعب على أي أحد اكتشافه.

صعقت قليلا ولكن كان لا بد ان تروق لها الفكرة، لا بد من الخلاص من الجحيم الزجاجي بأي ثمن.. قالت للرجل النحيف اصبر عليّ، دعني أفكر قليلا، قد تكون ثمة طريقة أخرى! هرعت الى الرجل السمين.. قال لها: دعيه لي، سأهشم لك جسده تهشيما، ستتطاير شظاياه في كل أنحاء الدنيا، هذا مهري لك.. هل تقبلين؟ ضحكت. سيحطم الرجل السمين جسد الزوج تهشيما، وسيحطم جسدها ايضا تحطيماً.

صعقت قليلا ـ لكن راقت لها الفكرة. هيا اليه، لنجهز على اللوح الزجاجي اجهازا نهائيا، وبعد ذلك اني لك، فخذني اليك، خذني اليك ومنذ الآن! هكذا اتفق الثلاثة على تحطيم اللوح الزجاجي، لكن لم يدرك الرجل النحيف انه يتآمر مع سميرة للقضاء على سمير، كما لم يكن يدرك الرجل السمين ان هناك نحيفا يتآمر مع سميرة للقضاء على سمير. في المساء التقيا وجها لوجه، وبينهما سمير الزجاجي. كان الرجل النحيف يرى الرجل السمين عبر لوح الزجاج الشفاف، اندلع سم السايونيد من يده على لوح الزجاج، ولكن لكمة من يد الرجل السمين هشمت لوح الزجاج الشفاف، لم يتحطم الزجاج، لكن اليد القوية اخترقته لتصل الى فك الرجل النحيف.. سقط الرجل النحيف على ركبته.. تهالك الرجل السمين ويداه تنزفان وقطع الزجاج عالقة في لحمه..

لقد كانت خشية الاثنين من وقوع كارثة المواجهة، هي الدافع وراء جنوحها للتفاوض حول دور كل منهما واستعداده لاسعاد البنت سميرة. هل من ضرورة لاقحام الآخرين الغرباء، هكذا سألت سميرة. اكتشف الرجل النحيف ان الرجل السمين يتآمر بقسوة لتدمير الزوج الزجاجي وتهشيمه. قال له ان اسلوبه يفتقر الى الذكاء والحنكة. لم يكن من مجال للتفاوض أو التجادل بلغة مشتركة، غير ان جولات التفاوض لم تتوقف من حانة الى مطعم، ومن ركن قصي الى حديقة مفتوحة تحت ضوء الشمس، ولكنه كان تفاوضا دون نتائج، خطى في فراغ الفشل، بل قفزات في مهاوي الخسران وتمارين لقتل الوقت. لم تكن سميرة حاضرة عندما تشابكت الايدي واحتدم النقاش وتبودلت اللعنات والشتائم وتطايرت اطباق الطعام وأكواب الشراب وتحطمت المناضد والمقاعد والأرفف واللوحات المعلقة وهرب الحاضرون.

ودارت معركة شرسة بين الرجل السمين والرجل النحيف اندلق فيها السم وتقرحت فيها اياد، ولكن كان لوح الزجاج متماسكا صلبا. كان الحطام وهما. كانت الشظايا هواء باردا فحسب. أما سمير فهو شبح شفاف تخترقه الاشياء لكنه ثابت، كما لم تكن سميرة غير وهم خفي ذاب في معمعة العراك. وتصادم الرجل النحيف والرجل السمين.. لم يكن هناك من سمير ولا من سميرة. بل كانت هنالك معركة دامية وقتال شرس. إنها حرب سميرة الأهلية! لا بد في خاتمتها من ان يموت أحد الخصمين، شريطة ان يبقيا داخل الاطار الزجاجي.. إنها حرب سميرة الأهلية.

* كاتب سوداني