شعراء تونس المحدثون في ذاكرة المستقبل

الشاعر التونسي المنصف الوهايبي يكتب عن أنساق الكتابة الشعرية والأدبية في كتابه النقدي «الباب الخاطئ»

TT

الجامعي والشاعر التونسي المنصف الوهايبي يصدر له قريباً كتاب يتناول فيه بالدراسة والتحليل نماذج من الشعر التونسي المعاصر. كما يتعرض من خلاله الى بعض القضايا التي استأثرت باهتمام النقاد والشعراء طوال العقود الماضية ومن أهمها قضية الشعر الحر أو غير العمودي التي يسهب على ضوئها في تشريح وتفكيك أنساق الكتابة الشعرية والأدبية في تونس.

يقول عن كتابه القادم: «في هذا الكتاب الذي يرشح بعطاء قليل، صرفت النظر عن نصوص ومجاميع شعرية كثيرة، فلم ألتفت قاصدا متقصدا إلى القصيدة الخليلية (العمودية) ولا إلى نمط من «قصيدة النثر» أعده امتدادا لما يسمى عندنا بـ«في غير العمودي والحر». والمسوغ في ذلك أني أجدهما محكومين بمراسم الشفوية، حيث تحل الذاكرة محل الكتابة، والسماع محل القراءة، برغم أنهما نمطان متدافعان في الظاهر ولكن، من المفارقة، أن كلا منهما، مرتهن بالآخر أو يكاد، يخفيه على قدر ما يجليه وكأنه نقيضه أو بديله. صحيح أن الشعر يتذرع بالذاكرة، غير أن الذاكرة كما تعلمنا الدراسات الحديثة «إرادية» و«غير إرادية»، الأولى تحفظ صورا ووقائع والثانية تحفظ آثارا وانطباعات. فإذا استأنس الشاعر بالأولى، كما هو الشأن في هذا «الشعر» الذي نحن بصده، فإن قصيدته «قصيدة معكوسة» تجري من الذاكرة إلى التصور. من التعرف إلى الفعل، لأقل من الياء إلى الألف، في عود أبدي لا ينقطع، إذ هي تنهض على أساس قراءة قصدية أو «ذاكرة إرادية»، ولذلك يكاد شعراء القصيدة الخليلية (العمودية) لا يفلحون في الانتقال من «شعر اللغة» القديمة أو شعريتها، إلى خارج هذه اللغة أو خارج قاعها البلاغي الراكد. ومن ثم يسهل رصد أساليبها المتعاودة والوقوف على أثر الآخرين فيها، فهي الورقة التي تمتص ضوء الماضي والمتخيل المندثر، أو هي «قصيدة الشبح» أو «الخيال الطائف» الذي يتراءى في أكثر من مكان في الماضي، وفي أكثر من زمان، حتى لكأن شاعرها يصدر إراديا عما كان، أو هو يفتح ديوانا قديما ثم يكتب، الأمر الذي يجعلها تحمل في مطاويها إيمانا ما بقيم السلطة المطلقة ونزوعا «دينيا» إلى التجرد من رق المكان والزمان فضلا عن أن بنيتها الإيقاعية «السيمترية» لا تتسع لأساليب الشعر الحديث وطرائق أدائه (الأداء الدرامي ـ القصصي ـ كلية الصورة ـ تزاوج الفنون...) أما النمط السائد عندنا، من «قصيدة النثر» وهو امتداد لما يسمى في تونس بـ«في غير العمودي والحر» فلا يزال في تقديرنا أسير المراسم الشفوية، أو ثقافة الأذن، وقد لا يخفى أمر الأسجاع التي تكبله، وتحول دون انطلاقه في فضاء الكتابة وهي ليست إلا محاولة بائسة لستر الفقر.. فقر اللغة وفقر الإيقاع حتى في النماذج القليلة التي تقدحها «ذاكرة لا إرادية»، فإنها لا تصدر عن «الزمن وقد صار تأثيريا» ولا عن «الطاقة الشعرية للتلويح» وإنما عن «تجاوز المختلفات» لا التأليف بينها، كأن تجاور بين فصيح وعامي، أو تملي على الثاني (العامي) ما ليس من خاصية بنيته أو تركيبه أو كأن تخلط بين سجع وقافية وفاصلة. وصحيح أن الكتابة تغريب لوضع طبيعي وأن «التهجين الشكلي اللغوي» مكون من مكونات وعينا، ولكن شريطة أن يحكم الشاعر السيطرة على لغته، حتى لا ينساح النص ويتشتت، ويتفاوت مراتب ومناطق فالاستهانة بأوضاع اللغة وأعراضها، محمودة، كلما كانت صادرة عن متضلع متحقق بمواد شعره، يفض أغلاق اللغة، ويتلمح الأشياء والأسماء في ذاتها وفي أدق خصائصها. أما التغريب أو التهجين الذي لا سند له من النص أو من سنن الجنس الذي ينضوي إليه أو من عدة القراءة ومواثيقها، فلا ينم إلا عن ضعف جمالي مرده مهما احتال له صاحبه إلى جمالية ضعيفة. فإذا كنا قد صرفنا النظر عن هذه الأنماط أو غيرها من «شعر التفعيلة» واقتصرنا في متخيرنا على نماذج قليلة من مدونة الشعر التونسي، يطور بعضها «الشكل الخليلي» ويذهب بعضها الآخر بعيدا في التغريب كما هو الشأن في «قصيدة النثر» للأسباب التي تقدم ذكرها، وليس من منطلق المركز/الهامش، أو المشرق/المغرب، وليس لأننا نضفي على أنفسنا برد الأستاذية أو نجلس مجلس المحكمين. فقد استثنينا القصيدة الخليلية (العمودية) لأنها تنويع على قصائد الأقدمين واستعادة للغة داثرة وصور عفاها البلى وأكثرها ابيات ملفقة ونتف يحوك صاحبها أفوافها من هنا وهناك فهي لا تبرأ من شبهة ومن أثر «مطموس». واستثنينا نماذج كثيرة من «شعر التفعيلة»، فهي وإن حرفت البنية الإيقاعية الموروثة أو أعادت صياغتها، تظل أسيرة «العمود الشعري» بالمعنى الدقيق الذي استتب له عند أسلافنا، من إصابة في الوصف ومقاربة في التشبيه ومناسبة في الاستعارة. وما إلى ذلك مما هو متعارف وذائع في المدونة النقدية القديمة. واستثنينا «في غير العمودي وغير الحر» لتفاوت مستوياته اللغوية وارتباكها، من جهة، انجذابه أو احتكامه إلى مراسم الشفوية من جهة أخرى، حتى لكأن هنا النمط ليس إلا شعرا «شعبيا» أو «ملحونا» مترجما إلى الفصيح أو ما يشبه الفصيح. غير أن هذه الاستثناءات وما سوغته بها وإن لم أشفعه بشواهد ونصوص بحكم الحجم المحدود الذي قدرته لهذا الكتاب، لا ينبغي أن تسوق إلى استنتاج متعجل، كأن يقع في وهم القارئ أن متخيرنا يبرأ من ارتباك المستويات اللغوية وتفاوتها، أو يسلم من مآخذ الشفوية ومراسمها فقد وقفنا على شيء من ذلك غير يسير، في المجاميع والنصوص التي اعتمدنا في هذا «المتخير».

* المسعدي في البداية

* عندما يفرغ الوهايبي من هذا التحديد للمساحات الفكرية والجمالية التي يبني عليها كتابه، يعلن عن بعض الاسماء والعناوين التي تتوافق مع هذه الرؤية «ان اللغة في «مولد النسيان»: لمحمود المسعدي أو« أخبار البئر المعطلة»: لعلي اللواتي، وربما في «عطر واحد للموتى» لباسط بن حسن، أشبه بظل خيالي لا يثبت على حال ولكن من دون أن تكون قلقة، لأن مدار الشعر (وأقصد مطلق الشعر أو الشعرية) في هذه النصوص، على تراسل أسماء وأمكنة ومفاهيم» تتضافر كلها في صياغة النص، من حيث هو بقايا حالة أو أثر لشيء ما أو لفضاء ما. فهؤلاء على اختلاف أصواتهم أقرب إلى نمط «القصيدة الموضوعية» التي هي محصلة «أنا» أخرى غير تلك التي يعيشها الشاعر في واقعه أو مجتمعه، وهي ضرب من وعي الشعر بذاته، فثمة في شعر أولاد أحمد وفتحي النصري أو منصف المزغني مسافة بين الشاعر وخطابه، وكأن صوت الشاعر صوت ثان، أو هو في حالة حلم فاعل، إذ يترك للمتخيل أن يفعل فعله في الكلمات وهي تتدافع وتتجاذب، أو هي تنفي ذاتها في فعل خلقها، أو تتكلم على إثر ما تقوله اللغة بصوت خفيض أو بصمت أقل. إن نصوص هؤلاء تضمر تصورا «جديدا» للشعر، بذر بذرته شعراء الحداثة، في أواخر الستينات، ثم تعهده هؤلاء، وذهبوا به بعيدا، سواء انتظمت نصوصهم بنية إيقاعية «خليلية» متطورة (فتحي النصري ـ اولاد أحمد ـ المزغني ـ حافظ محفوظ) أو «نثرية» (باسط بن حسن ـ يوسف خديم الله ـ بن حمودة) أو «خلاسية» تطعم فيها هذه تلك، تزاوج، دونما قصد، بين «الخليلي» و«النثري» (سامي نصر)، ان القصيدة هنا هي نص يتكون من صورة رئيسية يتمثلها العنوان أو مفتتح النص، وحول هذه الصورة تدور صور صغرى متعاقبة مع بعضها، فلا تحجب قادحها ولا تحد من أثره، إذ هو «يتعاود» حتى يغطي مساحة النص كلها فالنص أشبه بشكل هندسي يقوم على التناظر وملء الفراغ، والصور أشبه بفروع تتموج وتلتف أو بعقد تنبثق منها الجمل الشعرية لتعود فتتجمع بشكل دائري حول مركزها الأول. وكأن محمود المسعدي أو علي اللواتي ـ ولست أخشى الشطط ـ يصلان نصيهما على نحو مثير، بفن التوريق العربي (الأرابسك)، إلا أنهما يملآنه بالأشياء والكائنات الحية، ويراعيان فيه عن قصد أو غير قصد، ملء الفراغ أو المناسبة بين عناصره من حيث التماثل والتقابل، من دون أن يتحول إلى شكل مزدحم العناصر والصور، فثمة «مناطق إضاءة» في النص، منها ما يرجع إلى خاصية الصورة التي يصوغها كلاهما في نظام صارم حتى وإن شارف الغرابة يفيد التكرار والتوكيد، ويبعث في القارئ تصديقا أعمى بأن الشعر مضاهاة «للنص» من الشيء أعني منتهاه أو هو حدث الشعر ذاته، لا يستنفد ولا يستوفى في معنى، لأنه ناتج المعنى أو ناتج القراءة. ومن «مناطق الإضاءة» هذه ما يرجع إلى عتاقة اللغة، إلا أنها لا تفضي، ضرورة إلى عتاقة الرؤية، على قدر ما تفضي إلى «شعرية الأثر»، أعني أثر اللغة التي طواها النسيان، فلعل الشعر عند المسعدي أو علي اللواتي ضرب من «موسيقى النسيان»... أو ما يتبقى بعد أن تطوي الذاكرة كل شيء.

لا غرابة إذن أن تنهض الأسماء والأشياء في «مولد النسيان» أو في «الحجارة البحرية» أو «فراعنة» بـ«طوبوغرافية متخيلة» تصل بين متحول الأزمنة ومتغير الأمكنة، وتكتنه الفضاء من حيث هو مكون جمالي لـ«شعرية الأثر»، وتؤسس الكتابة ـ كما أسلفنا ـ تغريبا لأوضاع طبيعية أو لأشياء مألوفة وإذا داخلها شيء من مراسم الخطاب الشفوي، فمرده إلى عتاقة اللغة وحداثتها في آن، من جهة، وإلى علاقة التذكر والنسيان المستعارة من هذا الخطاب، من جهة أخرى، وكأن كلا منهما يريد من الشعر وللشعر أن يكون أشد تراخيا في الاستقبال، وأشد تراخيا في القدم، في ذات الآن.

* الغزي بين الشفاهية والصوفي:

* عندما كان الوهايبي يأتي على ذكر تلك الأسماء كنا نتحين مليا الفرصة البلاغية أو الأسلوبية التي ستخول له التعرض الى اسم صديقه ورفيق دربه الشاعر محمد الغزي.. ويبدو أن المنصف كان يقصد تأجيل الخوض في شعر هذا الصديق.. ربما لانه قريب منه في القيروان وبعيد عنه في جغرافيا الكتابة. يقول الوهايبي في هذا المعنى:

«وربما جرت بعض نصوص محمد الغزي في هذا المنحى الذي كنت بصدده، فالغزي مأخوذ باللغة القديمة سواء في مستوى المفردة أو التركيب، وهو يفعل ذلك عن وعي ودراية، تأسيا بالمسعدي أو بالشاعر الفرنسي «سان جون بيرس» (وأثر بيرس في نصوص البعض من أبناء جيلنا، لا يخفى) غير أن الغزي يفلح في «الخيول» و«المهر» و« النشيد» وغيرها، في تغيير شكل المعنى، على قدامة المفردة أو التركيب، وفي تنظيم نصه تنظيما «شعائريا» مقصودا، كما هو الشأن في قصيدته «النشيد»، فهي ليست مجرد تنويع على «نشيد الإنشاد» وإنما هي صورة استعارية كبرى للكون وقد اتخذ هيئة نباتية، أو للجسد من حيث هو امتداد للعالم النباتي (والعكس صحيح أيضا). وأخال الغزي منسجما في هذا مع رؤيته الشعرية «الصوفية»، فاذا كان الجسد على وشيجة بعالم النبات، فلا غرابة أن تتعزز في نصه، وشائج القربى بين لغة قديمة وأخرى حديثة، وأن تتقوض الحدود والفواصل بين عالم الأحياء وعالم الأموات فهما «الوحدة» التي تصنع إنشائيا، شعرية النص، مثلما تصنع دلاليا كونية الكون، بالمعنى الصوفي العميق للكلمة، وربما تسربت إلى نصه، بسبب من هذه «الوحدة» سجلات لغوية شفوية أو نشأ تفاعل ما بينها وبين السجلات الكتابية، قد يرجع في جانب لافت منه، إلى الطابع الإيقاعي الصارم الذي يميز أكثر نصوص الغزي، بما فيها محاولاته النثرية القليلة.

* غنائيات المزغني

* الشاعر المنصف المزغني، مدير بيت الشعر في تونس، والشهير لدى عامة التونسيين تقريبا بطريقته الخاصة في القاء الشعر.. هذه الطريقة التي يرى البعض أنها قد عرفت بالشاعر أكثر من شعره، يقرأها الوهايبي ضمن سياق آخر اذ هو ينبري متحدثا عن صاحبها على النحو التالي:

المزغني معروف لدى الكثيرين، بطريقته الخاصة في إنشاد الشعر، ومن نافل القول التذكير بأن القصيدة في الثقافات الشفاهية هي نشيد بالأساس، أي هي مصحوبة عادة بهيئة موسيقية ما (صوت الشاعر أو طريقته في الإنشاد)، غير أن هذا القول على ما به من حق، لا ينبغي أن يحجب على البنية السردية «المحكمة» في كثير من نصوص المزغني. وهي تتسم بالشعرية الكتابية أكثر منها بالشعرية الشفوية، ومثال ذلك «ريشة البطة» و«الجندي المجهول» و«عياش » وغيرها... فهي تفصح عن وعي سردي بنائي، لا أخاله يخفى على القارئ، أكثر مما تفصح عن مجرد طريقة مخصوصة في أداء الشعر هي باختزال مخل لا ريب بنية سردية مرنة لها من الانسيابية ما يجعل أجزاءها قادرة على نوع من التغير الداخلي، من مقطع إلى آخر، وفقا لقواعد من أظهرها سرد حدث أو مجموعة أحداث تدور حول شخصية محورية (ليست الشاعر بالضرورة"، على أساس من تتابع الأصوات، أو جعل كل صوت يؤدي جانبا من الحدث، في سياق تفاعلي يضفي على القصيدة شكلا لولبيا، قد يصرف قارئا مثلي إلى شكل الدلالة، وقد يصرف غيري إلى دلالة الحدث أو الشخصية.

وهذا ما يجعل الإشكال القائم في قصائده يتولد من «تفاعل» خفي حينا، وصريح حينا آخر، ثم بين السجلات الشفهية والسجلات الكتابية وطرائق أدائها. أما النصوص التي تنزع منزعا كتابيا «خالصا»، فنقف عليها في مجاميع باسط بن حسن وفتحي النصري وحافظ محفوظ ويوسف خديم الله وعبد الفتاح بن حمودة وسامي نصر، وكثير منها ينضوي إلى الرسم أو هو يخطو باتجاه هذا الفن، حتى لكأن القصيدة «رسم حركي» أو كتابة متحررة من الإكراهات الفنية والإعتبارات الجمالية المتعارف عليها هي ككتابة «تلقائية» أو «عشوائية» تتميز بنوع من الانسياح اللغوي والاسترسال الخيالي الذي لا منطق له أو لا رقابة عليه من العقل، وكأن المقصود أو المنشود عند هؤلاء هو «فعل الشعر» وليس موضوعه، أو المتخيل وليس الواقع، أو هذه «الحركة» اللغوية الحرة من حيث هي غاية في ذاتها، وربما ذهب في الظن أن هذه النصوص «صدى» من أصداء السريالية، أو أن السريالية قادح من أظهر قوادحها. وبعض الظن ليس إثما، على أن في هذا الظن وفيه بعض الحق تبسيطا مخلا فنصوص هؤلاء تأتلف في هذا الأفق «الكتابي» المستجد، على قدر ما تختلف. وإذا كان من السائغ المقبول القول إن الشعر لديهم نشوء وتكوين وحركة «حرة» حتى لو أفضى الأمر إلى الاستهانة بأعراف اللغة وأنساقها، فليس من شأن ذلك أن يسوق إلى استنتاج متعجل كأن نقرر أن هؤلاء جميعا يلغون «موضوع» القصيدة، من حيث هو قادح معنى أو حامل دلالة، ففي كثير من قصائد باسط بن حسن وفتحي النصري وحافظ محفوظ يتبلور التعبير الشعري على أساس من حاجات فنية يمليها «الموضوع»، حتى وإ ن تهيأ لنا أن القصيدة تضع نفسها خارجه، أو هو ليس إلا جماع كلمات تومض هنا وهناك لتؤدي معنى ما أو دلالة ما.