روائية اسكوتلندية تكتب عن الصراع بين الأبوة والكتابة

تعتبر أليسون لويز كنيدي في أميركا كنزا ثمينا.. وفي بريطانيا حصلت على عدد من الجوائز الهامة

TT

بأي هدوء، وبأية سرعة، احتلت أليسون لويز كنيدي، مكانة في عالم الروائيين المعاصرين. ففي أميركا تظل نوعاً من سر مثل كنز دفين، لكن في بريطانيا حصدت هذه المرأة الاسكوتلندية البالغة 36 عاما، ستا من الجوائز الهامة، بل انها أصبحت عضواً في لجنة تحكيم جائزة «بوكر».

ومن غير المحتمل أن تبدل روايتها الأخيرة «كل ما تحتاجه» موقعها في هذا الجانب من الأطلسي. انها مدهشة ومروعة، مليئة بالعمق والحساسية الاستثنائية، لكنها مثقلة بما يكفي من الانحراف لتنفير الجمهور الأوسع الذي يمكن أن تجتذبه.

* رواية مبتكرة

* تدور هذه القصة الغريبة، على نحو مذهل، حول نشاطين مترابطين: الكتابة والأبوة، وكلاهما مصدران متمازجان للبهجة واليأس بالنسبة لناثان ستيبلز. فنحن نلتقيه أثناء قيامه بمحاولة انتحار فاشلة، وهي نكبة تتركه كئيباً ومحاصراً. إنه كاتب رواية إثارة، مبغض للبشر، لم يكتب شيئاً جيداً منذ أن هربت زوجته، وأخذت معها ابنتهما الصغيرة قبل 15 عاما.

وعلى الرغم من حكايته مع محاولة شنق نفسه، فإنه يكتشف، أخيراً، وسيلة لرؤية ابنته، بل وحتى احتمال أن يكون أباً ثانية. فماري لامب هي الآن في التاسعة عشرة من عمرها، وتطمح إلى أن تكون كاتبة. وهي تعتقد أن أباها مات منذ زمن بعيد، غير أن ناثان رتّب، سراً، عملية فوزها بمنحة دراسية أمدها سبع سنوات في فول آيلاند، وهي مستوطنة كتاب تقع على ساحل ويلز.

وهذه الكومونة واحدة من الأعاجيب الكثيرة التي يستمتع بها المعجبون برواية كنيدي المبتكرة. وتتميز عضوية هذه الجماعة بما يثير الغرابة. فناثان وستة آخرون من الكتاب غريبي الأطوار، يعيشون وحدهم على هذه الجزيرة «التي تختنق بسبب شحة الأمطار»، متحملين بعضهم بعضاً، وكذلك الطقس الذي لا يمكن التنبؤ به.

ويشجعهم زعيمهم في إطار تقليد صوفي غامض يستلزم «مواجهة الخطر الأقصى» سبع مرات. وهم يسخرون من مثاليته الغريبة حتى عندما يقومون بأفعال قاسية لتدمير الذات (ماري تبقى في بيت عضو سابق كان قد قطع رأسه ويديه بمنشار دائري).

* عزلة كتابية

* ويحمل هؤلاء الأشخاص المعذبون ندوب حياة الكاتب على أكمامهم ـ وعقولهم وأجسادهم. إنهم أناس يفهمون ملاحظة ريد سميث الشهيرة حول أن «الكتابة عملية سهلة، ولا يتطلب الأمر من المرء سوى أن يجلس أمام الآلة الكاتبة ويفتح مزاجه».

انهم يجتمعون معا في لقاءات عمل شهرية يميزها ذلك النمط من القسوة الفجة التي لا يمكن إلا للكتاب المحترفين (أو الملاحين البارعين) التعبير عنها، لكن بعد كل معركة تنتهي بجروح ينكفئون إلى جلسات تأمل مشترك تشبه جلسات جماعة الأصحاب (الكويكرز).

ومن الصعب تخيل السبب الذي يدفع امرأة طبيعية في التاسعة عشرة إلى الابتعاد عن الناس الذين تحبهم لفترة سبع سنوات من أجل الدراسة مع مجموعة من الأشخاص الغريبي الأطوار.

ومن الصعب، أيضاً، تخيل السبب الذي يجعل ناثان يوجه ابنته في هذه الدراسة لسبع سنوات من دون أن يمتلك الشجاعة لإبلاغها بمن يكون بالنسبة لها، لكن هذا هو السبب الذي يجعلنا بحاجة إلى روائية رائعة مثل كنيدي تتخيل لنا هذه الأشياء المذهلة.

وتمضي سنوات ماري لامب السبع في سلسلة من الحكايات والأحاديث عبر ما يزيد على 500 صفحة مليئة بالمرح والجذل باستثناء الفترة التي تكون فيها فاجعة ومثيرة للحزن.

وتكتب كنيدي بأسلوب مكثف، مدهش على الدوام، وهي تمزج صوتها بالأصوات الداخلية لشخصياتها (حتى كلب ناثان الطيب القلب يقفز إلى هذا المزيج بين حين وآخر).

فهذه روائية ذات أفق عاطفي استثنائي، وهي مستعدة لأن تكون عذبة ورقيقة المشاعر، كذلك فظة ومنفرة.

* الأب والبنت

* وبينما تكافح ماري في ظل توجيه والدها المحب والسريع الغضب، نقرأ فصولاً مختارة من سيرته الذاتية، مخاض الحب السري الذي يوضح اخفاقاته كأب، والتماسه الغفران ضمنياً. ان كنيدي تحتفي بالأبوة بكل أعجوبتها، لكنها تستطيع، أيضاً، أن تصور الرعب المطلق الذي يستثيره حب طفلة إلى هذا الحد.

وفي بداية إقامتها في الجزيرة، يخبر أحد الكتاب ماري قائلا: «إنك راغبة، بل ـ إذا ما فكرت في الأمر ـ متطوعة لتولي أمر العناية بالوسط الذي يتحكم، ويكذب، ويحدد، ويحلم، ويصلي، ويشهد على الحقيقة، ويدين الموت. ومن الطبيعي أن مثل هذا الشيء الكبير سيتولى أمر العناية بك. سأمنحك رغبات لم تعرفيها من قبل».

ويعرف ناثان ثمن أن يكرس المرء حياته للكتابة، وهي مهنة تشفي الوحدة وتفاقمها في آن معاً. ان رؤية ابنته متقدة بالرغبات نفسها، والشروع بتقديم التضحيات ذاتها، يثير فخره، ويرعبه أيضاً. ان نصيحته الواهية بشأن الكتابة، شبيهة بنصيحة بوذية (القاعدة رقم 3: تجاهلي كل ثناء ونقد)، غير أنها كقصة تدور حول حياة الكلمات، فإن رواية «كل ما تحتاجه» هي فعلياً كل ما يحتاجه المرء.

وتتلقى صناعة النشر تعنيفاً قاسياً جداً من جي. دي. غريس من محرر ناثان المضحك «والشديد على نحو مثير للجدل» في لندن. فهو شخصية منفرة، يحتضر جراء مجموعة من الأمراض والإصابات التي أنزلها بنفسه. إن اليأس الذي يشعر به حول ظروف النشر البائسة، والذي ينعكس في سلوكه المنحرف على نحو متزايد، يوصف هنا بتفصيل واضح على نحو صادم.

هذا هو عالم موضوعات كنيدي، مزيج أصيل تماماً من البراعة والتراجيديا، والمألوف والغريب، والعنيف والعذب.

* محرر الكتب في «كريستيان ساينس مونيتور»