ولادة حجرية أم ولادة بشرية؟

يقول لنا زيد بن عمرو عبر قصيدته أن المجتمع لا يصح فكرا إلا إذا صح الطفل * كتب الاصفهاني بعض شذرات عن حياة الشاعر، كما تبسط قليلا في المناسبة التي قيلت فيها القصيدة * انها قصيدة عقلانية واستخدم الشاعر فيها اختصارا حسابيا

TT

صادفت قصيدة زيد بن عمرو، المعنونة «ترك عبادة الاوثان» في الجزء الثالث من كتاب الاغاني لأبي الفرج الاصفهاني (شرحه وكتب هوامشه سمير جابر ـ دار الفكر 1981).

كتب الاصفهاني بعض شذرات عن حياة الشاعر، كما تبسط قليلا في المناسبة التي قيلت فيها القصيدة، مع ذلك، فإن دراسة القصيدة على حدة، قد تكون مبررا، هنا، لعدم البحث في حياة الشاعر في مصادر أخرى. أي ان النظر في القصيدة كنص، هو الغاية.

القصيدة كذلك ليست مرهوبة الجانب، ولا ذات أصالة متسقة مستوسقة، إلا ان ما يستوقف قارئها ان الشاعر قابل كثرة بكثرة! كثرة جامدة بكثرة يانعة، وهذا هو الخيط الذي يمسكها.

نتعرف على الشاعر في البيت الاول:

.. عزلتُ الجن والجِنّان عنّي كذلك يفعلُ الجلْد الصبورُ وهو ناضج العاطفة، وعقله اكثر نضجا. فكلمة: «عزلتُ» تنمّ عن موقف وارادة. ولأنها فعل ماضٍ، فانها تشير الى شيء وقع فعلا، الى شيء محسوم. أما كلمة: «عنّي» فزادت من قوة الارادة بسبب التخصيص: أي عزل عنه هو.

يظهر العقل الحكيم في الشطر الثاني: «كذلك يفعل الجلْد الصبور» تدلّ كلمة: «كذلك» على ان موقف الشاعر لم يكن غريبا وانما يتخذه كل جلد صبور. ولو قرأنا الشطر الثاني مرة ثانية، لأدركنا ان الشاعر لا بد ان يكون قد تجاوز مرحلة الشباب والانقياد الى نوع من استقلالية الرأي. ونظرا لأن استقلالا كهذا غير ممكن في مجتمع واثق مما يعبد من أصنام وأوثان، لذا استعمل الشاعر كلمتي «الجلد الصبور» اللتين تدلان على ان الشاعر كان منذ زمن قد ادرك حقيقة الاوثان، ولكنه لم يفصح عن ذلك إلا بعد لأي، لذا احتاج الى الجلد والصبر.

يذكر الشارح: «الجن خلاف الانس واحده جني، ويمكن ان يكون الجن والجِنان اسمين لصنمين عبدهما العرب في جاهليتهم».

جاء في قاموس المعجم الوسيط: «وفي التنزيل العزيز (فلما رآها تهتز كأنها جانّ ولى مدبرا). (ج) جِنّان وجَوَانّ. وفي الحديث «ان فيها جِنّانا كثيرا».

ينصرف الذهن في المعنى الذي أورده المعجم الوسيط الى معنى الكثرة وهو ما يتساوق مع بقية القصيدة.

ومن الطريف ما ذكره الفيروز ابادي في القاموس المحيط: «وجِنّ الليل بالكسر وجنونه وجَنانه ظلمته واختلاط ظلامه». هكذا يكون الشاعر قد شدهته الكثرة، وكأن اختلاط الظلام زاد من الحيرة.

وفي البيتين التاليين:

2 ـ فلا العزى أدين ولا ابنتيها ولا صنمي بني غَنم أزورُ 3 ـ ولا هبلا أدين وكان ربّا لنا في الدهر اذ حلمي صغيرُ تستوقفنا في هذين البيتين ثلاث صور: (1) أزور (2) في الدهر (3) حلمي صغير.

ففي «أزور» منع الشاعر عن نفسه اجراء الطقوس مع الآخرين، فكشف لهم عن نيته وكأنه اعلن عن موقفه.

وفي «في الدهر» ثبّت الشاعر ما لهبل من رسوخ في المعتقدات الجاهلية، لذا فالتمرد عليه مغامرة.

اما «حلمي صغير» فتتقابل مع ما قلناه اعلاه من ان الشاعر تجاوز مرحلة الشباب والانقياد بدليل اعترافه بان حلمه كان صغيرا.

ولان القصيدة عقلانية، كان لا بد للشاعر ان يختصر الكثرة المربكة اختصارا حسابيا:

4 ـ أربّاً واحداً أم ألف رب ادين اذا تقسمت الامور وكأن الشاعر اراد ان يقول ان «ألف رب» رغم كثرتها عقيمة او لا تجدي نفعا، بل انها تزيد من اضطراب العقل، لا سيما في تعبير «اذا تقسمت الامور» فالقسم قاموسا: «الشك.. وان يقع في قلبك الشيء فتظنه ثم يقوى ذلك الظن فيصير حقيقة» (القاموس المحيط) في البيتين التاليين:

5 ـ ألم تعلم بأن الله افنى رجالا كان شأنهم الفجور 6 ـ وأبقى آخرين ببر قوم فيربو منهم الطفل الصغير يواصل الشاعر عقلانيته، مع اختلاف. فقد انتقل الشاعر هنا الى مرحلة ثانية. في المرحلة الاولى دلنا على ما تحول فيه هو، وفي المرحلة الثانية راح يخاطب الآخرين: «ألم تعلم» وكأنه اصبح مبشرا كما يؤمن به، معللا ذلك بأن القوة الواحدة هي الوحيدة القادرة على الافناء وعلى الابقاء.

يمكن مقابلة الشطر: «فيربو منهم الطفل الصغير» بـ: «لنا في الدهر اذ حلمي صغير». في التعبير الاول نشأة صالحة في قوم بررة، وفي الثاني نشأة لا عقل لها ولا رشد.

وفي كلمة «يربو» اي ينمو يكون الشاعر قد اختصر الكثرة مرة أخرى بفرد واحد. واغرب ما في هذا الاختصار ان الفرد هو طفل صغير، وكأن المجتمع لا يصح فكرا إلا اذا صح الطفل. ولكن كيف ينتقل الشاعر من هذا الاختصار الى الكثرة المفيدة؟

يقول الشاعر في البيت الأخير:

وبينا المرء يعثر ثاب يوما كما يتروّح الغصن النضير ففي الفعل المضارع «يعثر» ومعناه زل وكبا نجد ان الجواب صار ماضيا أي «ثاب» وكأن هذه الصيغة تدل بأن ما سيكون لا بد سيكون فأخذ طابع الوقوع والحدوث فأصبح ماضيا كأمر مفروغ منه.

اما «يوما» فتوحي بالصبر، أي ان ذلك لا بد حاصل، كما حصل للشاعر نفسه في الشطر الثاني من البيت الاول: «كذلك يفعل الجلد الصبور» قد نجد ايضا تقابلا بين كلمتي ثاب ويتروّح. فمن بعض معاني ثاب: ثاب الماء: اجتمع في الحوض. ويقال ثاب ماله كثر واجتمع (المعجم الوسيط) أي ان المعنى العام الامتلاء والكثرة. ويتروح: أي يستطيل، ولا يمكن للغصن ان يستطيل دون ماء ولا بد انه متكاثر ببراعمه، بدليل نضارته. ولكن اهم من ذلك انتقال الشاعر من ولادة حجرية بلا نمو في الشطر الاول من البيت الثاني: «فلا العزى ادين ولا ابنتيها»، الى ولادة بشرية اولا نمّ عنها «الطفل الصغير» ثم تشبيهه بولادة نباتية: «كما يتروح الغصن النضير».