نوادر المخطوطات العربية في خزائن العالم

ترويح الأرواح لأحمد بن محمد علويه ينفرد بأخبار الشعراء الظرفاء وأرباب الدعابة

TT

جليل العطية بدأ التأليف العربي في كتب الهزل والطرائف والمجون منذ القرن الأول للهجرة. وخص محمد بن اسحاق النديم، هذه الكتب باهتمام متميز فافرد لها كتاب الفهرست عدة صفحات أورد فيها اسماء حشد من مؤلفات أهل الفكاهات كابي الحنبس الصيمري وأبي حسان النملي وأبي الحبر الهاشمي وابن الشاه الطاهري والمباركي وجاء في ترجمة أحدهم واسمه (الكتنجي) ما نصه:

كتب الكتنجي الى سليمان بن وهب:

فذاك إخوانك كلهم: الأحمق منهم مثلي، والعاقل مثلك، نحن في زمان رأى العقلاء قلة منفعة العقل فتركوه، ورأى الجهلاء كثرة منفعة الجهل فلزموه، فبطل هؤلاء لما تركوا، وهؤلاء لما لزموا، فما ندري مع من نعيش؟! وله من الكتب: كتاب «جامع الحماقات وأصل الرقاعات»، و«الملح والمحمقين» و«الصفاعنة» و«المخرقة».

ولم يتبق لنا من قوائم المؤلفات الهزلية التي ذكرها ابن النديم وسواه من المعنيين بتسجيل حركة التأليف الا النادر والا النقول التي رصع المؤلفون اللاحقون مؤلفاتهم بها كالجاحظ، والتوحيدي، والآبي والثعالبي وابن الجوزي وغيرهم وبفقدان كتب الهزل والأحماض خسرنا صفحات من حياة المجتع العربي ـ الاسلامي في صدر الاسلام والعصرين الاموي والعباسي.

من هنا تأتي اهمية المخطوطات القليلة التي نجت من قوارع الزمن وبينها: ترويح الأرواح ومفتاح السرور والأفراح لأحمد بن محمد علويه الملقب جراب الدولة.

ويبدو ان الكتاب ضخم يقع في عدة أجزاء وصل إلينا منه الجزء الأول ويقع في 134 ورقة. تحتفظ به المكتبة الوطنية في باريس تحت الرقم AR 3527 ولم يسجل الناسخ اسمه في ختام المخطوط ولا تاريخ كتابته هذه المخطوطة القديمة المكتوبة (ربما) في القرن السادس للهجرة الثاني عشر للميلاد. وهذه المخطوطة لا تزال بعيدة عن ايدي الباحثين والقراء.

المؤلف قال محمد بن اسحاق النديم في الفهرست (ص 673 طبعة د. مصطفى الشويمي) هو أحمد بن محمد بن علويه. يكنى أبا العباس.

من أهل الري وقيل سجزي (أي من أهل سجستان) كان طنبوريا، أحد الظرفاء والمتطايبين ويلقب بالريح ويعرف بجراب الدولة وله من الكتب: كتاب النوادر والمضاحك، في سائر الفنون والنوادر وسمى هذا الكتاب: «ترويح الأرواح ومفتاح السرور والأفراح» وجعله فنوناً، وهو كتاب كبير.

وقال ياقوت الحموي في (معجم الادباء) (ص 459 ـ طبعة د. إحسان عباس) مضيفا: كان في أيام المقتدر وادرك دولة بني بويه فلذلك سمى نفسه بجراب الدولة لأنهم كانوا يفتخرون بالتسمية في الدولة.

وجاء في مخطوطة باريس ان لقبه:

الشجري قلت: ويحتمل ان يكون هذا اللقب محرفا عن السجزي! مقدمة الكتاب جاء في مقدمة المؤلف المكتوبة باسلوب يقطر ظرفا بعبارات مسجعة، بسيطة تلائم عصره:

... ولعمري ما حططت بفناء رئيس ولا حللت بساحة نفيس الاّ وقعت عنده أجل موقع، وحللت منه بألطف موضع، وانتفعت بهذه الصناعة وانا فيها صاحب بضاعة، ما لم انتفع بعلم الموسيقى، الذي هو اللهو الحقيقي. وأنا مقدّم فيه ومحذق لمعانيه، فلما رأيت هذا انفع لصاحبها وأوفق لمنتحلها أقبلت عليها وصرفت وجهي إليها حتى شاع ذكري، وسمع أمري، حتى عرض عليّ بأرض العراق حين اخترتها من بين سائر الافاق اسماء والقاب، يتفاخر بها الاعقاب، كما يعرض على أولياء العهود والخلفاء اذا اذنوا للقعود فقالوا:

عماد الأنس.

وقالوا: ركن الفطنة فاخترت جراب الدولة لما فيه من الجمال...

فأذعنت بفعلي المجان وشهد لي باللباقة الثقلان، فرأيت من حق اعطيت، ان أدون طرائف ما اوتيت فوضعت هذا الكتاب على ترتيب الفصول والابواب ولقبته بـ «ترويح الأرواح ومفتاح السرور والأفراح» ثم رأيت العامة ذوي الآراء السخيفة وقوماً من الخاصة من ذوي عقول كثيفة ينكرون هذا الشأن ويسمونه بالبهتان ثم يتأولون فيه، وفي سائر الملاهي اخبارا واثارا. وقد ذكرت ما ينقض اقوالهم بما روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حمد المداعب واللطائف وافصحت به أول فصل من الفصول اذ كان من أعظم، ومنْ عليه المعول مما فيه مساغ الشريعة، وبلاغ من الذريعة، الى ركوب ما اردت والهجوم عليه ما اليه قصدت وان تجاوز القوم، ففي قياسي اليهم ما يزول عنه اللوم..

وجعلت فصول الجدّ عشرة كاملة واصول الجدّ حدودها وفي كل فصل أبوابه بحسب مايقتضيه أسبابه ورسمت الجدّ بالاصول وخلصت للهزل ذكر الفصول وبدأت بالألطف واردفت بالاشرف لتكون العاقبة للحسنى والآخرة خير من الأولى، وقصدت في ترتيب الابواب ان الحق في كل باب ما يشاكله في معانيه ويضاهيه في مبانيه... وهذه تراجم الفصول وترتيبها على الأصول:

ـ الأول من الفصول: نوادر الخاصة الظراف الملاح، مفتتحا بتسويغ المداعبة والمزاح. يتلوه من الأصول اداب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودواعي الصلاح عن الرواة فيه موجبات للفلاح.

ـ الثاني من الفصول: نوادر المجان والخلفاء والمضحكين الظرفاء. يتلوه من الأصول مختارات من نوادر الحكماء وما شاكلها من لطائف الشعراء.

ـ الثالث من الفصول: حكايات أهل البطالة المنقطعين الى الضلالة. يتلوه من الاصول: وصايا أهل الفضل والجلالة في ضد ما تقدم من أسباب الجهالة.

ـ الرابع من الفصول: نوادر المغفلين والحمقى وحكايات المتنقصين والنوكى. يتلوه من الأصول: أخبار العقلاء ذوي النهى والفاظ الادباء ذوي الحجى.

ـ الخامس من الفصول: حكايات اللئام والبخلاء والمتطفلين والثقلاء يتلوه من الأصول أخبار الكرام والنبلاء في ضد ما مرّ من اللئام.

ـ السادس من الفصول: نوادر اعراب البوادي والعجم والنبط أهل السواد يتلوه من الأصول: مقطعات الاشعار الجياد في الغزل وأهله على القرب والبعاد.

ـ السابع من الفصول: اخبار العوام وأهل الاسواق ومتعرضي الطرق من مخرق وزراق يتلوه من الأصول: اخبار وقصص واشعار في ضروب ما جرى في سائر الايام الخاصة والاوساط والعوام.

ـ الثامن من الفصول: اخبار الحجامين والحمامين والنخالين والنسناس واللصوص والمحتالين والمقامرين وسفال الناس. يتلوه من الأصول: ما جاء عن الأوائل في أسباب الرائع وتعاطيها على السداد والصلاح.

ـ التاسع من الاصول: اخبار ذوي العاهات وشيء من اعاجيب الصناعات يتلوه من الأصول اخبار جياد طالت عن حد النتف والحكايات في ضروب ما جرى من سائر الايام والأوقات.

ـ العاشر من الفصول: خرافات شتى وضعها قوم..

يتلوه من الأصول شيء من أخبار الزهاد والرقائق والرجوع الى الحقائق ختمت بها الكتاب وجعلتها آخر الابواب.

أهمية الكتاب:

يعدّ «ترويح الأرواح» من المصادر المهمة في الادب العربي، فهو ينفرد باخبار ونوادر لا تتوفر في غيره تتعلق بالشعراء الظرفاء اضراب أبي نواس (الحسن بن هاني) وبشار بن برد وكذلك بارباب الفكاهة والدعابة امثال ابي العيناء (محمد بن قاسم بن خلاد) والجماز (محمد بن عمرو) وغيرهما ويشتمل على قصائد ومقطوعات شعرية اخلّت بها العديد من الدواوين التي جمعت في عصرنا. كان الثعالبي (ت 429هـ) من اقدم المؤلفين الذين اعترفوا بالنقل من (ترويح الأرواح) وكتاب جراب الدولة كما كان يسميه احيانا. وقد التبس الامر على المؤلفين اللاحقين وبينهم (ابن الفرات) وهذا اضطر الشيخ عبد العزيز الميمني ـ رحمه الله ـ الى كتابة مقال عنوانه (جراب الدولة رجل لا كتاب) نشره أولا في مجلة الزهراء القاهرية (سنة 1347هـ) ثم اعيد نشره في كتاب بحوث وتحقيقات (دار الغرب الاسلامي ـ بيروت ـ 1995م) ج 1 ص 41.

وبانتظار ان ينبري احد الباحثين لتحقيق ونشر هذا الكتاب الطريف نقدم ادناه ملتقطات منه.

طرائف من الكتاب

* خرج المعتصم إلى بعض متنزهاته، فظهر له أسد، فقال لرجل من أصحابه أعجبه قوامه وسلاحه وتمام خلقه:

ـ يا رجل فيك خير؟ فقال بالعجلة:

لا.. يا أمير المؤمنين! فضحك المعتصم وقال:

ـ قبّحك اللّه وقبّح ظلك.

* وقيل لرجل ولي الحرب: لا تهرب فإن الأمير يغضب عليك قال:

ـ إذا غضب عليّ وأنا حي خير من أن يرضى عني وأنا ميت.

* قيل لمطرف بن عبد الله: لمَ لا تخرج تقاتل مع علي بن أبي طالب، رضي الله عنه؟ قال:

ـ لو كان لي نفسان قدّمت إحداهما، فإن أصبت وإلا أتبعتها الأخرى، لكنها واحدة.

* وقيل لرجل لمَ لا تخرج إلى الغزو؟ فقال:

ـ واللّه ما أعرف أحداً منهم ولا يعرفني، فمن أين وقعت هذه العداوة بيني وبينهم؟

وأنشد لبعضهم:

يقول لي الأمير بغير علم تقدّم حين جدّ بنا المراس وما لي أن أطعتك من حياة وما لي غير هذا الرأس راس

* قال المتوكل يوما: أريد من يحدّثني لا يسؤني ولا يسرّني وله عشرة آلاف درهم. فلم يكن أحد من خدمائه توجه له في ذلك وجها، فأمر ان يطلب له ذلك فقيل له إن بالباب رجلا يقول إنه يحدثه حديثا هذه صفته، قال: احضروه. فلما حضر قال المتوكل: هات ما عندك، قال: يحضر الشرط. فأمر بإحضار عشرة آلاف درهم، فقال له الرجل:

ـ يا أمير المؤمنين أنا رجل غريب من أهل الرقّة قدمت (سرّ من رأى) أول الليل من أمس فنزلت في خان، ونزل معي في الخان أحسن قوم وارتحلوا اليوم وسكت.

فقال المتوكل: فما في هذا؟ قال: هذا الحديث الذي طلبت، أسرّك منه شيء؟ قال: لا! قال أساءك منه شيء؟ قال: لا. ثم قال: خذها ـ الدراهم ـ لا بارك اللّه لك فيها.

* ولّى المنصور (سليمان بن راشد) الموصل وضم إليه ألف فارس من العجم وقال له:

ـ قد ضممت إليك ألف شيطان تذل بهم الخلق. فلما أتى الموصل عاثوا في نواحيها وقطعوا الطرق وانتهبوا الأموال وانتهى خبرهم إلى الموصل. فكتب إليه: كفرت النعمة يا سليمان. فكتب إليه في الجواب (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا)، فضحك المنصور وعرف عذره وأمر له بجيش غيرهم.

* غضب المنصور على كاتب له فأمر بإحضاره ودعا بالسياط، فقال: يا أمير المؤمنين:

ونحن الكاتبون وقد أسأنا فهبنا للكرام الكاتبينا فضحك منه وعفا عنه.

* لمّا أتى زياد الشام والياً، صعد المنبر فخطب، فلما كان في الثانية قال:

ـ يا أهل الشام عسى اللّه أن يجعل بعد العسر يسراً ومن عيي بلاغاً، وأنتم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال.

فبلغ الكلام (عمرو بن العاص) فاستحسنه.

* صعد (ثابت بن قطنة) المنبر بسجستان، فقال: الحمد للّه. فارتج عليه فنزل وهو يقول:

فإلاّ أكن فيها خطيباً فإنني بسيفي إذا جدّ الوغى لخطيبُ

* كان (عبد اللّه بن خالد) إذا تكلم ظن الناس أنه يصنع الكلام لعذوبة لفظه وبلاغه منطقه فبينما هو يوما يخطب إذ وقعت جرادة على ثوبه فقال:

ـ سبحان للجراد من خلقه، ادمج قوامها وطوقها جناحها وسلطها على من هو أعظم منها.

* قال الجاحظ: ما أسكتني أحد قط ما أسكتني غلام قلت له: أعلم مولاك أني بالباب قال:

ـ قد حلفت ألاّ أكلم مولاي سنة، فبقيت لا أدري ما أقول بعد هذا القول.

* قال (الحسن البصري) لو كان الناس كلهم عقلاء لخربت الدنيا.

قال الشاعر:

يعدّ رفيع القوم من كان عاقلا وإن لم يكن في أهله بحسيب فإن حلّ أرضا عاش فيها بعقله وما عاقل في بلدة بغريب