الفن والسياسة في تجربة رائد مسرحي

سعد أردش يتحدث عن سنوات التأسيس وروايات المسرح التجريبي وإيمانه بالواقعية

TT

د. محسن مصيلحي يمثل المخرج والممثل سعد أردش حالة خاصة بين مخرجي المسرح في العالم العربي كله تقريبا: فهو يعد عميدا لهم اذا ما نظرنا الى عمره المديد واذا نظرنا الى تجاربه المتعددة في مصر وفي غيرها من البلدان العربية خاصة الكويت والجزائر، واذا نظرنا أيضا الى النوعيات المختلفة من المسرحيات التي أقدم على اخراجها. ولا بد من الاشارة هنا الى الدور التعليمي الذي ما زال سعد أردش يقوم به في قسم التمثيل والاخراج في المعهد العالي للفنون المسرحية بمصر، اذ تخرج على يديه عشرات من نجوم التمثيل في السينما والمسرح والتلفزيون.

وحسب تقليد كرسته دار الأوبرا المصرية قام صالون الأوبرا الثقافي الذي يشرف عليه المخرج القديم محمد سالم باستضافة سعد أردش ليقدم حواراً مع ضيوفه حول حياته وتجاربه الفنية وذكرياته المختلفة، وقد بدأ أردش هذا اللقاء بخلق جو من الألفة والدفء بينه وبين جمهوره ليس فقط من خلال التحاور الودود معهم من خلال اصراره على أن تشاركه الجلسة شريكة عمره نادية خفاجي، وهذه اللمسة أضفت مزيدا من التواصل مع ضيوف الصالون الثقافي وفي شريط ذكرياته توقف سعد أردش عند خمس محطات مهمة في رحلة حياته.

المحطة الأولى: هي مرحلة المسرح المدرسي حين اكتشف عبد السلام هارون، الذي أصبح محققا للتراث العربي في ما بعد، قدرة سعد أردش على الالقاء فكلفه بالقاء قصيدة في حفل مدرسي، وفي المسرح المدرسي ايضاً تعرف أردش إلى زكي طليمات حين اختار مسرحية توفيق الحكيم «نهر الجنون» ليقدمها في مدرسة فارسكور ـ وهي مسقط رأس أردش وبعد تخرجه في معهد الفنون المسرحية عاد أردش الى المسرح المدرسي ليخرج له بعض المسرحيات.

المحطة الثانية: هي محطة «المسرح الحر» الذي قدمه أردش باعتباره مؤسسة تعبر عن روح الفريق لأنه أنشئ بقرار جماعي بعد أن اعتذر زكي طليمات عن عدم قبولهم أعضاء في فرقة المسرح الحديث التي انشئت أصلا لاستيعاب خريجي معهد التمثيل، يقول أردش «جلسنا نفكر، وكانت جلستنا في نقابة العوالم، في الخطوة التالية التي يجب ان نخطوها وانتهى قرارنا الى ضرورة تأسيس فرقة نقدم فيها أنفسنا.. وكانت النتيجة هي انشاء «المسرح الحر» على غرار مسرح اندريه انطوان في باريس في بدايات القرن العشرين.

وقد قام هذا المسرح على مساهمات اعضاء الفرقة، وكان جل مكسبهم من الاذاعة وكان لأعضاء هذا الفريق هدف محدد وهو فتح باب المجتمع على المسرح المصري وتقديمه بصورة لائقة «ومن خلال هذا الباب اكتشفنا نعمان عاشور وقدمنا له مسرحيتين، كما قدمنا مسرحية إبسن «بيت الدمية»... وساعدنا نجاحنا على مزيد من الطموح حتى قدمنا بعض أعمالنا على مسرح دار الأوبرا القديمة طبعاً»... هكذا واصل أردش حواره مع مريديه وأصدقائه.

المحطة الثالثة: تأسست على اكتشاف سعد أردش حاجته لمزيد من الدراسة بعد ان اخرج للمسرح الحر مسرحية «ماهية مراتي» وهكذا سعى للحصول على البعثة، وبسبب ايقاف ايفاد البعثات الى اميركا عام 1956، اختار أردش الذهاب الى ايطاليا. وفي ايطاليا درس أردش اللغة الايطالية في السنة الأولى، وفيها ايضا تعرف إلى زوجته التي كانت تدرس الفنون التشكيلية في روما في الوقت نفسه ، كانت سنوات البعثة صعبة لكنها كانت حافلة بالحياة والرغبة بالمعرفة والتعليم.

المحطة الرابعة: هي الواقعة بعد عودته للقاهرة مباشرة: انها سنوات تأسيس مسرح الجيب بتشجيع من وزير الثقافة ثروت عكاشة وبعد أقل من سنة من تقديم أردش لطلبه بتأسيس المسرح كان الستار يرتفع عن أول عروضه، كان ذلك عام 1962، وكانت المسرحية هي «لعبة النهاية» للكاتب الآيرلندي صموئيل بيكيت، هذا المسرح من وجهة نظر أردش، كان أول حركة تجريبية مسرحية في مصر، بل هو نواة المسرح التجريبي الذي انعقدت أولى دوراته عام 1988 برئاسته.

في تلك السنوات نفسها عاد أردش استاذا بالمعهد العالي للفنون المسرحية، ضمن كتيبة من الفنانين المتميزين الذين حققوا نهضة مسرحية قوية ومزدهرة طوال الستينات.

أما المحطة الخامسة: التي توقف عندها أردش فلا يمكن حسابها بالقياس الزمني أو التاريخي لأنها أقرب الى تقديم الأسباب التي دفعته دائما الى ربط الفن بالسياسة في كل الأعمال المسرحية التي أخرجها يقول أردش أنه آمن مبكراً بأن الفن لا يستطيع ان يحقق وظيفته الا اذا انطلق من عقيدة سياسية تضع الفنان دائما على يسار التيار العام وعلى يسار السلطة، أما كيف تكونت عقيدته «اليسارية» فيقول أردش انها تعود الى التربية الاسرية (أسمته أسرته باسم الزعيم الوطني سعد زغلول) والى نشأته في منطقة اقطاعية ظهرت فيها الفوارق الطبقية حادة ومريعة، والى وجود الاحتلال الانجليزي الذي فرض على الصغار والكبار الكفاح ضده، وربما كانت تلك الحياة هي التي جعلت أردش مؤمنا بالمسرح الملحمي كما قدمه برتولت بريخت وبالمسرح الواقعي كما قدمه المخرج الروسي الكبير ستانسلافسكي.

وفي حواره مع جمهوره كان أردش صريحا في الاشارة الى أن المسرح المصري يعاني سكرات الموت لأن المجتمع نفسه ـ وليس فنانوه فقط ـ يفتقر الى العقائدية، ومن واقع خبرته الطويلة يقدم أردش «وصفة» علاج للواقع تعتمد على حث السلطة المسؤولة على تحقيق وتنفيذ توصيات المؤتمر العام للمسرح الذي انعقد من عامين كما تعتمد هذه «الوصفة» على اعادة النظر في البنية الاساسية لمسرح الدولة الذي انشئ أصلا في ظروف اجتماعية وسياسية مختلفة واعادة النظر في دور البنية الاساسية للمجتمع المصري الذي لم يعد يؤمن بدور المسرح في صياغة الوجدان الاجتماعي.

لقد أخرج أردش للمسرح ما يزيد على خمسين مسرحية (آخرها مسرحية تشيكوف طائر البحر للتلفزيون) وتقلد العديد من المناصب منذ أن رأس مسرح الجيب عام 1962، كما قام بترجمة العديد من النصوص المسرحية الايطالية، ونشر العديد من الابحاث والدراسات المتخصصة لكن العمل الامثل الذي يعتز به هو استاذيته.. هو دور المدرس الاكاديمي الذي ما زال يقوم به في حب حتى وهو فوق السبعين بسنوات.

=