من يحرس من في عالمنا السري؟

استنهاض الحواس في رواية «الحارس» للمصري عزت القمحاوي

TT

بدءا من الحضارة المصرية القديمة كان الكاهن الفرعوني هو الحارس على العلم، الحارس

على نظام الفرعون، الحارس على الحقيقة

المطلقة التي لا يعرفها ولا يجوز أن يعرفها

غيره وربما كان هذا هو السبب في اضمحلال

هذه الحضارة العظيمة سرا

كنت أضحك دائما وأنا أسمع أنصاف الفنانين ومعظم الراقصات الشرقيات وهن يقلن بكل افتخار إن «الفن بيجري في دمي»، لكنني الآن، وبعد أن أفقدتني السنون نعمة السخرية الضاحكة، بت أغتاظ من مثل هذه الكلاشيهات الجاهزة. لقد تحولت الضحكة الساخرة إلى «غيظ تجريدي» على رأي الروائي الإيطالي الجميل إليو فيتوريني في روايته «محادثة في صقلية»، عندما يصر على أن العالم منقسم إلى نوعين، من يهينون العالم ومن يدافعون عنه. هذا الغيظ التجريدي، وهذه الإهانة الموجهة إلى العالم، هما العنصران اللذان أحسست بهما وأنا أقرأ رواية «الحارس» الجديدة للكاتب المصري عزت القمحاوي، والصادرة أخيرا عن دار العين بالقاهرة، وأنا أتعاطف حينا مع فقد بطله لمقومات الحياة، ومحاولته التي لا تنتهي بنهاية الرواية أن يستعيد اسمه وملامحه وتاريخه، أن يستعيد إنسانيته. ما الذي سرق الإنسانية من وحيد؟

بدءا من الحضارة المصرية القديمة كان الكاهن الفرعوني هو الحارس على العلم، الحارس على نظام الفرعون، الحارس على الحقيقة المطلقة، التي لا يعرفها ولا يجوز أن يعرفها غيره. وربما كان هذا هو السبب في اضمحلال هذه الحضارة العظيمة سرا، أو على نحو غامض. كيف يمكن لحضارة بهذه القوة أن تختفي فجأة وتبقى ألغازها وأسرارها مدفونة في معابدها ومع جثث كهنتها، إلا إذا كان هؤلاء الكهنة قد احتكروا العلم وجعلوه سر الأسرار؟ ربما يستطيع حارس عزت القمحاوي أن يرد على هذا التساؤل، وربما استفاض في الشرح لكي يفضح جهل الحارس، فهو لا يعرف ما الذي يحرسه، لا يراه ولا يعرفه، ولن يراه ولن يعرفه. إنه الميل الدائم لتحويل الواقع إلى دوجما كبيرة، يرتطم بها أصحابها قبل خصومها فيفقدون اتزانهم وهويتهم.

في الرواية تتحول مهنة حراسة «الرئيس» أو السلطة العليا، التي قد تبدأ بالسلطة المحلية في بلدة صغيرة إلى أكبر سلطة على الكون بأكمله، إلى نوع من العبادة، بكل ما تحمل الكلمة من معاني الولاء والتكريس الكامل، إلى جانب الطقوس الصارمة الجامدة. الرئيس الحاضر الغائب، حتى وأنت في بيته لا تراه، ولكنه يسيطر عليك ويوجه كل حركاتك وسكناتك، بل إنه يسيطر أيضا على عقلك ومشاعرك. حتى أن الحارس تجتاحه مشاعر الذنب، وربما أيضا الخطيئة، عندما يضبط نفسه هاربا من هذه السيطرة الطاغية. ليصبح هذا الرئيس في النهاية هو الغاية التي يطمح الجميع، ليس في الوصول إليه، ولا حتى رؤيته، ولكن أن يقع نظر الرئيس المبجل الجليل على هذا المخلوق الضعيف البائس.

تبدأ الرواية بدخول وحيد، الملازم المستجد، إلى فرقة حراسة الرئيس، ولا تزال تتنازعه حياته الدنيا وحياته العسكرية الجديدة. يقدمه المؤلف على أن الحراسة في دمه، ورثها عن أبيه الضابط، ويأمل أن يواصل مسيرته، بل يحقق ما لم يستطع أبوه أن يحققه. وتخطر على بالك على الفور قصة الفيلم الأميركي «الحارس»، الذي يرفض بطله كيفين كوستنر في بداية الفيلم تولي مهمة الحراسة للنجمة ويتني هيوستون، لأنها ببساطة لا تعرف أن مهنة الحارس الشخصي ليست مقصورة على تأجير قوته الجسمانية، وإنما تعني تأجير كل حواسه، وأهمها عقله. لكن في الفيلم يتحول الحارس إلى صاحب السلطة الحقيقية، فهو الذي يأمر وينهي، بينما نكتشف على الفور أن حارس عزت القمحاوي مسكين، لا يمكنه أن يأمر، ولا ينهي، بل عليه الطاعة العمياء، والهروب الدائم من الراصد الذي يتابعه في كل لحظة وفي كل حركة وسكنة. نكتشف على الفور أن هناك طرفين لمعادلة السيطرة.

ينسحق الحارس إنسانيا طمعا في أن يصل إلى مرتبة تجعله قريبا من رؤية الرئيس، لينتقل بنا الكاتب من مستوى رمزي ميتافيزيقي إلى آخر واقعي حياتي، عندما يشير إلى أن هذه الترقية يتحكم فيها كل من يسكن القصر حتى مدرب الكلاب!! وفي هذا يقترب عزت القمحاوي في روايته الجديدة من عالم جبلاوي محفوظ في تعدد مستويات الرمز، وبالتالي تعدد طرق التفسير والقراءة: «... يفكر في جدوى خروج الرئيس، في حاجته إلى اتخاذ كل هذه التدابير من أجل السير في الشوارع، ولأي هدف إذا كان بإمكانه أن يحصل على كل ما يريد من غير أن يتحرك أو يراه أحد؟».. بطل الرواية اسمه وحيد. والاسم فيه دلالة الوحدة، ولكن ليس التفرد، فهو مثله مثل أي واحد ينصب حارسا على مجهول أو غيبي، بل ان الوحيدين في الرواية نفسها كثيرون حتى ليصعب التعرف على ضباط الحرس فرادى، فهم كلهم نسخة واحدة تكاد تتطابق.

أما أسلوب السرد فهو متنوع، صحيح أن المؤلف صريح الوجود والهيمنة على المواقف الروائية، ولكنه ينتقل من محرك للحدث إلى معلق عليه، إلى كاشف عما يعتمل في نفس الشخصية الروائية، بما في ذلك بعض المونولوجات الداخلية بضمير المتكلم، الذي يتماهى فيها المؤلف مع الشخصية باعتبارها نائبا عنه في الرواية، وباعتباره معبرا عنها بما يملكه من سلطة عليها. واللغة جميلة والصور فيها تطور قادر على وصف مواقف صعبة تعطي إيقاعا روائيا مميزا، مثلما نقرأ في صفحة 9: «قام إلى الشباك، فتحه، فتسلل هواء الصبح المنعش مع رائحة حريفة لبول وروث الخيول أجبرته على العطس»، مثل هذه التفصيلة التي إذا ترجمت إلى لغة سينمائية فسوف نرى شخصية على الشاشة تفتح الشباك فتعطس، ولن يكون لهذا العطس مبرر، سوى أنه مصاب بالبرد، ولن نستطيع أن نستمتع بالصورة السردية التي تحمل اللون والصوت والصورة والرائحة. ولكن الصورة سينمائية جدا تقترب من عالم والت ديزني في مقاطع أخرى، مثل العصافير التي تتوقف في وضع انتباه أمام أعشاشها وسط تيجان النخيل، ردا على الجلبة التي يحدثها طابور التفتيش الصباحي مع الخيول وقرع الطبول.

فهكذا بعد «مواقيت البهجة» التي عرض فيها رؤى ايروتيكية، و«غرفة ترى النيل» بقضاياها الوجودية، ها هو عزت القمحاوي يتورط أكثر في عرض عوالم داخلية تفسر الواقع الخارجي وتتجاوزه في تمرين فلسفي متواصل قادر على ترجمة نفسه روائيا على نحو بديع حقا.