المبدع وحيد.. ولا يمكن إلا أن يكون وحيداً

عندما يتحدث ريلكه عن الكتابة

TT

بين عامي 1903 ـ 1908 كتب ريلكه عشر رسائل الى شاعر شاب يدعى فرانز كزافير كبّوس. في الواقع أن هذا الأخير كان هو الذي ابتدأ مراسلته طالبا منه بعض النصائح لأنه يريد ان يصبح شاعرا. وكان نجم ريلكه آنذاك قد ابتدأ بالصعود بعد ان أصدر بعض مجموعاته الشعرية وبخاصة: «إليّ من أجل الاحتفال بي» (1899). وهذا الديوان هو الذي أعجب الشاعر الشاب كبوس فقرر الكتابة الى ريلكه من أجل التعرف عليه مترجيا اياه ان يوافق على مراسلته. في تلك الفترة كان ريلكه قد ابتدأ كتابة نصه النثري الكبير: دفاتر مالت لوريدز بريج. ولم يكن عمره يتجاوز الثمانية والعشرين عاما. ولكن اعجاب هذا الشاعر الشاب به دفعه الى بلورة نظريته الشخصية عن الابداع الادبي، وعن ضرورة الكتابة، أو عدم ضرورتها، وعن معنى الوجود. وعندما نطلع على هذه الرسائل التي كتبها في منتصف حياته الادبية إن لم نقل في أوائلها نلاحظ ان كل شيء كان حاضرا لديه منذ البداية. فريلكه ظل وفيا طيلة حياته لافكاره الأولى التي برعمت فيه منذ الصغر. وعلى الرغم من علاقاته الاجتماعية العديدة ولقاءاته في مختلف العواصم الاوروبية الا انه لم ينحرف ابداً عن خطه المتوحد في الابداع. فالكتابة هي ضد الوحدة والعزلة. اما العزلة فهي المصدر الأساسي للكتابة. الكاتب وحيد في هذا العالم، ولا يستطيع احد ان يساعده. تساعده فقط وحدته وعزلته وغنى داخليته الحميمية. والانسان ليس مضطرا لأن يصبح كاتباً. فهناك نشاطات ومهن أخرى في الحياة غير الكتابة وهي محترمة، بل وأكثر من محترمة لأنها ضرورية للمجتمع. ثم يوجه ريلكه كلامه بشكل مباشر ودون أي مجاملة أو مداورة ويقول لهذا الشاعر الشاب الذي يستجدي نصيحته: إياك، ثم إياك ان تكرس حياتك كلها للكتابة ان لم تكن مقتنعاً بضرورة ذلك. اذا لم تكن الكتابة تلبي حاجة داخلية، اذا لم تكن لتشكل ضرورة قصوى لا مفر منها فلا ينبغي على المرء ان ينخرط في عملية الكتابة. وبالتالي فمنذ البداية يبدو ريلكه صريحاً وصادقاً مع هذا الشاعر الشاب الذي يريد ان يترك مهنته كضابط في الجيش لكي يتفرغ لعملية الكتابة. ولكنه يتهيب اتخاذ مثل هذا القرار خوفا من الا ينجح في عالم الادباء والكتَّاب. ولهذا السبب فهو يطلب نصيحة شاعر نابغة مثل ريلكه. انه يريد منه ان يهديه، ان يساعده على اتخاذ مثل هذا القرار الذي سوف يحسم مصيره المقبل كله. ولهذا السبب ايضا نجد ريلكه حذراً في جوابه من جهة، وشديد الصرامة والوضوح من جهة أخرى. فهو يكاد يضع شروطاً تعجيزية لعملية الكتابة لأنه يخشى هو الآخر ايضا على هذا الشاعر الشاب من عملية الفشل. والواقع ان فرانز كزافير كبوس لم يشتهر فيما بعد كشاعر أو ككاتب على الرغم من انه نشر عددا لا بأس به من الروايات بعد ان تخلى عن وظيفته كضابط في الجيش الملكي النمساوي ـ الهنغاري وتفرغ للكتابة. وانما شهرته الوحيدة تعود الى انه كان مراسلا لريلكه طيلة خمس سنوات دون ان يتعرف عليه شخصيا أبداً! ثم انه نشر هذه الرسائل الشخصية في كتاب عام 1929، بعد موت ريلكه. وبالتالي فقد سجل اسمه في التاريخ. كمراسل لواحد من أكبر شعراء اللغة الالمانية على مر العصور. يضاف الى ذلك انه أنقذ هذه الرسائل من الضياع، ولو انه لم يفعل غير ذلك في مجال الأدب لكفاه فخراً.

لكن لنستمع الآن الى صوت ريلكه. يقول في الرسالة الأولى بما معناه: تقريبا كل ما يحصل لا يمكن التعبير عنه لأنه يتحقق في منطقة لم يصل اليها أبدا أي كلام. والأعمال الفنية هي الأكثر صعوبة من حيث التعبير عنها. انها عبارة عن كائنات سرية لا تنتهي حياتها التي تحاذي حياتنا الشديدة العبور.. انها ابدية خالدة، ونحن عابرون لا تسألني فيما اذا كانت قصائدك التي بعثتها لي مع رسالتك جيدة. وربما كنت سألت آخرين غيري ايضا. وسوف ترسلها حتماً الى المجلات لكي تُنشر. وسوف تقارنها حتماً بقصائد أخرى لشعراء آخرين. وربما قلقت لأن المجلات لم تسرع إلى نشرها.. بما أنك طلبت نصيحتي فإني أرجو منك ان تقلع عن كل ذلك. فنظراتك موجهة كلها نحو الخارج، وهذا ما ينبغي أن تكف عنه كليا بعد الآن. ينبغي ان تعلم ما يلي: لا أحد يستطيع ان يساعدك أو ينصحك، لا أحد. هناك طريق واحد للابداع، يا صديقي، ولا طريق غيره. ادخلْ في ذاتك، ابحث عن الحاجة التي تدفعك الى الانخراط في الكتابة. وتحقق فيما اذا كانت هذه الحاجة تضرب بجذورها عميقاً في أعماق قلبك. اغطسْ في بئر الذات، الذات كبئر عميقة لا قرار لها. واطرح على نفسك الاسئلة التالية: هل ستموت اذا ما منعوك عن الكتابة؟ ثم بشكل أخص اسأل نفسك في اللحظات الأكثر صمتاً من الليالي: هل انا مضطر فعلا الى ممارسة الكتابة؟ ثم احفرْ في أعماق أعماقك عن السبب الاكثر راديكالية. اذا كان الجواب بالتأكيد، اذا كنت تستطيع ان تواجه هذه المسألة الخطيرة ـ أي مسألة الكتابة ـ بجواب محتوم، عندئذ يمكنك ان تبني حياتك على مثل هذه الضرورة.

كيف يمكن ان نفهم كلام ريلكه هذا؟ أعتقد انه واضح وليس بحاجة الى شرح. ولكني على الرغم من ذلك فسوف أقول ما يلي: هناك فرق بين الكتابة كوظيفة خارجية يمارسها عشرات الكتَّاب والشعراء والصحافيين، وبين الكتابة كتعبير عن جرح داخلي، كانصهار في العالم أو الوجود. وبالتالي فلا يمكن ان نخلط بين كتّاب دفعوا الثمن باهظاً حتى قبل ان يكتبوا حرفاً واحداً، وبين كتَّاب سطحيين يملأون الجرائد والمجلات ودور النشر يوميا. هناك كتَّاب لم ينشروا الا كتاباً واحداً، أو بضعة كتب تُعدّ على أصابع اليد الواحدة ومع ذلك فقد ملأوا الدنيا وشغلوا الناس. وهناك كتاب نشروا عشرات الكتب دون ان تكون لكتاباتهم أي حاجة، أو ضرورة تاريخية، ودون ان يسمع بهم أحد. كانت علاقاتهم بالكتابة خارجية سطحية، غير عضوية أو غير حميمية وبالتالي فالضرورة التاريخية هي التي تبرر الكتابة، أو لا تبررها. لو لم تكن هناك حاجة ماسة «لازهار الشر»، لما ظهر بودلير، أو «للمسوسين»، أو «للجريمة والعقاب»، أو «للإخوة كرامازوف» لما ظهر درُستيوفسكي. لو لم تكن هناك حاجة ماسة «لفصل في الجحيم» لما ظهر رامبو. وقل الأمر ذاته عن اشعار ريلكه نفسه أو غيره من كبار الكتَّاب والشعراء. فالكتاب الكبار هم وحدهم الذين يتقاطع لديهم الخاص بالعام، أو الهمّ الشخصي بالهم الجماعي أو حتى الكوني. من هو الكاتب الكبير في نهاية المطاف؟ انه ذلك الشخص الذي أصيب بمشكلة شخصية أولاً، ثم استطاع ان يحول مشكلته الشخصية الى مشكلة عامة تهمّ جميع البشر. ولكن كم يتعذب، وكم يتمزق قبل ان يستطيع تحويل الماضي الى عام، أو قبل ان يجد تلك الحلقة المفرغة الضائعة التي تربط الخاص بالعام؟!.. هذا ما نقصده بالحاجة أو بالضرورة التاريخية. لكن لنعد الى ريلكه من جديد. يقول: يا صديقي العزيز، ان العمل الفني يكون جيداً اذا ما تولَّد عن حاجة أو ضرورة. وطبيعة أصله هي التي تحكم عليه. وبالتالي فلا أستطيع ان أقدم لك وصية أخرى غير هذه: ادخلْ الى ذاتك، اسبرْ الأعماق التي تستمد حياتك منها نسفها أو نبعها. فهناك تجد الجواب على هذا السؤال: هل ينبغي عليّ أن أكتب؟ هل ينبغي عليّ أن أكرس حياتي لعملية الكتابة؟ فإذا وجدت ان الفن يدعوك اليه فانخرط فيه، وإلا فأقلعْ فوراً عن هذه المسألة واشتغل شغلة اخرى. فهناك اعمال اخرى في الحياة غير الكتابة. ثم يردف ريلكه قائلاً: ربما اكتشفت انه بعد نزولك إلى الأعماق السفلية، إلى ما هو متوحد ووحيد في ذاتك، انك لم تُخْلَق للشعر أو للكتابة.. وعندئذ ينبغي ان تنصرف عنها إلى غيرها. وفي رأيي ان هناك معياراً وحيداً للانخراط في الكتابة أو عدم الانخراط، هو التالي: اذا كنت تستطيع ان تعيش بدون ان تكتب فهذا يعني انك لم تخلق للكتابة... ولكن لا تأسف على ذلك اذا كانت نتيجة الغطس في الداخل سلبية. فهذا النزول إلى أعماق الذات يطهّر الذات ويجعلك تكتشف الطريق. وهذا بحد ذاته له قيمة ومعنى. ثم يختم رسالته الثالثة اليه بالقول: أخيراً، فيما يخص كتبي، كنت أتمنى لو استطيع ان ارسل لك ما ظهر منها حتى الآن. ولكني فقير جداً، ولا استطيع ان اشتريها من المكتبات لكي أهديها إلى الأصدقاء الذين يريدون بها خيراً...

وبعد ان يقارن بين الإبداع والولادة ويعتبر المبدع بمثابة المرأة الحامل التي تريد ان تضع طفلها يقول الشاعر الالماني الكبير: كل ما لن يظهر إلا بعد زمن طويل يمكن لإنسان الوحدة ان يرسي قواعده من الآن، يمكنه ان يمهد له الطريق. ولذلك اقول لك: أحببْ وحدتك، تحمَّل آلامها، ولتكن شكواك منها جميلة.. (نلاحظ على مدار هذه الرسائل تكرر كلمة «الوحدة» عشرات المرات. ويبدو ان ريلكه يعلق عليها اكبر الآمال. فالمبدع وحيد في نظره، ولا يمكن إلا ان يكون وحيداً. وذلك لأن الانسان الذي يغمره ضجيج المجتمع او تشغله العلاقات العامة لا يمكن ان يتفرغ للصوت الداخلي، صوت الإبداع).