برنامج تلفزيوني فرنسي حر ومثير للجدل ضيوفه مشاكسون ومهمشون

الإعلامي فريديريك تاديي يشكل قطيعة مع ثقافة الرأي الواحد

النجم الإعلامي الفرنسي الصاعد فريديريك تاديي
TT

برنامج ثقافي خارج عن مألوف التلفزيونات الفرنسية، ضيوفه مشاكسون، مشاغبون وممنوعون من الظهور على الشاشات، ومحجوبة آراؤهم بالتواطؤ الضمني. انهم الآن ضيوف البرنامج الجديد الذي يعده ويقدمه فريديريك تاديي، ويمثل متنفساً للراغبين برؤية المختلف والمهمش.

أي شيء أكثر إثارة ومتعة من رؤية الناشطة الفرنسية من أصول جزائرية حورية بوتلجة Houria Bouteld- وهي الناطقة الرسمية لحركة «أندجين الجمهورية»- تقارع الكاتب ألان فينكلكروت، غير ما مرة، أو تنتقد صمت السوسيولوجي واليساري الفرنسي السابق ألان تورينAlain Touraine على انبطاح المثقفين الفرنسيين أمام ساركوزي وأفكاره اليمينية... متعة كبيرة في الاستماع إليها، وهي تدافع عن أفكارها بقناعة وجدية كبيرتين. هذه الشابة المنحدرة من الهجرة دليل على أن ثمة نساء يختلفن عن أخريات ارتضين أن يمثلن دور الكورس لدى الحكومات الفرنسية المتعاقبة (من قبيل رشيدة داتي أو فضيلة عمارة أو غيرهما).

فرصة رؤية حورية بوتلجة، كانت بفضل برنامج Ce soir ou jamais (يقدم خمسة أيام في الأسبوع) الذي يعده فريديريك تاديي الذي حصل مؤخرا على جائزة فيليب كالوني 2007 PHILIPPE CALONI المكرسة للموهبة ولحيوية الصحافي في ممارسة الحوار. اختار كالوني أن ينفتح على الكثير من الذين لا صوت لهم في المشهد الإعلامي الفرنسي. ومن الجدير بالذكر أنها ليست المرة الأولى التي تدعى فيها بوتلجة لهذا البرنامج الجاد. وعلى الرغم من الفترة المتأخرة التي يُبثُّ فيها هذا البرنامج الثقافي، أي نحو الحادية عشرة ليلا، فإن برنامج (Ce soir ou jamais) الذي تبثه القناة الثالثة الفرنسية، يشكل استثناء كبيرا في المشهد الثقافي البصري في فرنسا.

ليس معناه أنه البرنامج الوحيد، لكن البرامج الثقافية الأخرى، لا تولي كثير أهمية للاختلافات، ولما يثير الصخب والجدل ولا لشيء مختلف. صحيح أن ثمة برامج في إذاعة فرانس كولتور (فينكلكروت وألكسندر أدلير وغيرهما...)، وبرامج تلفزيونية في القنوات الأولى والثانية والثالثة أيضا، لكنها تتسم بالرّتابة وبكثير من التصنع، إن لم يكن دفاعا عن الأدب الرسمي.

تاديي، المتهم، بإعجابه بالكاتب الفرنسي الراحل جون إيدرن هاليي Jean-Edern Hallier ، أحد مؤسسي مجلة «تيل كيل»، مع فيليب سوليرز، الذي كان الرئيس ميتران يعتبره من أهم كتاب فرنسا في القرن العشرين، لا يحيط نفسه، بكثير من النقاد الأدبيين (خصوصا من مسؤولي الصفحات الثقافية)، والمتخصصين الذي يعرفون الإدلاء بآرائهم في كل المواضيع، حتى في مسألة الشوارب، كما يقول أحدهم، على غرار العديدين من معدي البرامج الثقافية.

الكثير من الذين حضروا برنامج تاديي أحسّوا بالارتياح لكونه، يتمتع بخصلة الإنصات، ويسمح لهم بالإجابة عن أسئلته، في حين لا يمنح الآخرون من مُعدّي البرامج الثقافية، الوقت الكافي لضيوفهم، ويمقتون لحظات الصمت التي تخترق الإجابات. وهو ما جعل الفيلسوف الفرنسي الراحل جاك ديريدا وبيير بورديو، على سبيل المثال، يرفضان حضور الكثير من البرامج التلفزيونية. ابتدأ عشق تاديي لهذه المهنة من خلال الاستماع للبرنامج الشهير «راديوسكوبي» لجاك شانسيل، ثم اشتغل في كثير من البرامج الثقافية والمنوعات، لكن أحلامه كانت منصبة على اليوم الذي يستطيع فيه أن يكون سيد برنامجه.

البعض من الذين يستولون على البرامج الثقافية يلومونه لأنه يستقبل شخصيات (مارقة) ومثيرة للجدل، من قبيل المحامي الكبير جاك فيرجيس reçoit Jacques Vergés والكوميدي الساخر ديودوني Dieudonné (الذي كان في وقت ما نجم الصحافة الصهيونية الفرنسية وفنانها الأكبر حين كان يعادي اليمين الفرنسي، وأصبح شخصا غير مرغوب فيه حين تجرأ على انتقاد اللوبي الصهيوني وعلى استعراض معاناة الفلسطينيين). وتاديي منتقد أيضاً، لأنه يستقبل أمثال الكاتب الفرنسي الذي حُرِم من وسائل الإعلام الفرنسية العامة لمدة تُقارب العشرين سنة مارك - إدوارد ناب Marc-Edouard Nabe، بسبب أن كتاباته اعتبرت معادية للسامية.

المراقب العربي أو غير الأوروبي، حين يرى، أحيانا، الخطابات التي يتم إنتاجها عن العالم العربي، في برامج إذاعية أو تلفزيونية، يمكن أن يحسّ بالصدمة، بالفعل، لأنه يبدو وكأن الفكر والواقع الفرنسيين لم يتغيرا، خصوصا حين يتم تجميع كتاب ومفكرين، كلهم، ويا للصدفة! متخصصون في الشؤون العربية والإيرانية وفي شؤون الإسلام، يذهبون في نفس الاتجاه فينهالون انتقادا على الفلسطينيين لأنهم لم يمدوا يدهم لتلقف حسن النوايا الإسرائيلية، أو انتقادا للخطر الإيراني، الذي لا تمثل أمامه إسرائيل النووية، أي شيء. يبدو الأمر، في هذه البرامج، التي تدعي الجدية، وكأنها تصديق من كل ضيف لآراء الآخر. في برنامج فريديرك يمكن للمشاهد أن يرى اختلافا في الآراء، أو هذا النشاز الذي قلّما نراه، حاليا، في الغرب. المتعة كبيرة، وروح المفارقة أيضا، ونحن نرى رولاند دوما Roland Dumas وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، وهو ينتقد اللوبي اليهودي، أو يعبر عن رفضه أن يحدّد الغربُ من يحاوره من العالم الإسلامي، منددا بمحاصرة إيران ونسيان الخطر الإسرائيلي. في برنامج تاديي، المشاهد على يقين أنه على موعد مع آراء متضاربة ومتناقضة، وأن الانسجام و«الهارمونيا» التي تعبر عنها برامج أخرى، حتى من التي يدعى إليها عرب ومسلمون، يكون دورهم في التعبير عن الدعم والإسناد لرؤية استشراقية أو غربية منحازة، تحل محلها مقارعة الحجة بالحجة، وفي المحصلة النهائية، نخرج برغبة في مواصلة التفكير في الموضوع، وفي هذا تنشيط للحس النقدي للمشاهد، بدل اليقينات التافهة.

الكثير من الذين تجاهلهم الإعلام «الرسمي» باتت لهم فرصة للظهور والدفاع عن آرائهم وقياس مفعول أفكارهم. كانت ثمّة فرصة لمشاهدة ألان سورالAlain Soral، الذي يعتبر نفسه مناضلا شيوعيا انضمّ لحزب الجبهة الوطنية مع الناخبين الشيوعيين الذين أصبحوا يمينيين مؤخرا، وهو يعبّر عن سخطه من سيطرة فكر رسمي، جدير بجمهورية موز حقيقية... ويبدو أن تاديي لا يترك الآخرين لا مبالين، ومن هنا أصالته، إذْ حاولت صحيفة لوموند رسم بورتريه لفريديرك تاديي نقرأ فيه، وكأننا أمام محكمة تفتيش (توابل ضرورية لتحطيم الرجل)، أن تاديي «ليبرالي وفوضي ويُسراوي من اليمين ومفكّر حر». يستعرض المقال بدايات تفتح تاديي على عالم الكتابة التي كانت مع صحيفة الأبله الدولي Idiot International الفرنسية حيث ارتبط، بفضلها، بعلاقات مع كل من مارك - إدوارد ناب (نعرف أنه عرّاب ابنه) وألان سورال. ولا يتورع المقال/ البورتريه عن لوم فريديريك تاديي، لأنه دعا إلى برنامجه، طارق رمضان وديودوني وألان دي بونواست Alain de Benoist (منشط حركة «اليمين الجديد») وغيرهم... البرنامج لا يزال مستمرا، وعدد الذين يسهرون الليل في تزايد مستمر، كما أن من يستولي عليه النوم، أمام شاشته الصغيرة يمكن له أن يستعيد البرنامج على الإنترنت. رغم المناخ السائد من سيطرة الثقافة الساركوزية فإن كُوّات صغيرة لا تني تمنح، من يرى بأنه غير مُمَثَّل في المشهد الإعلامي والثقافي والفكري الفرنسي، شيئا من الأمل... طلبت «الشرق الأوسط» من كتاب عرب رأيهم في هذا البرنامج: الروائي السوري خليل النعيمي قال بأن «البرنامج ضروري لمنح الكلام للذين يحلمون، في الحضور في البرامج الفكرية والثقافية الأخرى التي تزخر بها القنوات التلفزيونية في فرنسا». وأضاف بأنه على الرغم من وجود هذا البرنامج الجاد، فإنه لا بدّ من «ظهور برامج أخرى تعبر عن التعددية الثقافية الحقيقية في هذا البلد».

قدور زويلاي، السوسيولوجي الجزائري أكّد أن هذا البرامج يصالحنا مع القطاع السمعي البصري في فرنسا: «لا تنس أننا ندفع له ضريبة كل سنة تقارب 120 يورو، وأحيانا ونحن نرى الرداءة أو زحف البرامج المتصهينة أو التحقيرية للعربي، التي تداعب ما تبقى من أفكار كولونيالية في المخيال الغربي، نحس بالغضب من دفع هذه الضريبة». أما محمد باديش الباحث المغربي، فيرى «أنها قطرةُ ماء في بحر الإعلام التضليلي في فرنسا. إننا أمام ما نشهده هذه الأيام من بسط ساركوزي وأوساطه من كبار رجال الأعمال والمال لأيديهم على الإعلام، ليس لنا سوى أن نضع أيدينا على قلوبنا خوفا على هذا البرنامج، الذي يتعرض لكثير من الهجمات (البعض نَعوه قبل الأوان، أو حذّروا من عدم انضباطية المُقدّم)، وأن نشدد على وجوب وجود برامج من هذا النوع في المشهد الثقافي والفكري الفرنسي». أما الباحث والروائي المغربي أحمد المديني فقد رأى «أن البرنامج، دليل على حيوية الحركة الثقافية في فرنسا، وعلى أن أصواتاً لا تزال تؤمن بالرأي والرأي الآخر».