محمود سالم الشيخ متوجاً في إيطاليا كأفضل فقيه بلغتها

الوجه الآخر لتراجيديا هجرة الشباب المصري

محمود سالم الشيخ
TT

محمود سالم الشيخ، اسم مجهول في العالم العربي، لكنه ليس كذلك في إيطاليا. فقد فعل الرجل هناك، للدفاع عن الثقافة العربية، والتعريف بالإسلام في الصحف وعبر تقديمه لأحد البرامج التلفزيونية، والنبش في المخطوطات، ما تعجز عنه مراكزنا الثقافية الرسمية. وميزة الرجل انه يعمل على جبهتين جبهة التعريف بثقافته الأصل، وجبهة التوغل في فقه اللغة الإيطالية، اللغة التي توجته إيطاليا كأفضل فقهائها والعارفين بأسرارها، خاصة وان له جهوداً اساسية في مشروع المعجم الإيطالي. فمن هو هذا الرجل الذي أصبح فقيهاً بالإيطالية وهو يدافع عن فقه لغته وثقافته.

في نشرات الأخبار، وعلى صدر الصفحات الأولى من الجرائد، تقارير واسعة ومفصلة عن مآسي الهجرة إلى الشاطئ الآخر من المتوسط، وبالتحديد إلى إيطاليا. ويتساءل الناس: لماذا إيطاليا بالذات؟ ورغم أن أحدا لا يستطيع أن يجيب على هذا السؤال إجابة شافية، إلا أن الثروات الكبيرة التي يزعم بعض المهاجرين أنهم جنوها من عملهم في إيطاليا تشجع على مزيد من الهجرة لاستكشاف كنوز الطليان.

أما أن هناك ثروات في إيطاليا فهذا حقيقي، ولكنها ليست كلها في المال. فإيطاليا ليست أغنى دول أوروبا ولا أكثرها تقدما، لكن ثرواتها الكبرى تتمثل في الحضارة والفن. ركب الحضارة الأوروبية الذي انطلق مع شعرائها وأدبائها وفنانيها دانتي وبتراركا وبوكاتشو، وليوناردو ورافائيلو وميكل أنجلو، وبالتحديد من إقليم توسكانا وعاصمته الشهيرة فيرنتسه، والمشهورة في العربية باسم فلورنسا. كل هذه الأسماء ولدت وعاشت وأبدعت في هذا الإقليم، ومن هذا الإقليم شاعت وانتشرت وتغلغلت اللغة الإيطالية، التي تعود في الأصل إلى لهجة هذه المدينة، وقبل أن تصبح كذلك مرت اللغة بأطوار عديدة، بدأت باللاتينية الفصحى ومرت باللهجات الشعبية التي ولدت اللغات الرومانسية.

ثروات الحضارة الإيطالية وفقه اللغات الرومانسية كانتا هما الكنز الحقيقي الذي عثر عليه مهاجر من مصر، ذهب إلى إيطاليا في منحة دراسية من وزارة الخارجية الإيطالية عام 1961 ولم يغادرها حتى اليوم. وهو أستاذ فقه اللغات الرومانسية ونائب رئيس جامعة فلورنسا، وله العديد من الألقاب الأخرى التي كانت شاهدا على مسيرة علمية مميزة، جعلته واحدا من كبار المثقفين الذين يشار إليهم بالبنان على الضفة الأخرى من المتوسط.

إنه البروفيسور محمود سالم الشيخ، 68 سنة، أحد المسؤولين الأكثر فعالية في الحوار بين الغرب الأوروبي والمشرق العربي، بين نظامين حضاريين، يصر هو على وجود قواسم مشتركة بينهما رغم ادعاءات الكثيرين، أوروبيين وعرب، على أن الخلاف بينهما لا يمكن أن ينتهي، وأن «الصدام الحضاري» مصير لا يمكن تفاديه.

ولد محمود سالم الشيخ بالشرقية (مصر) عام 1940 وأكمل دراسته الجامعية بكلية الآداب، جامعة «عين شمس» بالقاهرة، وحصل على درجته الجامعية في الفقه الكلاسيكي عام 1961. حصل على منحة دراسية من وزارة الخارجية الإيطالية لاستكمال دراسته في فقه اللغات الرومانسية، والتحق بهذه الدورة الدراسية منذ مارس عام 1962 مع البروفيسور جانفرانكو كونتيني، الذي كان وقتئذ أستاذا بكلية الآداب والفلسفة بجامعة فلورنسا. وأنهى دراسته برسالة دكتوراه ناقشها عام 1969؛ ومنذ عام 1968 عين فقيها في مشروع المعجم التابع لأكاديمية ديللا كروسكا، ثم «مركز البحث القومي» منذ عام 1983. وهو حاليا مدير بحث بـ «مركز البحث القومي» تابعا لمشروع المعجم الإيطالي. وهو عضو مدى الحياة بـ «جمعية دانتي اليجييري» الإيطالية؛ ومؤلف البرنامج التليفزيوني « الإسلام: ثقافة وحضارة» الذي كان يذاع على القناة راي 3 كل يوم جمعة في الساعة العاشرة والنصف صباحا. وحول الثقافة العربية والإسلامية نظم مؤتمرات عديدة في روما وفلورانسا وبراتو ولولكا وبولونيا وتورينو ونوفيللارا وبوتساللو وكوللي فال ديلسا وغيرها. وعقد العديد من الندوات حول نفس الموضوع للمساجين والعاملين في فلورنسا. وهو كاتب متعاون مع العديد من المجلات والصحف الإيطالية اليومية؛ كما أنه سكرتير عام اللجنة الغربية الشرقية ـ التابعة لجامعة فلورنسا التي تهدف إلى تشجيع وترسيخ العلاقات العلمية والثقافية بين أوروبا والبلدان المشرقية، والتقريب بين ضفتي البحر المتوسط. وقد نظمت هذه اللجنة في فلورنسا عام 1997 مؤتمرا حول «الإسلام في أوروبا ـ ثلاثة عشر قرنا من التاريخ المشترك»، ومؤتمرا حول «التضامن الاقتصادي المتوسطي» عام 1998، وكذلك مؤتمر «أوروبا والإسلام ـ تقييم واستشراف في فجر الألفية الثالثة»، في روما عام 2000، وطبعت أعماله باللغة الانجليزية. وفي عام 2004 نظم بالقاهرة مؤتمرين بالتعاون مع رابطة الجامعات الإسلامية: وفي شهر سبتمبر عقد مؤتمر «الشباب في مجتمع حائر» وفي أكتوبر «التعاون الاقتصادي بين بلدان البحر المتوسط 2». وقد صدرت أعمال المؤتمر من اعداده، عن دار نشر كانتاجاللي بسيينا. وهو كما أسلفنا نائب رئيس جامعة فلورانس للعلاقات مع بلدان الشرق الأوسط والبحر المتوسط؛ وعضو اللجنة العلمية للنشر بمؤسسة مونت دي باسكي بسيينا؛ وعضو المجلس العلمي لصندوق «لمختبر المتوسطي، وعضو المجلس الدائم للقاء في فاللامبروزا؛ وعضو لجنة سياسة الاندماج التابعة لمجلس الوزراء؛ والمستشار العلمي الثقافي لعدة محافظات مثل بوتسولو وكوللي فال ديلسا ونوفيللارا وغيرها.

ولكن هذا كله لا يعدو أن يكون بيانات شخصية. أما الفضل الحقيقي لمحمود سالم الشيخ، فإنما يظهر بجلاء فيما أنتجه من نشاط علمي، وضعه في الصف الأول، وهو المكان الذي احتله منذ بداية هجرته إلى إيطاليا ولم يتنازل عنه حتى اليوم.

ورغم أنني بحثت في سيرته الذاتية عن اللقاء الأول الذي تم بيني وبينه، وكان في مدينة سالرنو بالجنوب الإيطالي، في مؤتمر عن الحضور الثقافي الإيطالي في البلاد العربية، عام 1981، والذي شاركت فيه من مصر مع نخبة من أساتذة كلية الألسن. وفي هذا المؤتمر كان البروفيسور محمود الشيخ عضوا في أكاديمية ديللا كروسكا التي تضاهي مجمع اللغة العربية بالقاهرة بالنسبة اللغة الإيطالية. ولمست بنفسي مدى الاحترام الذي يحظى به علمه وثقافته الواسعة.

لمحمود الشيخ كثير من الأنشطة الحية التي كنت شاهد عيان عليها، مثل الندوات الكثيرة التي حضرتها له، ومنها ندوة في الإسكندرية منتصف الثمانينيات عن الكاتب والمخرج الإيطالي الشهير بيير باولو بازوليني الذي كان من أصدقائه المقربين. كان كذلك من الأصدقاء المقربين للشاعر الإيطالي الكبير اونجاريتي، المولود في الإسكندرية وأحد شعراء المدرسة الهرمسية الإيطاليين الكبار. كان لهذه الصداقات، أثر عميق على التكوين الثقافي لمحمود سالم الشيخ، ولابد أنه سوف يكتب ذات يوم شهاداته عن هذه الأسماء الكبيرة التي كان لها تأثير ملموس على الأدب الإيطالي، وربما على الأدب العالمي أيضا. تماما كما كتب شهادته عن الصداقة الوثيقة التي جمعته بالشاعر الكبير أوجينيو مونتاليه الفائز بجائزة نوبل حيث نشر عنه دراسة تذكارية بعنوان «شذرات يوم خاص».

لكن النشاط العلمي الذي يعتز به البروفيسور محمود سالم الشيخ، هو ما قام به في مشروع المعجم الإيطالي الكبير، الذي بدأ في «أكاديمية ديللا كروسكا»، وانتهى لتبعية «المركز القومي للبحوث الإيطالي»، وكانت له أدوار رئيسية في ضبط النصوص وأصول الكلمات وتفسيرها، خصوصا في مرحلة الأصول، وهو العلم الذي نبغ ووضعه تحت إمرة زملائه وتلاميذه من دارسي اللغات الرومانسية واللغة الإيطالية، والذي استحق عنه جائزة «أفضل فقيه لغوي في إيطاليا». وهي جائزة لا يزال يحتفظ بها في دولابه بشقته على نيل القاهرة بالمنيل، ولم يرها أحد سواه، كأنه يغار عليها من عيون الحساد، لأنها الجائزة التي انتزعها من فم الأسد، وتفوق فيها مصري مهاجر على أبناء أهل اللغة.

وهناك مجال آخر برع فيه البروفيسور الشيخ، واستفاد فيه من تكوينه في فقه اللغات، وهو تحقيق النصوص، وبفضله تم اكتشاف وتحقيق العديد من نصوص المخطوطات العربية في إيطاليا، ونشر منها الكثير، ويستعد الآن لنشر العمل الكبير في الطب للرازي. وهذه ثروات أخرى موجودة بكثرة في إيطاليا وتنتظر من يكتشفها، وأعني المخطوطات العلمية العربية التي تمت ترجمتها ودشنت لعصر النهضة الأوروبية.

قائمة الإنتاج العلمي للبروفيسور محمود سالم الشيخ تضم في مجال فقه اللغة 46 كتابا أو بحثا منشورا، وفي المجال الثقافي العام نحو ثلاثين محاضرة وبحثا وكتابا.

كتب عن نجيب محفوظ وقدمه في عدد خاص عن الكاتب المصري الكبير، كما تحدث عنه في العديد من المناسبات سواء في كتب منفصلة أو في مقالات للصحف الإيطالية، وله بحث معروف عن نجيب محفوظ والسينما.

وكتب عن الحقائق الإسلامية التي تجاهلتها الثقافة الإيطالية عام 1998. وله بحث شهير عن دانتي والإسلام اتهم فيه دانتي اليجييري بأنه لديه عقدة المدين، الذي بدلا من أن يسدد ديونه يفتري على دائنيه. وكتب عن الإسهام العربي في الطب الغربي. وكتب عن الإسلام والأقليات المسلمة والتعايش في أوروبا، وعن الإسلام دين التعايش السلمي، وعن صورة العذراء مريم في القرآن الكريم والإسلام في المناهج الدراسية الإيطالية وموقف الإسلام في إيطاليا والفكر الإسلامي اليوم وغدا، وفكرة الفردوس في الإسلام، في إطار مؤتمر أشرف على إعداده في روما عن فكرة الفردوس في الأديان المختلفة.

ولا يزال محمود سالم الشيخ، يعيش في فلورنسا، مع زوجته الإيطالية، وابنيه اللذين يحملان اسمين عربيين، لكنهما يحملان كل ثقافة وتكوين الجيل الثاني من المهاجرين العرب في إيطاليا، واللذين يعتبرهما أدوات الحوار الحقيقي بين ثقافات اعتبر البعض، افتراء، انها متصادمة.