كيف رفع القوميون الإثنية إلى مصاف الحقيقة التاريخية؟

كتاب قد يغير معارفنا القديمة وقناعاتنا الراسخة حول نشأة الأمم والقوميات

الدولة القومية خلافا لإرادتها : تسييس الأثنيات وأثننة السياسة البوسنة، الهند، باكستان ـ ترجمة: محمد جديد ـ دار المدى، دمشق، 2007
TT

من الصعب تقديم عرض منصف لكتاب «الدولة القومية خلافا لإرادتها»، دون الإخلال بمحتواه، ففي كل صفحة من صفحاته التي بلغت 464 صفحة، يقدم كارستن فيلاند، وهو صحافي وأكاديمي ألماني، تفصيلا جديدا يغني موضوعه، ويزيدنا معرفة به. الأهم من ذلك أن الكتاب يكاد ينسف، أو يغير معارفنا القديمة، وقناعاتنا الراسخة، حول نشأة الأمم، والقوميات، والإثنيات، لا في البوسنة والهرسك و الهند وباكستان فقط، بل في سائر أنحاء عالمنا، لنكتشف أنها كانت مبنية على العاطفة، والأفكار الجاهزة.

قد يخرج قارئ هذا الكتاب برأي جديد، مستند إلى جملة من التفاصيل المبنية على معرفة نظرية عميقة، وميدانية مشخصة. فالكاتب أكاديمي يقدم فصلا يزيد عن مائة صفحة في تعريف مصطلحاته التي تتردد في الكتاب، وهي الأثنية والقومية والأمة. ثم يردف ذلك بدراسة مقارنة عن نشوء الأثنيات في كل من الهند وباكستان والبوسنة والهرسك وصربيا وكرواتيا، بحيث يمكننا القول بثقة أننا أمام نظرية جديدة تماما، مدعمة بشكل واف بالوسائل الميدانية المناسبة، عن تشكل الأثنيات والقوميات والأمم.

وعلى الرغم من إن كارستن فيلاند يفرد ثلاثة أرباع كتابه للحديث عن تفاصيل الصراع «الأثني» الذي نشب في كل من الهند والبوسنة، فإن مضمون كتابه الهام هذا إنما هو التركيز على نشوء الأفكار في الحقل السياسي أساسا، واستعمال ( أو سوء استعمال في الحقيقة) تلك الأفكار في إثارة الصراعات والأزمات بين الجماعات التي مضى على تجاورها مئات، بل آلاف السنين. وبهذا المعنى فإن الاستنتاج الجوهري الذي يمكن الوثوق به من قراءة هذا الكتاب هو أن المرء لا يستطيع الحديث عن صراع بين الهندوس والمسلمين، ولا بين المسلمين والصرب، دون أن ينتهي به الأمر إلى القول بأن مليارا من البشر يضرب بعضهم رقاب بعض. الصحيح، والحقيقي، حسب الكاتب إنما هو الحديث عن صراع ينشطه ويغذيه مؤيدون أو ناشطون، أو ساسة كبار، أو ملاك أرض.

يتصدر مفهوم «الأثنية» الكتاب، ويحقق الكاتب في السمات المميزة التي تسخر من أجل رسم الحدود بين المجموعات «الأثنية»، وفصل بعضها عن البعض الآخر كما حدث في الهند، وفي البوسنة والهرسك. وإذ يلاحظ أن الدين قد استخدم في كلتا الحالتين وسيلة تضاد رئيسية، فإنه يعمد إلى تقديم عرض مفصل لتاريخ وصول الدين الإسلامي إلى تلك البقاع.

على الرغم من أن عالم الاجتماع ماكس فيبر قد قال ذات يوم إنه لا حاجة لنا إلى هذا المفهوم، فإنه قد تحول، كما يقول الكاتب، بفضل الجدل السياسي، إلى حاجة ماسة، لدى الأطراف جميعا، أي أننا أمام مفهوم نظري غير واقعي، تمكنت أطراف كثيرة من فرضه على الواقع، واضطرت أطراف أخرى للقبول به. وهذه هي الجملة الرئيسة التي يدور الكتاب حولها، حيث يدرس كيف تمكنت قوى القوميين من إلباس هذا المفهوم لواقع مخترع، وتحويله تاليا إلى حقيقة مادية على الأرض، مستندة إلى جملة من العلامات المتوهمة، لترفعها تاليا إلى مصاف الوقائع التاريخية.

يقوم مفهوم «الأثنية» (الكاتب يضعه دائما بين علامتي تنصيص) على التقاط سمة مميزة أصلية أساسية لدى جماعة من البشر، بهدف جعلها وسيلة تضاد رئيسية مع آخرين يعيشون في المجال الجغرافي ذاته. غير أن هذه السمة قد لا تنفع في التعبئة السياسية لمواجهة آخرين، ولذلك يتم إنزال لبنات أخرى ذات سمات ثانوية، حول هذه السمة المركزية، والتأكيد عليها، أو تركيبها من أجل مهام التعبئة السياسية. أول هذه السمات الثانوية هي الدين، فالدين في رأي المؤلف لم يشكل سمة لدى أي جماعة، أو شعب. إنه عقيدة جامعة، وليس واحدا من العوامل المكونة للأثنيات. ولكن القوميون الهندوس من جهة، والقوميون المسلمون من جهة ثانية، استطاعوا عزل هذه السمة ورفعها إلى مستوى سمة رئيسية، بحيث أصبح من الممكن الإشارة إلى المؤمنين بالإسلام على أنهم «أثنية». وكان الهدف من ذلك هو عزلهم عن «الأثنيات» الأخرى التي يعيشون بجوارها.

ثمة تقنية أخرى هي تميز اللغة بالتوافق مع الدين، والقاعدة هنا هي أن من اختلف تفكيره فلا بد من أن يختلف كلامه أيضا. وقد طمح القوميون الاتنيون في البوسنة والهرسك، وفي الهند، للوصول باللغة إلى التشابك والتداخل مع السمة الدينية. ولكَنَ الوضع في الهند لم يكن مناسبا لمثل هذه السياسات، بسبب وجود الكثير من اللغات التي بتحدث بها المسلمون، ولم يكن من الممكن إيجاد لغة ترتبط بواقع اتني محدد، كلغة وحيدة، فاختار القوميون التركيز على شمال الهند، حيث تنتشر اللغة الأوردية، وجعلت لغة قومية للمسلمين، وبالمقابل جعلت السنسكريتبة لغة قومية للهندوس. غير أن القوميين في البوسنة لم يتمكنوا من تسمية لغة تتطابق مع الدين الإسلامي.

يضاف إلى تقنيات التضاد، أو خلق التضاد، بين الجماعات المتجاورة، زيادة التأكيد على العادات والتقاليد، وإعادة تأويلها، والمثال الأوضح هو مسألة تقديس البقرة، لدى الهندوس،حيث تمكن القوميون الهندوس من إثارة المشاعر الجماعية لدى المؤمنين بهذا الدين، من أجل توسيع الفجوة بينهم وبين المسلمين الذين يذبحونها، في حين لم تكن مثل هذه المشاعر موجودة قبل أن يستغلها القوميون المتعصبون لتكون رافعة من روافع الصراع الطائفي.

يستخدم القوميون التاريخ أيضا لعزل أنفسهم عن الآخرين، وفي هذه الحالة يعاد تركيب التاريخ انتقائيا، وتستغل كل الحكايات التي يمكن تصورها، ويتم اختراع أساطير تساعد في صياغة «ماض» خاص لكل ديانة، تنعقد النية على تحويلها إلى «أثنية»، بل إن بعض القوميين سعى إلى استخدام التاريخ لتزويد الطوائف بسمات بيولوجية وعرقية مميزة.وهي فكرة موروثة من أراء علماء القرن التاسع عشر، مثل رينان، وماكس فريدريش مولر.

ولكن لماذا يختار القوميون المتعصبون الدين ليكون مركزا للسياسات الأثنية ذات الطابع العدائي؟ يرى الكاتب أن الدين يفيدهم بحكم كونه سمة مميزة أولية من سمات التمايز، ومفتاحا من مفاتيح الاختلاف الأثني، كما أن استغلاله ممكن من أجل أهداف خلق التضاد، وخاصة في المراحل الأولى للتطور السياسي للمجتمعات، فالعادات والتقاليد والثقافة والديمقراطية لا تنفع كثيرا في أغراض التعبئة السياسية، إذ لا يحدث أن تستثار الحشود للدفاع عن العادات، أو عن الثقافات، ولا عن الديمقراطية، خاصة في ظل ظروف لم تتعرف فيها الشعوب إلى منافع الديمقراطية، بالعكس من ذلك، يمتلك الدين طاقة تعبوية هائلة، ينجح القوميون في الاستفادة منها، ليحولوا الدين إلى طاقة نسف، بدلا من أن يكون مركز تسامح وعبادة.

لا يأتي الكاتب على ذكر إسرائيل إلا مرة واحدة، في سياق عابر، على الرغم من أن نشوء إسرائيل يتطابق مع جميع العناصر الفكرية التي أوردها في كتابه لدراسة نشوء الدول القومية على أساس دين، بل إن إسرائيل يمكن أن تكون مثالا صارخا على تحويل الدين إلى أثنية متعصبة. يمكننا أن نعذر الكاتب لأسباب منهجية،إذ أن كتابه مخصص للمقارنة بين تشكل القوميات في البلقان، وتشكل مثيلاتها في شبه القارة الهندية، علما أنه يشير في أحد هوامشه إلى أكثر من مرجع يدرس مسألة ارتباط الأرض بالقومية بالدين عند الصهاينة.