مذكرات محقق أميركي في سجن «أبو غريب»

وجد في حرب العراق فرصة لتعلم اللغة العربية التي أحب أهلها

الكتاب: تخويف قاس ـ المؤلف: توني لاغورانيس ـ الناشر: كاليبار، نيويورك
TT

بعد مرور قرابة خمس سنوات على غزو العراق، نشرت دور النشر الاميركية اكثر من ثلاثين كتابا عن الغزو وعن العراق. كتب اغلبية هذه الكتب صحافيون (عن مشاهداتهم). وكتب بعضها اكاديميون (عن خلفيات تاريخية للموضوع). وكتب غيرها مسؤولون اشتركوا في حكم العراق بعد الغزو (مثل العراقي علي علاوي، والاميركي بول بريمر). أخيرا، ظهرت كتب من نوع جديد: مذكرات ضباط وجنود اميركيين حاربوا في العراق، منهم جنرالات (مثل تومي فرانك، قائد الغزو، الذي كتب مذكراته)، اشتركوا في الحرب الحقيقية، وأحدهم كتب مذكرات عن التحقيق مع المعتقلين العراقيين في سجن ابو غريب، وآخر مذكرات عن احتلال الفلوجة. وثالث دون مذكراته عن معارك مع المسلحين بالقرب من الحدود مع سورية.

عن التحقيق داخل سجن ابو غريب، كتب توني لاغورانيس كتابه «تخويف قاس: رحلة سوداء لمحقق عسكري في العراق». وواضح من اسم الكتاب ان ما فيه لا يدعو للفرح والابتهاج والنصر. لكن، ربما لم تكن نية المؤلف سوداء وقاتمة، وذلك لأنه ذهب الى العراق «سعيدا» بظهور فرصة ليتمرن على اللغة العربية التي كان بدأ يتعلمها "حبا في العرب" كما يقول.

رحلة سوداء

* ليست هذه اول مرة تتحول فيها النوايا الحسنة الى «رحلة سوداء». لكنها واحدة من مرات قليلة يملك فيها شخص الجرأة، مهما كانت نوعية هذه الجرأة، ليكتب كتابا عن تعذيب الناس. لن يكون لاغورانيس آخر محقق اميركي يفعل ذلك، لأن اخبارا نشرت في الاسبوع الماضي ذكرت ان محققا في وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي ايه) سيكتب كتابا عن اشتراكه في التحقيق مع «الارهابيين» في السجون السرية في دول شرق اوروبا. ولابد ان الكتاب سيجد اقبالا واهتماما، خاصة بسبب اخبار الشهر الماضي التي أفادت بأن الاستخبارات المركزية مسحت شريط فيديو فيه مناظر تعذيب اثنين من الارهابيين: ابو زبيدة، وعبد الرحيم الناشري.

شرح كتاب لاغورانيس تفاصيل تعذيب العراقيين في سجن ابو غريب بطريقة تدعو للتقزز. وربما لا يجب نشر هذه التفاصيل هنا. لكن، يكفي القول بأنها عن احتقار المعتقلين، واحتقار دينهم، ولونهم، وعائلاتهم، وقيمهم الاخلاقية. انها عن استعلاء، وعنجهية المحققين الاميركيين. انها تعتبر عن احساس مريض بأن الاقوى هو الاحسن.

قاعدة هواشوار

* الغريب ان لاغورانيس يقول ان اوامر التحقيق مع العراقيين، في البداية، لم تشمل التعذيب. وذكر ان رؤساءه في القاعدة العسكرية في فورت هواشوار (ولاية اريزونا) طلبوا منه، ومن غيره، الالتزام بقوانين جنيف لأسرى الحرب. لكن، في العراق، اضاف رؤساؤه «تحسينات» على طرق التعذيب، سموها «تخويف قاس». (ومن هنا اسم الكتاب). ويتكون «التخويف» هذا من خطوتين:

الاولى: «تخويف عادي» لقول الحقيقة.

الثانية (اذا لم تنجح الاولى): «تخويف قاس» لقول الحقيقة. لكن، ما هو معنى «قاس»؟

كتب مؤلف الكتاب، في خليط من تبرير وخجل: «استعملت الكلاب لتخويف المعتقلين. واستعمل الماء البارد جدا أيضاً»، وأضاف، في خجل واضح: «استعمل غيري وسائل اكثر قسوة من ذلك». وقال انه، وزملاءه، درسوا (ومارسوا) اساليب تعذيب مارستها القوات الاسرائيلية ضد الفلسطينيين، ومارسها البريطانيون ضد العرب والأفارقة والآسيويين عندما كانوا يستعمرون بلادهم.

ولم ينف انه، في البداية، اعجب بهذه الاساليب، وقال: «وجدت فيها رجولة، وقوة، ونصرا».

اعذار ومبررات

* حاول لاغورانيس البحث عن اعذار ومبررات للتعذيب. قال انه لم يذهب الى العراق للتنزه. ولكن للاشتراك في الحرب، وكان يحيط به جو من القتل والدمار. كان يسمع ازيز الطائرات وهي تقصف، وأصوات المدافع وهي تدمر. يقول «كان الاعداء يقتلون زملائي وأصدقائي». وكان لابد من الحصول على معلومات مسبقة لضمان عدم قتل مزيد منهم. ولهذا كان لابد ان تكون التحقيقات «قاسية، او شبه قاسية».

غير انه، بعد فترة، غير رأيه. فقال: «فكرت كثيرا خلال أشهر طويلة. واكتشفت ثلاثة اشياء قبيحة: اولا: انني اعذب عراقيين ابرياء. ثانيا: انني اعذب وكأن التعذيب شيء عادي. ثالثا: ان هناك جانباً اسود قاتماً في طبيعتي». قالت دار النشر التي نشرت الكتاب، تبريرا لنشر مثل هذه الاعترافات: «نلاحظ ان هناك جانبين في قصة لاغوارنيس: الجانب الاول: التعذيب الذي مارسه. والجانب الثاني: ضميره وقيمه الاخلاقية». واضافت: «هذه قصة حرب. ليست عن حرب العراق. وليست عن اي حرب في اي دولة. ولكنها حرب داخل عقل شخص معين (لاغورانيس). حرب بين الضمير والفعل، وانتهت بالاعتراف».

دار النشر:

* وبررت دار النشر بأن الخطأ لا يمنع الاعتراف به. وان الاعتراف بالخطأ لا يمنع نشره للناس «ليستفيدوا ويتعظوا».

هل هذا تفسير (او تبرير) كاف؟

نعم، هناك صلة وثيقة بين كتاب لاغورانيس وما يحدث الآن في واشنطن بسبب قرار الرئيس بوش، بعد هجوم 11 سبتمبر، بأن تستعمل القوات الاميركية، ورجال الاستخبارات «اساليب تحقيق قاسية». رفض بوش أن يفسر كلمة «قاسية»، وقال: إن التفسير «يهدد الامن القومي الاميركي لأن الارهابيين سيعرفون طرق التحقيق معهم، ويستعدون لها، ويتمرنون للاجابة عنها».

هل هذا تفسير (او تبرير) كاف من رئيس اميركا؟

على اي حال، أخيرا، بدأت اصوات داخل البنتاغون (وليس داخل البيت الابيض) تبعد نفسها عن كل موضوع التعذيب. ويعود الفضل في ذلك الى الجنرال ديفيد بيترايوس، قائد القوات الاميركية في العراق.، الذي قال: «القوات الاميركية المسلحة لا تؤيد، ولا تمارس، تعذيب الناس للحصول على معلومات، ولا تشجع غيرها على القيام بذلك».

مواجهة لاغورانيس

* تهز اعترافات لاغورانيس كل من يقرأها. لكن، لا يقدر اي قارئ عاقل على ان يسعد بها. ربما يريد واحد ان يبررها (مثل صاحبها، ومثل ناشرها). وربما يريد آخر ان يدينها، مثل كثير من الناس.

وهناك سؤالان: اولا: هل تبرير التعذيب يقلل من بشاعة التعذيب؟ (يبدو ان هذا هو رأي لاغورانيس، ورأي الدار التي نشرت الكتاب).

ثانيا: هل الاعتراف بالتعذيب يساعد على التطهير؟

قبل أشهر، ذهبت لورا بلومينفيلد، صحافية في صحيفة «واشنطن بوست» الى شيكاغو لمقابلة لاغورانيس، للاجابة عن هذين السؤالين. وكتبت: «كتابه عن الخوف والتخويف. لكنه، هو نفسه، كان خائفا عندما جلست الى جواره وسألته عن تجاربه في العراق».

كان خائفا وهو يتحدث عن كلب اقترب من معتقل عراقي حتى كاد ان يعض اعضاءه التناسلية، وهو ينبح نباحا قاتلا، وكان يرتعش وهو يتحدث عن المعتقلين العرايا، وعن رائحة عرقهم ورائحة برازهم.

لم ينكر، واعترف: «نعم، عذبت، وعذبت، وعذبت».

وقال انه يحس «بتوتر يهزمه، وقلق يكاد يقتله». وتذكر جلسة تحقيق شملت جدا، وابنه، وحفيده. وتذكر اغنيته المفضلة: «التعالي الروحي والنجاح الجنسي». وتذكر انه كان يجبر المعتقلين ليسمعوها، رغم انهم ما كانوا يفهمون كلمة فيها، ولا كانوا يفهمون الصلة بين الاغنية والتحقيق معهم.

ولاحظت صحافية «واشنطن بوست» ان لاغورانيس تردد في دخول القطار من مطار شيكاغو (حيث قابلها) الى وسط المدينة. وتردد في الخروج من القطار. واعترف لها: «كلما ادخل مكانا، احس ان شخصا يجبرني على ان ادخل. وكلما اخرج من مكان، احس ان شخصا يجبرني على ان اخرج».

نعم، صار لاغورانيس المحقق ضحية تحقيقاته. وصار الذي يخيف ضحيته ضحية تخويفه. وصار القوي ضعيفا. وصار المتعالي صغيرا.