مصائر شخصية في مواجهة مقلب سياسي كبير

السوداني جمال محمد إبراهيم في رواية زمنها ما بعد زيارة السادات إلى إسرائيل

TT

الراوي دبلوماسي سوداني، مشاعره العربية واقعية وعميقة لدرجة شعر معها باليتم عند مغادرته القاهرة، بعد نقل مقر الجامعة العربية إلى تونس

تبدو الثيمة العامة في (نقطة التلاشي) الرواية الأولى للسوداني جمال محمد إبراهيم (دار الساقي 2008 ) وكأنها حكاية عاشقين يتعرضان لمقالب الأيام، فيذهب هو مفتشاً عن ظلالها في مقاهي تونس، بينما تظل هي مع ذكرياتها في شوارع القاهرة، لتنتهي الحكاية أو تبدأ من جديد في لحظة هي أكبر من مفاجأة.

لكن النص ينطوي على أكثر من ذلك. فبالإضافة إلى أحداثه ومفارقاته العديدة، ثمة إشكاليات إنسانية وأخرى فنية عديدة أيضاً. أول هذه الإشكاليات تبدأ من ملاحظة الناشر والمؤلف كون (كل الأشخاص الذين حفلت بهم هذه الرواية، وتجولوا في فصولها وأحداثها، هم من نسيج الخيال. ولكن لخشية الكاتب والناشر أن يتبادر إلى ذهن القارىء أنهم أناس حقيقيون، فقد رأيا بأن يُذكّرا بهذه الحقيقة دفعاً لأي إلتباس). وأكثر الظن أن هذه الملاحظة ليست للتشويق بقدر ما تشير إلى (سلطة) القيم الاجتماعية التي لا تسمح للكاتب العربي أن يتحدث عن تجاربه الخاص كما حدثت في الواقع. وهذه (السلطة) غالباً ما يؤدي نفوذها إلى تعطيل الفكر والخيال، وهي، على كل حال، أمر واقع يدفع الكاتب العربي ضريبته في الغالب، حيث العديد من الإشكاليات الإنسانية يتم التغاضي عنها بسبب ذلك، ما يجعل النصوص الأدبية والفكرية محرومة من أحد أهم عوامل قوتها وعمقها.

نحن إذن أمام نص أدبي هنا، ولسنا أمام وقائع محددة لشخصيات معينة. نص روائي بمسميات وشخصيات تدور في فضائها الذي يتصل بالواقع وينقطع عنه في تناغم مستمر، كما هو حال النصوص الروائية في الغالب، إختار له جمال محمد إبراهيم زماناً ومكاناً أو أمكنة واقعية لجعلنا في مواجهة مفارقات إنسانية محتملة الوقوع أو هي معادل موضوعي لتجربة معينة، وهذا هو شرط مقبولية أي عمل أدبي.

المكان الأول هو القاهرة، والزمان هو ما بعد زيارة الرئيس المصري الراحل الشهيرة إلى القدس، فتنعكس نتائج هذه الزيارة بشكل حاسم على مصائر الشخصيات الرئيسية في النص، لكن رغم أن الحدث سياسي إلا أن هذه الشخصيات ليست سياسية وتأثرها بالحدث ليس ردة فعل حزبية أو ما شابه ذلك، بل هم مجموعة الدبلوماسيين العرب، موظفي جامعة الدول العربية التي تقرر نقل مقرها من القاهرة إلى تونس حينذاك. الراوي دبلوماسي سوداني، مشاعره العربية واقعية وعميقة لدرجة شعر معها باليتم عند مغادرته القاهرة. تبدأ الرواية هكذا ( ها قد جئنا إليك يا تونس، وعلى أكتافنا حقائب ملأى بالذكريات الحزينة والاخفاقات الصغيرة التي تتخفى في ثناياها بعض أفراح محفورة في الذاكرة، ونقش لن تمحوه نسائم هذه المدينة الخضراء الجميلة، ولا رمالها الرطبة ولا ماؤها الأجاج ولا خفر نسائها الطيبات. طويتُ صفحة القاهرة، حزمت حقائبي الملأى برسائل الأصدقاء والصديقات... وقلت وداعاً لأيامي الزاهيات وتاريخي الذي أشرق في القاهرة، حين التحقت بالإدارة العربية في أمانة الجامعة العربية، قبل أيام السادات الطويلة، التي تركتنا وراءها أيتاماً) لنكتشف بعد قليل أن السبب الخفي لمشاعر اليتم هذه، له أبعاد شخصية أيضاً، فالراوي كان خلال فترة وجوده بالقاهرة يعيش حالة حب غير محسومة مع زميلة مصرية تعمل معه، ليكتشف في اليوم الأخير قبل المغادرة أن ثمة أشياء كثيرة كان ينبغي أن يقولها لكنه لم يفعل، ما ترك مسحة من الحزن والارتباك على تفاصيل ساعات لقائهما الأخير قبل مغادرة القاهرة.

بعد ذلك ندخل تفاصيل الرواية وفضاءاتها التي لا تبدو فسيحة بما فيه الكفاية، بسبب غياب التقنيات أو المفاجآت الأسلوبية، فنحن أمام سرد مثقل بانقسامه إلى خطين متوازيين ولغتين تختلف الواحدة منهما عن الأخرى، وهنا تكمن الإشكالية الفنية للنص، أي في أزدواجية المادة السردية وتداخلها بين (يوميات) الراوي التي تتراوح بين إنعكاسات الأحداث السياسية على عمله ومشاعره ومحاولة تكيفه مع المكان الجديد، حيث نكون مع لغة متوقّعة لأحداث تاريخية قريبة ومعروفة، توازيها لغة السياق الروائي المتدفقة صعوداً وهبوطاً وفق إيقاع الأحداث والمشاعر التي ستلتبس أكثر وأكثر حين يرتبط الراوي بنجاة، الفتاة التونسية الطيبة التي أعادت له شيئاً من التوازن لكنها في نفس الوقت أججت عنده مشاعر الشوق الجارف إلى فاطمة القاهرية (ما أن تغيب نجاة بن عرفة عن كهفي حتى تتكاثر عليَّ جحافل الشجن القاهري، فتعمل أسيافها بدون رحمة. كانت بالأمس نجاة معي، جرفتنا أمواج الكلام والشعر وحلقنا معاً في سموات مضيئة مثل عصافير فرحة... لكن طيف فاطمة القاهرية يطبق عليَّ ويرجني رجاً كاسحاً مدمراً..) هذا التوزع في المشاعر بين امرأتين ومكانين سينعكس على مجريات النص وإيقاعه وتحولات الاحداث وطريقة استقبال الراوي لها.

الموضوع الروائي كما نلاحظ، ينطوي على جرأة أدبية تكمن في مواجهة مصائر بشرية فردية، كانت ضحية لنتائج مقلب غير متوقع، مقلب سياسي كبير بغض النظر عن موقفها منه، وهو، أي الحدث، اقترن في الغالب بالسياسة أكثر من اقترانه بالأدب، ومن هنا تأتي أهمية النص، ولكن أيضاً من محاولة الكاتب اقتحام تفاصيل وأحداث تهزّ قيمه ومفاهيمه عن الحب والصداقة والعائلة والخيانة الزوجية وأنماط سلوك زملائه في العمل ثم الاختلاف الثقافي في طريقة الحياة بين المجتمع السوداني التقليدي والمجتمع التونسي المتحرر الذي يبدو أقرب لفهم إنسانية الإنسان ونوازعه الشخصية وحاجته الدائمة للحب والحرية والفرح: (ملأت نجاة عينيّ بحركاتها وتمايل جسمها وضممتها بذراعيَّ عندما انتهى اللحن الراقص. ارتمت على كتفي من الأعياء. قبلتها في جبينها بامتنان. تعالت بعض همسات من حولنا.

- هؤلاء المغاربة يبرعون في الرقص، في مشيتهم إيقاع وطرب. قالها أحدهم وسط زحام الحلبة واختفى. صحت أنا بأعلى صوتي:

- كلا. أنا من السودان، من السودان، يا هذا.

لكن توزع النص بين لغة تدوين اليوميات وبين اللغة الروائية التي تحتاج إلى جهد آخر مختلف في فهم نوازع البشر وتقلب مواقفهم، جعل الروائي أحياناً يركز على مشاكل العاشق الخاصة وليس على فضاء الحب ولغته التي يُفترض أن تقوده إلى مناطق أخرى وأدوات مختلفة في لمس الأشياء والمشاعر. ربما يعود سبب ذلك إلى محدودية الخبرة التي تبدو واضحة عادة في العمل الروائي الأول. فلغة اليوميات تتراوح بين البحث عن شقة للإيجار مرة وتفاصيل العمل الدبلوماسي مرة أخرى وحتى تفاصيل الحب تبدو أحياناً غير مقنعة ( كنا حين نغادر معاً من بوابة مبنى الأمانة العامة تتبعنا العيون والألسن، تلسعنا بهمسات كالسياط. كانت سمرة لوني وبياض بشرتها يثيران حفيظة بعض هذه العيون، وبعض تلك الألسن الظالمة. يختبىء الكلام القبيح خلف النظرات المريبة. كانت حساسيتي في هذه الناحية مفرطة أول أيام التحاقي بالجامعة العربية. لقد اشتبكت في عراك غير مجدٍ مرتين حول فاطمة سالم. قال أصدقائي إنني أحمق لا غير. خذ فتاتك بعيداً وانطلق..) ونعثر مقابل هذا الكلام على لغة أخرى مختلفة (تضاعف اختلال الأشياء من حولي. اضطرب ثباتها. كل شيء أراه استثنائياً ومؤقتاً، بل منقطعاً، بلا ماض يعطي الانتماء معناه وإطاره، بلا مستقبل يعطي الحياة مبررات أن نعيشها). على أن اليوميات بذاتها ليست هي المشكلة إنما اللغة أو زاوية النظر التي تؤثر على نوعية اللغة، لذلك نجد وصف اليوميات أحياناً يغني تفاصيل السرد الروائي، خصوصاً تلك التي تتعلق بكواليس الدبلوماسية العربية واقتراب أو ابتعاد بعض الدول عن مراكز القرار.

وبقدر ما يتعلق الأمر بالراوي الدبلوماسي المصدوم بالأحداث والعاشق والإنسان الطافي على لجج الجسد وصبواته، تشف اللغة في سياقها الروائي بغض النظر عن التفاصيل المثارة وخلفياتها (كتبت لي فاطمة من القاهرة رسالة ملأى بالأشواق والأماني. حكت لي عن الإحباط العام الذي أخذ بخناقها في القاهرة بعد رحيلنا، وكيف أنها افتقدت أمانة الجامعة العربية بنسائها ورجالها، بصخبها العميم وسكونها النادر، وكيف أن الفراغ الذي خلّفناه كان أكبر مما يتصوره العقل. ما يزيد على الثلاثين عاماً هوت إلى قاع النسيان، وصارت المباني في ذلك الشارع العتيق، أشبه بالبيوت المهجورة، المسكونة بالشياطين والجن والأشباح. لكني قرأت رسالتها حتى نصفها وأهملت البقية. أنا في تونس الآن بين يدي مليكتي نجاة بن عرفة، فهل كانت فاطمتي واقعاً عشته أم أنني بالفعل سقطت في فجوة برمودية أفقت بعدها في تونس؟) لكن هذه الحالة ستبدو عابرة تماماً، حيث ستتصاعد أشواقه إلى فاطمة وإلى القاهرة كلما ازدادت المفارقات والصدمات الكبيرة والصغيرة التي واجهته في تونس بين مكاتب أمانة الجامعة وبين البحر والأصدقاء والليل والمقاهي، إذ يجعله كل ذلك يشعر بفراغ روحي متزايد، فيقرر الاستقالة من وظيفته والعودة إلى القاهرة. وفي مطار تونس صار يُسقط عواطفه العفوية حتى على الطائرة المصرية القادمة: «عبر الزجاج السميك عبر الرذاذ المنهمر، كنت أتفرس في ملامح الركاب القادمين.. ولكن ملامحهم لا تكاد تظهر، يبدو القادمون متشابهين في ملابسهم، في حركتهم وهرولتهم على أرض المطار المبتلة. لكني رأيتها. نعم رأيتها. من بين كل المغادرين من الطائرة المصرية، تبينت ملامحها التي لا تغيب عن ذاكرة الوعي أو ذاكرة الحلم. تلك هي فاطمتي قادمة إليَّ، خطواتها واثقة، سنديانة قادمة إليَّ، أكاد أسمع أنفاسها، أكاد أشم عطرها رغم هذا الجدار الزجاجي السميك. اختلَّت حواسي جميعها في تلك اللحظات، فصحت بأعلى صوتي: يا فاطمة، يا فاطمة، يا فاطمة....)