شاعر لم يعرف الخطوط الحمراء

صلاح عيسى ينشر وثائق وملفات قضائية عن محاكمات أحمد فؤاد نجم

TT

صدر اخيرا عن دار الشروق بالقاهرة كتاب «شاعر تكدير الأمن العام، الملفات القضائية للشاعر أحمد فؤاد نجم «دراسة ووثائق» لمؤلفه صلاح عيسى، رئيس تحرير جريدة «القاهرة». ولد الشاعر أحمد فؤاد نجم عام 1929 في إحدى قرى محافظة الشرقية. وبعد وفاة أبيه التحق بملجأ خيري للأطفال اليتامى والفقراء، وفر له الإقامة ومبادئ التعليم والتدريب على بعض الحِرَف. وظل بالملجأ تسع سنوات كاملة، ثم التحق ببعض المهن الحرفية إلى أن عيّن بوزارة المواصلات، إلى أن ألقي القبض عليه سنة 1960 بتهمة الاشتراك مع زميل له في تزوير أوراق حكومية. وفي فترة السجن تعرف نجم على كتاب شيوعيين ممن اعتقلهم جمال عبد الناصر منذ عام 1959 واستمع منهم إلى قصائد لشاعر العامية المصرية البارز فؤاد حداد الذي كان معتقلا هو الآخر في ذلك الحين. ويمكن القول إن موهبة الشاعر أحمد فؤاد نجم قد تشكلت بصورة أساسية داخل السجن، حيث بدأ كتابة الشعر وهو في زنزانته الخاصة سنة 1961. في هذه الأثناء كان نجم يقضي عقوبته لاتهامه بالاشتراك في تزوير استمارات حكومية، وفي مسرح سجن مصر العمومي بالقلعة، عقد الشاعر ندوات شعرية، كما نشر أولى تجاربه في المجلة التي كانت تصدرها مصلحة السجن ويحررها المسجونون.

وكانت قصائده آنذاك بمثابة اللبنة الأولى لديوانه الأول «من الحياة إلى السجن»، الذي تحمست لنشره الدكتورة سهير القلماوي وكتبت له مقدمة طويلة. ولاحقا، تعرف نجم على الشيخ «إمام عيسى» الذي كان يعيش في حارة «حوش قدم» بالغورية بالقاهرة القديمة، لتنشأ بينهما علاقة وطيدة امتدت لربع قرن من الزمان.

وكانت ظاهرة الطبقة الجديدة من الظواهر التي ميزت سنوات التحول الاشتراكي في مصر حينئذ، وهي التي ألهمت نجم أولى قصائده السياسية «يعيش أهل بلدي»، التي كتبها في ربيع 1967، حيث كثر الحديث وقتها عن الفساد الذي دبّ مبكرًا في جسد الاشتراكية الناصرية، ثم أتبعها بقصيدته «التحالف»، التي سخر فيها من شعار التحالف بين قوى الشعب العاملة.

وما إن كتب نجم أولى قصائده السياسية «يعيش أهل بلدي» حتى اشتعل التوتر فجأة في المنطقة في 15 من مايو 1967 بعد أن أذيعت أنباء عن حشود عسكرية إسرائيلية على حدود سورية، ثم ما لبث أن قامت الحرب، والتي كتب نجم في اليوم الرابع منها قصيدته الثالثة «رسالة»، وصاغها على صورة خطاب أرسله حسن محارب خفير بقرية «برج الحمام» بأقصى صعيد مصر إلى ابنه «عبد الودود» الجندي الذي يربض على الحدود، وعندما علم نجم أن الجيش قد انهزم، وأن عبد الودود قد ارتد إلى الضفة الغربية لقناة السويس، اكتفى نجم بأنه غيَّر مطلع القصيدة من «واه يا عبد الودود.. يا رابض على الحدود» إلى «واه يا عبد المتعال.. يا رابض على القنال».

وفي الليلة ذاتها 8 من يونيو 1967 كتب نجم قصيدته «بقرة حاحا»، التي وصفها في مذكراته بأنها «أولى قصائد الرد على الهزيمة»، وهي في الحقيقة عبارة عن بكائية في رثاء مصر.

يتناول صلاح عيسى في الجزء الأول من الكتاب تاريخ ما يسمّى «بالجرائم التعبيرية»، مثل الشعر والأغاني والأفلام والمسرحيات والقصص، وما تعرض له الفنانون في مصر في العصر الحديث، حيث يرصد 12 قضية في وثائق التاريخ المصري المعاصر تضم أوراقاً قضائية «تتخذ من الإبداع الأدبي والفني والفكري جسماً وحيداً للجريمة»، أولاها قصيدة لمصطفى لطفي المنفلوطي (1866 - 1924) اُعتبرت آنذاك طعناً في الذات الخديوية، حيث استقبل بها الخديوي عباس حلمي الثاني (حكم بين عامي 1892 - 1914) عندما عاد من مصيفه بالاستانة عام 1897 وسجن المنفلوطي بسببها لمدة عام كامل.

ويؤكد صلاح عيسى في أكثر من موضع أن أحمد فؤاد نجم كان حريصاً على استقلاله كشاعر شعبي لدرجة أنه «رفض كل محاولات المنظمات الشيوعية لضمه لعضويتها لكي يكون صوتاً لها»، الأمر الذي تسبب في توتر العلاقات بينه وبين مثل هذه المنظمات. وفي الواقع، يُعد نجم الملقب بالفاجومي من أبرز شعراء القصيدة ذات الطابع السياسي. كما شكّل مع صديق عمره الشيخ إمام (1918 - 1995) ثنائياً رائعا منذ الستينات، فأزعجت قصائده السلطات المصرية وأدت الى اعتقالهما في عهدي الرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات.

يستند صلاح عيسى في قضية نجم الى الأوراق القضائية متمثلة في تحقيقات النيابة العامة مع الشاعر بسبب «قصائده المناهضة» في أعوام 1972 و1973 و1974 و 1975 و1977 والتي انتهت بتقديمه في العام الأخير الى محاكمة عسكرية حكمت عليه بالسجن سنة بسبب قصيدة «بيان هام» التي تضمنت «الاسم الكودي للرئيس (السادات). وتتناول القصيدة بياناً مهماً يلقيه زعيم الدولة شحاته المعسل من العاصمة «شقلبان».

وفي هذا الإطار، يقول صلاح عيسى ان محاكمة نجم بسبب قصيدته هذه «بيان هام»، لم تستغرق أمام المحكمة العسكرية سوى أسبوع واحد، حيث صدر الحكم يوم 25 مارس (آذار) 1978 بحبسه سنة مع الشغل والنفاذ، بعد أن أدين بتهمتي اهانة رئيس الجمهورية وإثارة الفتن. وظل نجم هارباً من تنفيذ الحكم أكثر من ثلاث سنوات الى أن قبض عليه مرة أخرى أثناء حملة طالت مثقفين وصحافيين في (أيلول) 1981.

وعلى الرغم من أن جيل نجم وإمام أقاما في هامش الثقافة الرسميّة، وشبه الرسميّة، إلاّ أنهما أسّسا إحدى اللحظات القليلة عربيّاً، حيث الهامش ينافس المتن في فعاليّته ويفوقه، حتماً، شباباً وحيويّة. وكانت السلطة الناصريّة قد اعتقلت الشيخ إمام، ذات مرّة عام 1969، من أجل أغانيه، كما اعتقلتهما معا، مرّة أخرى، بذريعة تعاطيهما المخدّرات!

كان الثنائي «متمردَين» في كل مرحلة. فأحمد فؤاد نجم الذي أصبحت التلفزيونات تأتي الى باب بيته للقائه في التسعينات، طرد من على باب التلفزيون المصري في السبعينات، والشيخ إمام انطلق بعد ذلك إلى مصر بصحبة عمه ليدرس في الجمعية الشرعية أصول التجويد القرآني على يد الشيخ محمد رفعت. لكنه طرد من الجمعية فيما بعد. وعاش حياة التشرد، ينام ليلاً في المساجد، وفي النهار يقرأ في البيوت والمقاهي وفي حفلات خاصة متنقلاً في أحياء القاهرة الفقيرة إلى أن وصل إلى حارة الغورية، حيث التقى هنالك بكبار شيوخ الطرب فتعلم على يد الشيخ درويش الحريري العزف على آلة العود.

وبعد لقائه أحمد فؤاد نجم شكلا ثنائياً وأنجزا الأغاني السياسية الانتقادية. وبذلك مارس الشيخ إمام التمرد فناً ومسرحاً. كان ما يلبث أن يخرج من السجن حتى يعود إليه هو ورفاقه، مطلقين من الزنزانة الصغيرة أغنيات سرعان ما تجتاح الشارع. جاء في إحداها: «اتجمعوا العشاق في سجن القلعة، اتجمعوا العشاق في باب النصر، اتجمعوا العشاق في الزنزانة، مهما يطول السجن مهما يطول القهر، مهما يطول السجن في السجانة، مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر».

وإذا كانت «بقرة حاحا»، كما قال نجم هي أولى قصائد الرد على الهزيمة، فقد كانت قصيدة «الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا، يا محلا رجعة ضباطنا من خط النار»، أول البلاغات الحربية، كما قال هو مرة، التي صدرت من غرفة عمليات «حوش قدم»، وقد كتبها في الشهر نفسه بعد أن اتضح الحجم الكامل للهزيمة، والقصيدة تربط بين الهزيمة والفساد وبين انعدام العدل وخيانة المثقفين، فـ «أهل مصر المحمية بالحرامية» ضائعون يعيشون في ليل الذلَّة، بينما مصر الدولة «غرقانة في الكذب علاوله، وكفاية أسيادنا البعدا، عايشين سعدا/ بفضل ناس تملا المعدة/ وتقول أشعار/ أشعار تمجد وتماين حتى الخاين/ وانشالله يخربها مداين عبد الجبار». وخلال أسابيع كانت القصيدة التي لحّنها وغناها الشيخ «إمام عيسى» تنتشر كالنار في الهشيم، إذ كانت كما يقول نجم «أول اشتباك مع السلطة وأول هجوم صريح وجريء على عبد الناصر شخصيا».

وتبعا لذلك شدّ عشرات المثقفين الرِّحال إلى المنزل رقم «2» بحارة «حوش قدم»، حيث يقيم «الشيخ إمام ونجم»، يستمتعون بإعجاب إلى النغمة الغنائية الجديدة بعد أن كشفت الهزيمة عن الأوهام الثورية التي كانوا يعلقونها على النظام الناصري. وكان احتشاد المثقفين حول ظاهرة «نجم/ إمام» من بين الأسباب التي حالت دون اعتقالهما، على الرغم من أن حالة الطوارئ كانت معلنة.

لكن هذا الوضع لم يستمر طويلاً، ففي 30 من إبريل 1969 وقعت الواقعة التي أخرجت السلطة الناصرية عن حيرتها حول الطريقة التي تتعامل بها مع نجم وإمام، إزاء إصرار نجم على تجاوز الخطوط الحمراء في أشعاره، وطبقًا لرواية يذكرها صلاح عيسى في هذا الكتاب، فإن عبد الناصر أصدر أوامره باعتقالهما، فقال له شعراوي جمعة: «المشكلة أن اعتقالهما يمكن يعمل دوشة بين المثقفين»، فرد عليه قائلا: «بلا مثقفين بلا كلام فارغ.. اعتقلهم»، وبالفعل صدر قرار اعتقال «نجم» في 15 من مايو 1969 وسرعان ما لحق به الشيخ إمام بقرار آخر صدر في أول يونيو من العام ذاته، واستمر الثنائي رهن الاعتقال لمدة تزيد على العامين، مات خلالها عبد الناصر ولم يفرج عنهما السادات إلا عند التصفية النهائية للمعتقلات وضمن آخر 4 معتقلين تحديدا في 21 أكتوبر 1971.

ومن القضايا المهمة التي يتناولها الكتاب قضية الانتماء إلى تنظيم «اليسار الجديد»، الذي اتهم نجم بالانضمام إليه، فقد وجد نجم نفسه يساق من جديد إلى السجن فجر يوم الخميس الثاني من يناير 1975 هو وزوجته، التي انفصل عنها فيما بعد الكاتبة صافيناز كاظم وابنته التي كان عمرها آنذاك 14 شهرًا لينتقل بعد ساعات إلى معتقل القلعة، وتظهر ملفات التحقيقات مع نجم وزوجته في معتقل القلعة حجم الاهانة التي لحقت بالشاعر وزوجته وطفلته الرضيعة التي باتت معهم في غرفة الحجز.

كانت قصيدة «فاليرى جيسكار ديستان» التي كتبها نجم يسخر فيها من زيارة قام بها الرئيس الفرنسي ديستان إلى مصر عام 1975 بمثابة المسودة الأولى لقصيدة «بيان هام» والتي يقول فيها «هنا شقلبان/ محطة إذاعة حلاوة زمان/ يسر الإذاعة ولا يسر كوش/ بهذي المناسبة ولا بندعيكوش/ نقدم إليكم شحاتة المعسل/ وبدون الرتوش/ شبندر سماسرة بلاد العمار/ شحاته المعسل حبيب القلوب/ يزيل البقع والهموم والكروب/ يأنفس يأفين يبلبع حبوب/ ويفضل يهلفط ولا تفهموش».

وعن مأساة «تل الزعتر» بفلسطين كتب نجم قصيدته «موَّال مصري فلسطيني»، التي يقول في مطلعها: «يا أمه مويل الهوى/ يا أما مويليا/ طعن الخناجر ولا حكم الخسيس فيا». كما كانت أحداث الشغب في 18، 19 من يناير 1977 أو ما سُمِّي آنذاك بانتفاضة الجياع أو انتفاضة (الحرامية)، كما اطلقت عليها السلطة، كفيلة بأن تقود نجم مع عدد من الكتاب إلى بوابة المعتقل في ليمان طرة، بسبب تأليفه قصائد يهاجم فيها الأوضاع السياسية والاقتصادية بالبلاد، منها قصيدة بعنوان «موّال الفول واللحمة»، وأخرى بعنوان «القضية»، إضافة لقصيدة أخرى كتبها أثناء وجوده بالسجن بعنوان «رسالة رقم 1 من سجن طرة» القصيدة - كما قال نجم بعد ذلك - مكتوبة على غلافين داخليين لعلبتين من علب السجائر، وقد تم التحقيق مع الشاعر بسببها، وعلى خلفية الاتهام بالتحريض والانتماء لحزب العمال الشيوعي، تم حبسه مع بقية المتهمين.

وبعد أكثر من 3 سنوات على وقوع أحداث يناير نظرت خلالها القضية أمام إحدى دوائر محكمة أمن الدولة العليا، وصدر الحكم في 19من إبريل 1980 ليقضي ببراءة الشاعر من التهم المنسوبة إليه.