بعد نصف قرن من الحرمان.. الفنانون المغاربة يرتاحون تحت شمس الاعتراف بحقوقهم

ضمان صحي مع بطاقة مهنية وخروج تدريجي من عنق الزجاجة

TT

هل يتحول وضع الفنانين المغاربة إلى نموذج يحتذى في الدول العربية الأخرى؟ هذا السؤال لم يكن ممكناً، منذ سنوات قليلة فقط، حين كان الفنان المغربي عارياً من الحقوق، بسبب غياب القوانين والتأمينات التي تحفظ كرامته. لكن بعد نصف قرن من الحرمان والاستعطاء من أجل العلاج، وقضاء الأيام الأخيرة من دون سند, ها هو الفرج يصل، ولو متأخراً، وبالتقسيط. مئات الفنانين بات لهم ضمان صحي، وبطاقة الفنان في طريقها إلى المبدعين، والقوانين بدأت تسنّ لحمايتهم. هذا لا يعني ان كل مشاكل الفنانين قد حلّت، لكن القطار وضع على السكة، في ما لا يزال الأمر يتعثر في غالبية الدول العربية. ماذا يحصل في المغرب؟ ومن وراء هذا الإنجاز؟

* تحقيق

* الفنانون المغاربة بمختلف مشاربهم، يعيشون وضعية مقلقة. غير أن هذه الوضعية بدأت تتغير تدريجياً، بعد ظهور «الائتلاف المغربي للثقافة والفنون». فهذه الهيئة التي ظهرت سنة 2000 في سياق شبكة عالمية للدفاع عن خصوصية الثقافات المحلية، تصدت لاحقا للدفاع عن وضعية الفنانين المغاربة. وهي تضم اثنتي عشرة نقابة وهيئة وغرفة مهنية، تنتمي لمجالات المسرح والسينما والموسيقى والأدب والتلفزيون والتصوير الفوتوغرافي. وتتميز وضعية أغلب الفنانين المغاربة، ولا سيما الوجوه المعروفة سينمائيا وتلفزيونيا، بالهشاشة المادية والاجتماعية. وعندما يتعرض أغلبهم لمتاعب صحية، فإنهم يبقون عرضة للضياع، فلا تشفع لهم شهرتهم ولا إبداعاتهم في التمتع بحماية اجتماعية كريمة. ولذلك كثيرا ما تدخل القصر الملكي لعلاج النجوم المغاربة بعد أن تغلق أبواب المستشفيات في وجوهم. وهنا يمكن أن نمثل لهذه الوضعية الملتبسة بحالات مبدعين مغاربة معروفين عانوا الأمرين بسبب المرض، نذكر من بينهم محمد شكري، محمد خير الدين، باطما، مغني فرقة ناس الغيوان الأسطورية، علي الحداني كاتب أغلب الأغنيات الشهيرة في المغرب، ولولا تدخل الجهات العليا لماتوا مشردين في الشوارع.

الموقف من المبدعين، عموماً، يمكن أن نقرأه في ضوء تاريخ المغرب الحديث. فالدولة همشت الثقافة لاعتبارات آيديولوجية ودجنت الفن لخدمة السلطة. وبالتالي، فهذه النظرة الارتيابية أبعدت الكتاب والمفكرين وأغلبهم كانوا متشبعين بالثقافة التقدمية، ثم كالت بمكيالين للفن، حيث أنعمت على المقربين من السلطة وأغمضت العين عن بؤس الفنانين المستقلين. لذلك لا يمكن لنا استيعاب ميكانيزمات أزمة الفنانين والمثقفين في المغرب إلا في علاقتهم بدينامية المجتمع السياسية. يقول أحمد العلوي، نائب رئيس الائتلاف المغربي للثقافة والفنون: «وضعية الفنان المغربي معقدة جدا. فهو يجر وراءه نصف قرن من الحيف. لم يكن هناك قانون أو تنظيم أو هيئات نقابية تسعى للتأطير الصحيح لهذا المجال بالطرق الصحيحة. فجل الفنانين لا يتمتعون بتغطية اجتماعية. فما دام الفنان يشتغل فهو يعيش، لكن إذا أصابه مكروه فحياته وحياة أسرته تصبح في مهب الريح..».

يعتبر صدور «قانون الفنان» سنة 2003 بمثابة مكسب تاريخي. إذ رغم الصعوبات التقنية التي اعترضت تفعيله، استطاع ضمان وضع اعتباري مستقل للفنان. وتم توقيع شراكة بين وزارة الثقافة والائتلاف المغربي للثقافة والفنون، حيث استطاعت هذه الاتفاقية أن تضمن مرحليا تغطية صحية لـ700 فنان مغربي، بغلاف مالي بلغ 3 ملايين و800 ألف درهم. هذه الخطوة المصيرية في حياة الفنانين يدينون بها لوزير الثقافة السابق محمد الأشعري. فرغم العيوب التي شابت تدبيره لشؤون الثقافة، فإن هذا الإنجاز يبقى محسوبا له. فالتغطية الصحية، شملت بالإضافة إلى 700 فنان في كل القطاعات الثقافية أسرهم من أبناء وزوجات. مما جعل عدد المستفيدين يتجاوز الألف من الناحية العملية، كما سيستفيد الفنانون من التأمين على الحياة. هذه المعالجة الإنسانية التي تأخرت نصف قرن، اعترفت جزئيا بأهمية الثقافة والفن في مجتمع سائر في طريق النمو، وفي أشد الحاجة إلى العقل والترفيه والتثقيف لمواجهة فقهاء الظلام الذين تفرخهم تفريخا، الظروف المزرية التي يعاني منها مجتمع كالمغرب، رغم مؤهلاته الجغرافية والاقتصادية والبشرية. وقد قال الممثل المغربي المعروف محمد بسطاوي عن هذه التغطية الصحية: «الفنان المغربي عانى كثيرا والتغطية الصحية حلم تحقق». وفي الواقع، فإن أغلب الكتاب ينتمون إلى قطاع التعليم والصحافة، والمغنون والملحنون يشتغلون في المراقص والفنادق المصنفة لضمان عيشهم والممثلون يبقون رهينة شركات الإنتاج والمخرجين والقنوات التلفزيونية. ومن الأكيد أن أنفة وكبرياء الفنانين والكتاب، منعتهم لسنوات من عرض ضعفهم على الجمهور العريض. وقد كانت هناك حالات أيضا سلطت فيها نقابة الفنانين وجمعيات الكتاب الأضواء على وضعيات صحية لا تحتمل. وفي المغرب يتذكر الجميع رحيل الكاتبة المغربية مليكة مستظرف التي كانت في حاجة إلى كلية أو معاناة العربي باطما ومؤخرا كاتب الكلمات الشهير علي الحداني. ونظراً لتكرار هذه التراجيديا طالبت هذه الجمعيات بتأسيس صندوق مستقل يحفظ للفنانين ماء وجههم دون اللجوء الدائم لطرق أبواب القصر الملكي الذي لا يبخل على الفنانين بالعلاج. وهذا تقليد دأبت عليه المؤسسة الملكية في المغرب منذ عقود. هذا المطلب بصدد التحقق الآن. فقد أعلنت مؤخرا وزيرة الثقافة ثريا جبران إنشاء تعاضدية الفنانين. «تعاضدية الفنانين مكسب جديد للفنانين المغاربة. وأنا سعيدة بحضور الجمع العام لانتخاب المجلس الإداري والمكتب المسير، وباركت هذا الحدث كمسؤولة حكومية وفنانة. لا أخفي اعتزازي بهذا المنجز. وستعمل وزارة الثقافة مع وزارة الاتصال على تدعيم هذه الخطوة ماديا ومعنويا لضمان استمراريتها». وزيرة الثقافة التي جاءت من مضمار الفن المسرحي، تعي جيدا وضعية الفنانين المتسمة منذ عقود بالاعتباطية والهشاشة.

تأتي أيضا في خضم هذه التحولات بطاقة الفنان. وهي خطوة إجرائية لتقنين مجال يسمه أحيانا بعض التسيب، حيث ينتعش فيه الكثير من الدخيلات والدخلاء باسم الفن. هذا الوضع الشائن، ساهمت فيه بعض النقابات المهنية التي كانت تصارع أساسا من أجل امتيازات أصحابها. وقد شوشت أحيانا هذه البنيات ـ التي استفاد أفرادها من التغطية الصحية وبطاقة الفنان ـ على المفاوضات الجارية، بين الائتلاف المغربي للثقافة والفنون والدولة لتحسين وضعية الفنانين. والسؤال المطروح في سياق هذه الصراعات الجانبية هو التالي: كيف يسمح موظفون عموميون لأنفسهم بمنافسة فنانين وأدباء على التغطية الاجتماعية وهم يتمتعون بها في مهنهم؟ لذلك فخروج بطاقة الفنان وتعميمها على مستحقيها، يقرّ لأول مرة، لهؤلاء الجنود المجهولين، بجدارتهم في الحصول على مقعد تحت شمس الاعتراف المجتمعي. أما استثناء بعض الفنانين من الشق الاجتماعي نظرا لانتمائهم إلى الوظيفة الرسمية، فمسألة لا تستحق كل هذه المزايدة السياسية التي تسمم سيرورة إصلاح أوضاع الفن والثقافة في المغرب. فهذه البطاقة تخضع لمعايير محددة من بينها التفرغ التام للمهنة، غياب دخل ثابت وعدم التوفر على تأمين مهني. هذه المكتسبات الجديدة بدأت تنظم القطاع تدريجيا، لكنها ما زالت في حاجة إلى تضافر جهود الهيئات النقابية والمهنية لتلعب دورها على أحسن وجه أمام المحاورين المؤسساتيين.

رغم هذا التقدم النسبي تبقى وضعية الممثلين مهزوزة مثلا، في مجالات السينما والتلفزيون. فهم يشتكون من غياب إطار قانوني ينظم عقودهم مع شركات الإنتاج. فكثيرا ما تنشر الصحافة المغربية بيانات ورسائل احتجاجية لممثلين لم يحصلوا على أجورهم في هذا الفيلم أو ذاك المسلسل. وما هذه الحالة إلا نتيجة منطقية لغياب إطار قانوني يضمن للفنانين حقوقهم. فلا يكفي طبعا ضبط الوضع الاعتباري للفنانين، بل ينبغي أيضا على المؤسسات الرسمية أن تقنن العلاقة التعاقدية بين الفنانين والجهات التي تتعامل معهم، سواء كانت رسمية كالتلفزيون أو خاصة كشركات الإنتاج. يقول المنتج التلفزيوني عز العرب العلوي: «علاقة الممثل بشركات الإنتاج علاقة إشكالية. بمعنى أن هذه العلاقة لا تنظمها لا قوانين ولا نظم. إذ يغيب عنها المركز السينمائي والنقابات المهنية والقنوات التلفزية. فالعلاقة في النهاية تحددها المفاوضات الشخصية بين المنتج والممثل».

إذا كان غياب الضبط القانوني هو الذي يبخس الفنانين حقهم، فثمة أيضا بعض المنتجين الذين لا يهمهم سوى الاغتناء السريع، خصوصا أن ميدان الإنتاج مفتوح على مصراعيه أمام كل من يمتلك المال وقد لا يمتلك الكفاءة الفكرية والمهنية ليبدع فيه. دون أن ننسى ظاهرة بعض الممثلات أو الممثلين الذين عانوا من ظلم الإنتاج التلفزي، فقاموا بتأسيس شركات للإنتاج للظفر بملايين الدعم. غير أن الإشكالية المطروحة هنا تتمثل في مستويين: كفاءتهم في إدارة الإنتاج، ومصداقيتهم في تعويض زملائهم تعويضا نزيها. فخطر مثل هذه المقاربات تعود أساسا إلى رغبة بعض المنتجين في الاغتناء والتسلق الطبقي على حساب الفن والفنانين. كما أن هذه الفوضى القانونية تطرح إشكالا آخر يتعلق بالفنانين العرب، الذين يحيون سهرات في المغرب ويحصلون على أجورهم بالعملة الصعبة ويرحلون دون أن يدفعوا الضرائب،

علاوة على أن الهيئات المهنية المغربية لا كلمة لها في فرض وجهة نظرها على الحضور الفني اللبناني أو المصري أو السوري في المغرب كما هو الحال في البلدان العربية الأخرى وعلى رأسها مصر. والأدهى أن المهرجانات الثقافية والفنية التي تنظم في كبريات المدن المغربية تستثني الفنانين المغاربة من برمجتها، وتصرف الأموال الطائلة على فناني المشرق العربي، لأن مغني الحي لا يطرب، كما يقول المثل. لذلك فمطلب الائتلاف المغربي للثقافة والفنون، في هذا السياق بالذات يتمثل في ضرورة دفاع الدولة المغربية عن فنانيها، لاسيما في المهرجانات الكبرى التي تمول من جيوب دافعي الضرائب المغاربة.

وفي الأخير، فإن الفنانين بدأوا يخرجون من عنق زجاجة الواقع المزري. وأصبحت الدولة تعي أن صورة الفنان المغربي، لا يمكن أن تتجذر في المجتمع وتلعب دورها في التوعية والتثقيف والترفيه دون إعادة الاعتبار له رمزيا وماديا. هذه الإرادة السياسية يجب أن يصاحبها، تضامن مكونات الجسم المهني والنقابي للدفع بعجلة الثقافة والفنون إلى الأمام. فنصف قرن من الحيف في حق الفنانين المغاربة، لن تطوي صفحته بسهولة. لكن نضال نقابات المهنيين والإرادة الرسمية بإمكانهما معاً، وضع قطار الإصلاحات على سكة الكرامة والنجاح لكل المبدعين المغاربة.