المؤسسة الشعرية بقيت محصنة أمام موجة الحداثة

50 عاماً من الشعر و55 شاعراً بريطانيا في أنتولوجيا بالعربية

TT

عن دار «المدى» للإعلام والثقافة والفنون بدمشق، يصدر قريباً للزميل فاضل السلطاني كتاب «خمسون عاماً من الشعر البريطاني»، وهو يغطي المراحل التي مر بها هذا الشعر من عام 1950 حتى عام 2000، وسماتها وملامحها العامة. ويضم الكتاب قصائد مترجمة لخمسة وخمسين شاعراً ينتمون لمختلف الفترات والمدارس الشعرية، مع مقدمات تعرف بكل شاعر. هنا مقتطفات من مقدمة الكتاب:

ما ترجم من الشعر الانجليزي، في مختلف مراحله المتقدمة والمتأخرة، إلى العربية، قليل جداً مقارنة بالشعر الفرنسي مثلاً. وإذا استثنينا شكسبير، ومن الشعراء المعاصرين تي. اس. اليوت، لا نجد أن شاعراً قد ترجمت أعماله الكاملة، ولا نقرأ سوى قصائد متفرقة لهذا الشاعر أو ذاك منذ الشعراء الرومانتيكيين حتى يومنا هذا. وأكثر من ذلك، لا يكاد القارئ العربي يعرف شيئاً عن الشعر الانجليزي بعد الحرب العالمية الثانية. فقد توقفنا عند وليم بتلر بيتس، ازرا باوند، وتي. اس. اليوت، وبعدهم عند ستيفن سبنسر ودبليو. اتش. اودن بشكل خاص. وكان في ذلك خسارة كبيرة، إذ حرم القارئ، والشاعر بشكل خاص، من الاطلاع على تجارب شعرية، هي من الأغنى عالمياً، في تصورنا، في النصف الثاني من القرن العشرين، وهي ربما تكون الأقرب، كما نحسب، إلى طبيعتنا ووجداننا وتجاربنا الحياتية والشعرية، من الشعر الفرنسي مرة أخرى. ونحن نقارن بين الاثنين، لأنهما الأكثر تأثيراً في الشعر العربي منذ أكثر من خمسين سنة، أي منذ عرفنا الشعر الحديث الذي ما كان ليولد ربما من دون تأثير الشعر الانجليزي في بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وزملائهما، كما هو معروف، ولاحقاً قصيدة النثر في لبنان بتأثيراتها الفرنسية.

والذي نريد قوله هنا، إن الترجمة لعبت دوراً حاسماً في تحديد الاتجاهات الشعرية العربية، خاصة في حالة قصيدة النثر. إننا نعتقد أن هناك مدرستين في الشعر العربي لم تتم، للأسف، دراسة أساليبهما أو أشكالهما المتناقضة، ورؤيتهما للشعر وللحياة، وطرائق التعبير عن كل ذلك، وهما المدرسة العراقية، والمدرسة اللبنانية، وهما المدرستان المهيمنتان على مجمل الشعر العربي، وهما ولدتا بتأثير انجليزي وآخر فرنسي كما هو معروف. في المدرسة الشعرية الأولى، نلمس خصائص مشتركة مع الشعر الانجليزي: الغنائية، النزعة الواقعية العامة، الالتزام، إلى درجة كبيرة، بالإيقاع الموسيقي الخارجي (الوزن بمختلف أشكاله). وهي خصائص ميزت الشعر العراقي والانجليزي في كل مراحلهما.

ومن هنا، لم تزدهر قصيدة النثر كحركة في العراق ـ وهنا لا نتحدث عن فترات لاحقة كما في الثمانينات والتسعينات اللتين عرفتا ظروفاً خاصة جداً، وبحاجة إلى تناول مستقل ـ كما لم يكتب النجاح، فكرياً وفنياً، ما عدا بعض المحاولات شبه السوريالية في الستينات والسبعينات. أما بالنسبة للشعر الانجليزي، فالأمر هو نفسه تقريباً. فبينما ازدهرت قصيدة النثر في فرنسا ابتداء من ستينات القرن التاسع عشر مع بودلير بقصائدة النثرية القصيرة، ما زالت قصيدة النثر خجولة الحضور في المشهد الشعري، وقلما تعثر عليها. كذلك، لم يعرف الأدب الانجليزي الشعر السوريالي سوى في ثلاثينات القرن الماضي، مع ديفيد غاسكوين، الذي عاش لفترة في فرنسا، وعرف بول ايلوار ولويس اراجون، في مرحلته السوريالية، اللذين التقاهما في فرنسا أثناء اقامته هناك. وبقي غالسكوين 1916 ـ 1999)، الشاعر السوريالي الوحيد تقريباً المعترف به في الشعر البريطاني لحد رحيله وحيداً في مدينته ومعتزله، جزيرة آيل اوف وايت، من دون أن ينجح في خلق حركة شعرية على غرار زملائه الفرنسيين، ومات من دون أن يتبعه احد.

أما الخاصية الأخرى التي لا بد من الوقوف عندها هنا، فهي النزعة الواقعية العامة التي اتسم بها الشعر البريطاني، التي ميزته في مختلف مراحله. ولا نعتقد ان هذه النزعة ونعني بها الواقعية، بالمعنى الأوسع للكلمة، تثير التهكم في أي مكان من العالم، بقدر ما تثيره في البلدان العربية، نتيجة سوء الفهم أحياناً، ونتيجة الجهل أحياناً أخرى. وكما نلاحظ في معظم القصائد المترجمة هنا، إنها ليست سوى الاهتمام بمطلق الإنسان، وعالمه الحسي، وطبيعته الملموسة، ومكانه، وشروط وجوده في هذا العالم وفي هذه اللحظة من التاريخ، والانطلاق من الخاص إلى العام، وليس العكس كما في الفلسفة. وهي خاصية أخرى تميز هذا الشعر عن الشعر الفرنسي الحديث المهتم عموماً بالذهني، والمجرد، أكثر من اهتمامه بالحسي والملموس ابتداء من الشعراء البرناسيين ولحد الآن كما عند شعراء كثيرين.

ولعل سبب ذلك، عائد إلى أن فرنسا منذ القرن الرابع عشر، هي بلد الفلسفة التي وصلت إلى أقصى تجلياتها الآن، وبلد الثورات التي غيرت التاريخ، والانفجارات التي هزت العالم أكثر من مرة، بينما عرفت بريطانيا الاقتصاد السياسي، أي الارتباط العملي بحركة المجتمع، وازدهرت فيها الاشتراكية الفابية، التي لم تدع يوماً إلى قلب المجتمع عنفياً، وقويت فيها النقابات العمالية التي اتخذها فريدريك انجلز مثالاً على قدرة الطبقة البرجوازية على تضليل الطبقة العاملة وبرجزتها.

إننا نتحدث هنا عن اتجاه عام في الشعر الفرنسي، حسب تقديرنا، ولا نصدر حكماً قيمياً، كما إننا، أيضاً، لا نصدر حكماً قيمياً حين نتحدث عن النزعة الواقعية في الشعر البريطاني. فالواقعية، وبمعناها الواسع مرة أخرى، تحتاج إلى مجسات شعرية ليست عادية لالتقاط تجلياتها المحتجبة غالباً وراء سطح الواقع السميك، والحركة اليومية المتشابكة والفوارة دائماً. ومن هنا، اتهم الشعر الانجليزي في بعض مراحله، وحتى من بعض أهله، بأنه محلي، إقليمي، محدود النظرة، كما قال الناقد والشاعر ألفاريز عن شعر الستينات. وعزا ذلك إلى ما سماه Gentility، بما يمكن ترجمته بالدماثة أو الكياسة، فالحياة الانجليزية منظمة، كثيراً أم قليلاً، والناس مهذبون كثيراً أم قليلاً، وإن عواطفهم وعاداتهم محتشمة، ومسيطر عليها كثيراً أم قليلاً.حكم ألفاريز هذا يحمل قدراً كبيراً من الصحة، مقارنة بما كان يحدث في بقاع اخرى من العالم عرفت ثورات شعرية هائلة مترافقة مع هزات اجتماعية جذرية احدثت قطعاً كبيراً مع الماضي في أكثر من بلد، وبشكل خاص في فرنسا المجاورة.

بقيت بريطانيا، كالعادة، محصنة أمام التأثيرات التي يمكن أن تعكر «حياتها المنتظمة»، وتربك إيقاعها الموزون، وتفسد «ناسها المهذبين»، وتحرك عواطفهم يساراً، ولو قليلاً، وتطرح أسئلة حول «عاداتهم المحتشمة» بتعبير ألفاريز.

لقد احدث عقد الستينات خلخلة كبيرة في المفاهيم الاجتماعية والأخلاقية والثقافية إلى درجة القطيعة مع ما سبقه، إلى هذه الدرجة أو تلك، في قسم كبير من البلدان المتقدمة والمتخلفة على حد سواء، إلا في بريطانيا التي حافظت على انسيابها الطبيعي، ما عدا ربما ثورة البتلز الموسيقية التي انطلقت من ليفربول، ونجحت في اختراق العالم كله، لكنها فشلت في اختراق ما يسمونه في بريطانيا «المؤسسة»، ومنها المؤسسة الثقافية. وحتى ثورة باوند الشعرية في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، وتفجرات مدرسة اكسفورد، مع اودن بشكل خاص، انحسر تأثيرهما مع الزمن، واستطاعت المؤسسة العريقة استيعابهما تدريجياً، ولا نكاد نلحظ تأثيرهما في الأجيال الشعرية اللاحقة.

لقد ظل الشعر الانجليزي، كما يقول بيتر فنتش، صاحب كتاب «انسكلوبيديا الأدب البريطاني»، يدور طوال خمسين سنة، في بيئة مركزية، ذات هيمنة ذكورية، وأكاديمية، بعيداً عن «الحداثة»، والتعددية الثقافية.

وقلما برزت اصوات عملاقة قادرة على احداث الاختراق الكبير، خارج كل المدارس والتصنيفات ومواصفات المؤسسة.

فما قبل الاربعينات في القرن الماضي، هيمن شعراء ثانويون، سُمّوا شعراء ما قبل الحرب، مثل اف. اس. فلنت (1885 ـ 1960)، وما سُمّي بـ «شعراء الجيورجيون»، مثل وولتر دي لامير، ودبليو. اتش. ديفيز (1871 ـ 1940)، بأشعارهم الريفية والرومانسية الساذجة، مقارنة بالشعراء الرومانتيكيين العظام في القرن التاسع عشر: شللي وكيتس وبايرون.

وأمام غياب القامات الشعرية الكبيرة الملهمة في سنوات الحرب العالمية الثانية الطاحنة، برز تأثير شعراء الثلاثينات، مرة أخرى، على شعراء ما بعد الحرب الذين اطلق عليهم النقاد تسمية «شعراء الرومانتيكية الجديدة»، مثل فيرنون واتكنز (1906 ـ 1967)، ودبليو. اس. غراهام (1918 ـ 1986)، وجورج باركر (1913 ـ 1991)، ثم تسمية «شعراء الرومانتيكية الرؤيوية».

هل انتهى العصر الذهبي للشعر الإنجليزي الذي عرفناه في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين؟ يرى ستيفن سبندر ان مركز النشاط الشعري انتقل بعد مدرسة اوكسفورد، وكان هو احد روادها مع اودن، وان يكن اضعفهم شعرياً، من لندن إلى نيويورك، كما انتقل الرسم من باريس الى نيويورك. وفي حالة كهذه، لا بد أن يقوى الاتجاه نحو الداخل، أو الانغلاق، بكلمة أخرى، مما يعني العودة إلى حضن المؤسسة بدرجة أو أخرى. واتخذ هذا الاتجاه بعده الأقصى مع شعراء الحركة، التي شكلت علاقة فارقة في الشعر البريطاني في النصف الثاني من القرن العشرين. وهو اتجاه عريض لا تجمعه سمات معينة، بقدر ما وحّده رد الفعل تجاه الحداثة و«العالمية». انه اتجاه بريطاني أو انجليزي بامتياز. وكان من ابرز وجوهه الشاعر فيليب لاركن، ودونالد ديفي، واليزابيث غنسنغس، ودي. اجي. اونرايت، وكنغسلي آمس، وتوم غن. وكان منظره الأساسي دونالد ديفي، كما في كتابه «نقاوة الأسلوب»، لكنه ناقض كل آرائه الواردة في هذا الكتاب فيما بعد وانفتح اكثر على ما أسماه «الحداثة الأميركية»، اضافة الى تأثره بالشعر الروسي، خاصة شعر بوريس باسترناك.