الانتقال من القصيدة الزمانية إلى القصيدة المكانية

«جزع بابلي» والشعر الممسرح في العراق

TT

«جزع بابلي»، ديوان جديد للشاعر العراقي المغترب صلاح حسن. بمَ يختلف هذا الجزع؟ يقول الشاعر في قصيدة «تيه»: «يا إلهي لقد وصلنا / ولكننا ما زلنا تائهين» (مؤرخة عام 2002 لاهاي). ما من محنةٍ، ما من إحباط، أشدّ من هذا التيه: أن تصل ولا تصل في آنٍ واحد. ما الذي تفعله؟ هل تعيد رحلة حياتك من جديد؟ ربما تصل، كما في المرّة الأولى، وتبقى تائهاً. هذا هو اليأس المطبق لا ريب.

حينما يُشَلّ تفكير الإنسان ولا يرى حلاّ تكون محنته أكبر من أية مواساة. مأساة هذا الإنسان (أو القوم)، تظهر باستغاثته:«يا إلهي»، وكأنّه تأكّد فعلاً من عجزه عن القيام بأيّ فعل لا بدّ له من نجدة. هذا بالضبط ما يعاني منه العراقي، وكأنْ من قديم الزمان،:«يا إلهي لقد وصلنا/ ولكننا ما زلنا تائهين»

قبل هذا الديوان، أصدر صلاح حسن ثمانية عشر عملاً شعريا ومسرحياً (تخرج في أكاديمية الفنون الجميلة – قسم المسرح)، ومعظمها تُرْجِم إلى اللغة الهولندية خاصة وبعض اللغات الأخرى. وكان هذا الشاعر محظوظاً فتخصّص في المسرح، في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد، وهي أكاديمية مرموقة وعريقة أي أنّه وجد وسيلة أخرى، للتعبير عن نفسه، هي غير الوسائل الشعرية التراثية، أطلالاً بسقط اللوى وحومل، أو جنّاً أو بقر وحش، أو نساء نؤومات الضحى ومحرّمات. ربما بهذا التأثير، باتت القصيدة لدى صلاح حسن ممسرحة، أي انتقل مع بعض من الشعراء الشباب كرعد مشتت وطارق حربي، وكريم عبد، والراحل قاسم جبارة  وهاشم معتوق، من القصيدة الزمانية إلى القصيدة المكانية. المعروف أن الشاعر العربي عموماً يعزف المعنى، لأنه ابن الحداء والموسيقى. بينما الشاعر الغربي يمسرح المعنى، لأنّه متأثّر بالمسرح.

يبدو أن أولى القصائد المكانية الممسرحة بالعراق، ظهرت في ديوان «الوتر الجاحد» لأكرم الوتري (نُشِر عام 1947).

كان أكرم الوتري الشاعر الوحيد من بين شعراء جيله كالسياب ونازك الملائكة، الذي يمكن أن نقول عنه شاعر مدينة.

هكذا يحاول صلاح حسن أن يؤسس مع لداته مبدأ تغافل عنه الشعر العربي القديم. هذا المبدأ باختصار يقرّر أن الجغرافية في الشعر أهم من التأريخ، على اعتبار أن الأماكن الطللية في الشعر الجاهلي، ما هي إلاّ تأريخ مجغرف ـ إن صحّ التعبير ـ شاخ وتعفّر ومات.

خلاف ذلك، فالمكان الممسرح هو اختصار أزمان في لقطة، اختصار بحر في قطرة، اختزال صحارى بقبضة رمل، وهذه من أعلى درجات الفن.

مع ذلك ما يفعله صلاح حسن مختلف. الجغرافية لديه، وإن كانت محدودة بأبعاد خشبة مسرح، إلاّ أنه يعمّقها عن طريق تأثيثها بالأساطير. إنه مشبع بالأساطير السومرية والبابلية. ومن هنا سرّ اختلافه عن الشعراء الآخرين، لا سيّما في نظرته للموت، وفي نظرته للريح، وفي نظرته للفضاء المرعب ما بين السماء والأرض.

الموتى في معتقدات السومريين، مثلاً أحياء، قد يغادرون قبورهم ليوقعوا بالمدينة الحرائق والدمار، إن لم يُوفِ الناس بنذورهم. الأموات أحياء بصورة ما. على تلك المثابة كانت هيئة الإنسان الخالد أتونبشتم، الذي ذهب إليه كلكامش لمعرفة أسرار الخلود: أتونبشتم، في نظر كلكامش في الأقل، ميت حيّ، أو حيّ ميت، لا فرق.. طوّر صلاح حسن هذه المعادلة وجعلها معاصرة، فإذا نحن العراقيون أموات ولكن نمارس الحياة  كيفما اتفق. يقول حسن، في قصيدة: «خطأ شائع»: «... تعبتُ من المنفى/ هذا الحضور المؤقت/ حاضر قابل للاستبدال/ كأنني أعيش حياة ميتة/ كأنني أعيش ميتاً في حياتي...».

يقول في قصيدة:«موتاي الرائعون»: «...هذه الليلة سأنام طويلاً/ كي يستيقظ ميتي/ ويمضي إلى مرسمه/ ليكمل لوحته الأخيرة».

ما الذي جدّ في المشهد الشعري العراقي بعد هذه الكوارث؟  لنأخذْ ثيمة واحدة فقط: الخوف.

    المعروف أن الشاعر العربي عامة، والعراقي خاصة منتشٍ ببطولاته وسادر في غيّ معجزاته العضلية، ولا نعرف له ضعفاً، إلاّ إذا كان أمام: «العيون التي في طرفها حور، قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا...». ربما لأوّل مرّة في الشعر العربي نقرأ  للجواهري، وهو شاعر التحديات العضلية، قصيدة يصوّر فيها ضعفه الإنساني. كان الجواهري في أيامه الأخيرة ببراغ، ينشد الدفء والحنان. ومَنْ يعطيه الدفء والحنان وكذلك الملاذ والأمومة، إلاّ المرأة. لم يجدها لكنّ وجد بيروت، فارتمى على صدرها ظامئاً، وناجى «فرصوفيا» أُمّاً رؤوماً. من المحتمل أنّ الجواهري عاش أفظع كابوس في الشعر العربي، يتقطّع نومه وهو في تلك السنّ المتقدمة، يخاف أن تكون كأسه مسمومة، ويتلمس الجدران في الظلام ليتأكد من أنه ليس في مَهْمهٍ أو فلاة. قال في قصيدة:«يا دجلة الخير»:

أجسّ يقظان أطرافي أعالجها

مما تحرّقتُ في نومي بأتّونِ

وأستريح إلى كوب يطمنني

أنْ ليس ما فيه من ماءٍ بغسلين

وألمس الجُدُر الدكناء تخبرني

أنْ لستُ في مهمة بالغيل مسكونِ

الغريب أن الجواهري راح من شدّة الخوف يتأكد من أعضائه، بتلمسّها. كبّر الصورة بإطفاء كل الحواس إلاّ حاسة اللمس. لا بدّ أنه كان يلهث رعباً، فعبّ الماء، ولا يدري هل كان سمّاً أمْ لا!

أكثر من ذلك، وظّف الجواهري، الظلام والجُدُر الدكناء، حتى يكمل تيهه، لأنه لا يرى ما حوله. توسّع التيه بالغيلان.

كان من قوّة الخوف أنْ أرجعت الجواهري مرّة واحدة إلى طفولته. الجواهري بقدرة الخوف هذا طفل ويخاف من الجنّ والسعالى. طفل يؤمن، بالخرافات.

الخوف الذي ظهر في ديوان: «جزع بابلي» هو غير هذا. الإنسان في رابعة النهار، والشاعر في كامل وعيه. أكثر من ذلك إنه يتخوف من أكثر الأشياء حميمية ولا يمكن للمرء أن يعيش من دونها. يقول صلاح حسن في قصيدة حياة مفخخة:

«أشعر أنّ كلّ شيء مفخخ/ أضغط زر الكومبيوتر/ وأختفي مسرعاً خلف الجدار/ قبل أن ينفجر/ لا أستطيع أن أوقد سيجارة دون أن أفكر في الانفجار../ كل شيء بالنسبة لي قابل للانفجار/ التلفون.. ماكينة القهوة/ جرس الباب.. الرسائل/ أشعر أنّ جسدي مفخخ أيضاً...»

قد يكون من المفيد أن ننهي هذه الأسطر التعريفية بقصيدة: «حديقة في الجحيم». يقول الشاعر:

«كلّ شيء أسود في الحديقة

الأزهار حجرية

تشرب القار وتتنفس الرماد

ولها رائحة النار

عن أي جحيم يتحدّث رامبو؟...»

في هذه القصيدة تتجسّد كل شروط القصيدة الممسرحة. مكان القصيدة لا وجود له على الخارطة. إنه مجرد تكوينات ذهنية،ازدادت عمقاً بجحيم رامبو. يقول أيضاً:

«الأشجار هنا لها شكل الحريق

تتدلى إلى الهاوية

وثمار الألم السوداء

كلّ زهرة شعلة تنذر بالقيامة...»

هذه صورة أقرب ما تكون إلى سقوط آدم. فالحريق قد يساوي في العقل الباطن: الجحيم، وثمار الألم: التفاحة، والسوداء: اللعنة. ثمّ ألا تدلّ إلى الهاوية على السقوط؟

إن القصيدة المكانية خالية من كل تزويق وطنطنة وتوّرم من أيّ نوع. بلاغتها وعمقها في تجرّدها من الصفات والاستعارات، تماما كما تتجرد لغة التجارب المختبرية من الصفات، وهي أشبه ما تكون بحوار بين طبيب ومريض، مباشر وفي الصميم، من دون لفّ بلاغي ودوران.

انتهج هذه البساطة المجردة في كتابة الشعر، وهي أشبه ما تكون ببساطة جسد عارٍ أثناء عملية جراحية، الشاعر الإسباني بيدرو ساليناس (1891 – 1951)،الذي «يكمن إنجازه الشعري في أنه يقول الكثير، في القليل جداً. ما من قافية. ما من مجاز. العروض غير منتظم، وثمّة بالكاد إيحاء باستعارة. ليست هناك كلمات متبحرة أو  صعبة... وما من رموز، ومع هذا يخلق الشاعر من هذه البساطة عالماً ثريّاً ودقيق الاختلاف...».

أما الشاعر السريالي المتفائل بول إيلوار (1897 – 1952) فكان يمقت كلّ ما هو زخرفي أو بلاغي في الشعر... انتمى إلى الدادائية كملجأ مرّ ضدّ لامعقولية الحرب وضدّ الأدب الذي انحدر إلى حمل الدعاية القومية.

ورغم أن قصائده الحربية خطيرة ومأساوية، إلا أنها لم تفترقْ أبداً عن بساطة اللغة (هذا بالعكس من الشعر الحماسي الحربي العراقي الذي شاع في العهد السابق وكان يتميز في غالبيته بالصيغ المنفوخة والتطنين والهلاهل البلاغية المغثية).