كيف تختفي الجبال في فلسطين؟

سكانها يؤكدون أن الضباع والثعالب طردت من أوكارها واحتمت ببني الإنسان

راعية فلسطينية بالقرب من مستوطنة جبل ابو غنيم
TT

تزامناً مع زيارة جورج بوش الأخيرة إلى المنطقة، أعلنت إسرائيل عن بناء مستوطنات جديدة. قلة فقط هم من يعلمون، معنى هذا الإعلان، وإلى أين تمتد جذوره التخريبية في جبال، لم يشرد منها الإنسان فقط وإنما الحيوانات ايضاً. فماذا وراء هذا الإعلان الذي مرّ سريعاً في نشرات الأخبار؟

عام 1967، كان مجدي الشوملي، يبيع التذكارات الدينية والسياحية أمام كنيسة المهد في مدينة بيت لحم. وهو من جملة الأولاد الذين أشار إليهم الروائي أميل حبيبي، في «سداسية الأيام الستة»، تلك السلسلة القصصية الجميلة التي رصدت حربا شكلت مفصلا في تاريخ العرب المعاصر.

ولدى الشوملي، الذي اصبح كاتبا وناشطا ثقافيا، أشياء أخرى غير أميل حبيبي، يذكرها عن ذلك العام، ولم تظهر إلا متأخرة، مثل رواية كتبها للفتيان بعنوان «صيف 67» وصدرت عام 2002، وتحدث فيها عن رحلة مدرسية إلى جبل أبو غنيم، في ذلك الصيف الذي شهد احتلال ما تبقى من فلسطين، ولكن الطلبة ومدرسهم اصطدموا بـ«ضيوف غرباء»، مسلحين بالبنادق، يمنعون الأولاد من الوصول إلى الجبل.

جبل أبو غنيم، غابة حرجية، تعتبر موئلا مهماً للطيور والحيوانات، بين مدينتي بيت ساحور، والقدس، ضمته بلدية القدس الإسرائيلية إلى حدودها، ويحوي مواقع أثرية، بينها كنيسة قديمة وآبار ومغر وقبور ومعاصر منقورة في الصخور.

ولم يكن الشوملي، يحتاج إلى كثير من الشرح حول أهمية الجبل، الذي يحوي آثاراً بيزنطية وأخرى أقدم، لأن الجبل تحول في فبراير 1997، الى أحد اشهر الجبال في العالم، تصدر اسمه نشرات الاخبار العالمية. في ذلك الشهر، أعلنت الحكومة الإسرائيلية وسط دعاية كبيرة، عن نيتها مصادرة الجبل، والبدء ببناء 6500 وحدة سكنية لليهود.

وجاء القرار، بينما كانت الإدارة الأميركية آنذاك، قد بدأت جهوداً لإحياء ما وصف بالعملية السلمية، وبعد أسابيع من توقيع اتفاق الخليل بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.

وحمل ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية آنذاك، الموضوع، إلى البيت الأبيض، خلال لقائه الرئيس بيل كلينتون في مارس 1997، وفوجئ بتفهم كلينتون، لقرار حكومة بنيامين نتنياهو بالسيطرة على الجبل، الذي أصبح يعرف في إسرائيل بحي «هار حوما»، مشيرا إلى ضرورة أن يحاول عرفات استيعاب الضغوط التي تمارس على نتنياهو. وعندما اسقط بيد عرفات، طلب من كلينتون أن يمارس ثقله، لتأجيل بناء المستوطنة الجديدة. فأرسل كلينتون مبعوثه دينيس روس إلى نتنياهو، راجيا تأجيل البناء.

رغم ذلك، بدأت أعمال البناء في الجبل، وأخذت الجرافات الإسرائيلية، تقتل الأشجار الحرجية بلا رحمة، وعلى الجانب الفلسطيني، بدأت احتجاجات واسعة. صعد عشرات الفلسطينيين إلى «جبل الديك»، المقابل لجبل أبو غنيم، ونصبوا خيمتين للاعتصام، بينما بدأت أوسع حملة إعلامية، لتغطية ما يحدث، ونصبت محطات التلفزة الإسرائيلية أجهزة للنقل المباشرة، وفعلت مثلها محطات عالمية. وبعد أربعة أيام، طلبت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك مادلين أولبرايت، من سفيرها في تل أبيب، مارتين إنديك أن يحمل رسالة، إلى نتنياهو مفادها بأن واشنطن «ترى في إقامة الحي خطوة، تضعضع كل ما نحاول القيام به». ورفع العرب الموضوع إلى مجلس الأمن، لكنهم اصطدموا بالفيتو الأميركي المعتاد.

في موقع الأحداث، أخذت خيم الاعتصام في جبل الديك، تستقطب المزيد من الاهتمام، وتستقبل أعدادا كبيرة من الزوار من مختلف أنحاء العالم. وإحدى هذه الخيم حولها الزعيم الفلسطيني الراحل فيصل الحسيني، مقراً له، واستقبل فيها ضيفا غريبا هو جدعون عيزرا، نائب رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) سابقا، الذي جاء يبحث موضوع الجبل مع الحسيني. بعد أيام، ودع الحسيني، الذي يناديه الجميع بكنيته (أبو العيد) المعتصمين، وأبلغهم انه سيذهب في جولة خليجية، وعندما عاد، مكث وقتاً قصيراً، ثم شكر المعتصمين وأبلغهم أنه حصل خلال جولته، على مبلغ يناهز السبعة ملايين دولار، تبرع بها «الأشقاء العرب»، وهذا ما كان ليحدث لولا صمودهم. وغادر الحسيني ليمارس عمله من القدس، ولم يعد مرة أخرى، لكن شخصيات إسرائيلية وعربية وعالمية واصلت التدفق إلى الجبل، ومنهم الكاتب المصري لطفي الخولي، أحد أقطاب ما عرف آنذاك بمجموعة كوبنهاغن. وهي مجموعة مكونة من إسرائيليين وعرب، رأت فيما يحدث في جبل أبو غنيم مناهضا لسعي المجموعة من اجل السلام.

وتحول الجبل إلى موقع لنشاطات متنوعة، بعضها بدا خارجا عن سياق الاعتصام، مثل ما حدث مع شخص اسمه يورب بارني، وهو لاعب كرة سلة أميركي في فريق إسرائيلي، تردد على الجبل، لمقابلة صديق فلسطيني، ليعلمه مبادئ الإسلام. وفي أحد الأيام، فأجا بارني المعتصمين، بأنه اعتنق الإسلام، وتم الاحتفال به، واصبح اسمه بلال.

بمرور الوقت بدأت المستوطنة تصبح أمراً واقعاً، واخذ الاعتصام، يفقد ألقه، حتى أصبحت الخيمة خالية، إلا من شخص واحد، وهو طالب يهودي هاو للرسم، اسمه جون كاتس، ذهب بعيداً في القطيعة عن مجتمعه وكان يحلم بالحصول على الجنسية الفلسطينية. ومن مفارقات معركة جبل أبو غنيم، أن آخر المعتصمين أو «المقاتلين» فيها كان رساماً يهودياً شاباً، يأتي يوما في الاسبوع ليرسم مناظر الجبل الخلابة التي تستعد للزوال نهائيا.

وبعد فترة ليست بالقليلة من نزول الفلسطينيين عن الجبل، كان موضوعه ما زال عالقاً لدى شخصية سياسية عالمية، هي روبن كوك وزير الخارجية البريطاني العمالي الراحل، الذي أعلن وهو يزور إسرائيل، انه مصمم على زيارة جبل أبو غنيم. وهو ما عارضته إسرائيل، ولكنه أصر ووصل الجبل، ليعلن معارضته للمجزرة التي تحدثها الجرافات الإسرائيلية. ورداً على زيارته، ألغى نتنياهو عشاء لوزير الخارجية البريطاني، الذي تبين انه من عشاق الجبال، وتوفي، بعد ذلك، أثناء جولة له على أحد جبال اسكوتلندا، بعد ان زلت قدمه.

في بداية عام 2006، أقدمت سلطات إسرائيل على إحراق الجزء الأكبر مما تبقى من غابة جبل أبو غنيم، بهدف بناء أكبر تجمع طبي في الشرق الأوسط، إضافة إلى تجمع ترفيهي من برك سباحة وفنادق تجذب السياح. وبقيت إسرائيل تعمل على تطوير الحي الاستيطاني، إلا انه اختفى من الاجندة الفلسطينية ـ العربية، حتى عاد مؤخرا إلى الإعلام، والسبب إعلان إسرائيل، بعد مؤتمر أنابوليس، الشروع ببناء 303 وحدات سكنية لتوسيع الحي الاستيطاني على الجبل. وهناك فارق آخر، أن السيطرة الإسرائيلية توسعت في المكان لتشمل جبل الديك، أما الوحدات الاستيطانية الجديدة، فإن الجرافات الإسرائيلية، صعدت إلى جبل مجاور لجبل أبو غنيم، تنتظر إشارة البدء لتنظيفه من الأشجار الحرجية.

وهكذا تختفي الجبال في فلسطين، لتصبح كتلا اسمنتية، وبعد أن تراجع الاهتمام الإعلامي أمام المشهد المأساوي، عادت إسرائيل، لتلقي بقنبلة أخرى، اشد من الأولى، لكن لم تحدث دويا كبيرا، حين أعلنت، أنها قررت بناء 1000 وحدة استيطانية في جبل أبو غنيم على أراض مصادرة من فلسطينيين.

ومنذ أنابوليس تلاحقت التطورات بشكل سريع، لتسيطر إسرائيل على اكثر من جبل وخربة أثرية تضم آثاراً مهمة، بالقرب من جبل أبو غنيم، وإحاطة المنطقة بشوارع عسكرية والتفافية، وأسيجة، أصبحت، ممنوعة ليس فقط على الفلسطينيين، ولكن حتى على حيواناتهم البرية، التي لم تعد تعرف أين تسكن، فاقتربت اكثر من التجمعات السكانية. وسجل حادث نادر الأسبوع الماضي، عندما تمكن راهب يوناني أرثوذكسي، يعيش في دير قديم قبالة الجبال المصادرة، من قتل ضبع مخطط.

وأثار ذلك أهالي بيت ساحور، وبينهم من شاهد عائلات من الضباع جاءت للعيش قرب مساكن الأهالي. وأصدرت جمعية الحياة البرية في فلسطين بيانا قالت فيه: ان النشاط الاستيطاني في المنطقة، شرد حيوانات مثل الثعلب الأحمر، وابن آوى، والنمس المصري، والغزلان، والحجل الجبلي، والأرانب البرية، وغيرها، هجرت أوكارها للأبد، مثلما حدث مع أصحاب الجبال الفلسطينيين. وربما يحفز ما يحدث الشوملي، على كتابة جزء جديد من حكاية جبل ابو غنيم التي لم تنته منذ أربعين عاما.