مدونات حكائية تونسية

القصة القصيرة التونسية تأخرت عن القصة الغربية بأكثر من 80 عاما

TT

التونسي الدكتور محمد صالح بن عمر هو ناقد أدبي وباحث لغوي وتربوي. تتواصل تجربته النقديّة منذ سنة 1967 كمتخصّص في نقد الأدب التونسي بكلّ أجناسه وتيّاراته وأجياله وبالمفهوم الشامل لفنون الإبداع والفكر والعلوم الإنسانيّة. وقد كرس مشروعه النقدي واهتماماته النقدية في تقصي التجارب التونسية وتسليط الضوء على ما يراه يظهر أو يستبطن أو يعد بإشراقة ابداعية. من ذلك أنه ألقى أكثر من مائة محاضرة عن الأدب التونسي.

ينظر الناقد د. محمد صالح بن عمر في عينة تمثيلية مقنعة من المدونة الحكائية التونسية التي تشكلت منذ عشرينات القرن الماضي الى اليوم، تلك المدونة التي عثر فيها على بعض التجارب القليلة المتفردة المتناثرة في المكان والزمان ويصفها بالنجوم الزاهرة المتلألئة في الظلماء. وبالإضافة الى الإشارة الضمنية الى قلة النصوص السردية المبدعة مقارنة بالتراكم الكمي للمنشورات الحكائية، فإن الناقد يعبر عن موقف رافض لما أسماه بـ«الريح الإنشائية» التي عصفت ولا تزال منذ بداية ثمانينات القرن الماضي بالقيم الفنية والجمالية الأصلية مستبدلة إياها بمفاهيم صناعية تقنية متكلفة لا تختلف في شيء عن النظم، وشتى ألوان الزخرف اللفظي التي سادت في الأدب العربي طيلة عصور الانحطاط. ولقد توقفت عين الناقد بنسب متفاوتة عند كل من نصوص أبي القاسم الشابي ومحمد البشروش وعلي الدوعاجي ومحمود المسعدي والبشير خريف وحسن نصر وعز الدين المدني وأحمد ممو وفوزية العلوي وابراهيم الدرغوثي والأسعد بن حسين ومحمد السبوعي وجنات إسماعيل ومنيرة الرزقي.

تعمق الدكتور بن عمر في تحديد منزلة الأديب الراحل محمود المسعدي من الأدب التونسي الحديث والمعاصر محاولا الرد بشكل نقدي علمي على بعض الآراء التي ترى أن روايات المسعدي لا تنسجم مع الهوية التونسية. صحيح أن الأجواء الأسطورية التي صورها المسعدي في أعماله المسرحية والسردية تبدو في ظاهرها ضعيفة الصلة بالبيئة التونسية في أي مرحلة من مراحل تاريخ البلاد خصوصا أن الأماكن التي تدور فيها الأحداث أكثرها شرقي بصريح اللفظ مثل مكة والمدينة ونجد وعمان والعراق، ولكن الطبيعة التجريدية الذهنية لأدب المسعدي قد جعلت بالنسبة الى الناقد من الأحداث والشخوص والأماكن والأزمنة مجرد رموز. بل إن أدب المسعدي هو «وثيق الصلة بالواقع التونسي في ظل الحرب العالمية الثانية ذلك أن القيم السامية التي جعل المسعدي أبطاله لا(غيلان وأبا هريرة والمسافر ) يتعلقون بها ويناضلون من أجلها، تشكل في مجموعها رسالة واضحة، حرص المسعدي على تبليغها لشعبه... كل هذا يبرز مدى ارتباط أدب المسعدي بالواقع التونسي رغم توسله في التعبير عن لب تلك القضايا بأشكال وأساليب مستدعاة من التراث العربي والانساني الذي لا يمكن اعتبار التونسي أجنبيا عنه».وافتتح الدكتور بن عمر العملية النقدية بقراءة أتت على عشر صفحات تناول فيها الجانب النثري في تجربة شاعر تونس الكبير أبي القاسم الشابي وذلك من خلال مذكراته التي تحتل موقعا متميزا ضمن مدونته النقدية، وانتهت به القراءة الى التوقف عند ثلاث نتائج وهي التالية:

- الحضور القوي للشابي شاعرا في نثره والانسجام التام بين شعرية هذا النثر وشعره الموزون المودع ضمن ديوانه أغاني الحياة. وهو ما قد يفسر إقباله على كتابة الشعر المنثور باعتباره مشروعا موازيا لشعره الموزون.

- النزعة الحجاجية القوية للشابي وهي متأتية بلا شك من موقفه من الواقع الذي عايشه في محيطه. وقد تراوح ذلك الموقف بين القطيعة التامة المؤدية الى اليأس والصراع الذي يغذيه الأمل في التغيير ومجادلته لهذا الواقع في نثره تتكامل أيضا مع مجادلته إياه في شعره.

- القيمة الواثقية الكبرى لنثر الشابي. ويتمثل ذلك فيما يتضمنه من معلومات غزيرة مفيدة عن شخصه ومحيطه الثقافي والاجتماعي من شأنها أن تنير جوانب بالغة الأهمية من تجربته الشعرية.

* التيار الواقعي

* من جهة أخرى توصل المؤلف بعد دراسة الإطار الطبيعي عند محمد بشروش الى القول إن القصة التونسية بمفهومها الغربي الحديث قد توزعت في بداياتها على تيارين اثنين هما: التيار الواقعي وأبرز من مثله علي الدوعاجي والتيار الرومنطيقي وأهم من أسسه محمد البشروش وذلك قبل أن يظهر تيار ثالث مضاد في نهاية الثلاثينات وهو التيار الذي انفرد برفع لوائه محمود المسعدي وعدل فيه عن الشكل القصصي الغربي الى شكل سردي عربي قديم هو الخبر. ويضيف محمد صالح بن عمر أن النزعة الرومنطقية في قصص البشروش، لا تتجسم فقط في وصف المشاهد الطبيعية بل تتجاوز ذلك الى تصوير العواطف المشبوبة والأوضاع المأسوية، التي يتخبط فيها المتحابون من جراء العراقيل التي يقيمها في طريقهم المجتمع المنغلق المتصلب.

كما خصص صاحب الكتاب جزءا من عمله النقدي للنظر في تجدد أسئلة الإبداع السردي في القصة القصيرة التونسية المعاصرة، مبرزا أن مدونة القصة القصيرة التي تشكلت خلال العقود السبعة الأخيرة تتوزع على صنفين متباينين الأول هو الابداعي وهو بديهيا قليل سواء من حيث عدد أسماء القصاصين أو من جهة كم النصوص والآخر هو الصنف غير الابداعي وهو يتراوح بين العادي والرديء والعادي في الفن رديء، إذ لا درجات في هذا الميدان. وبالنسبة الى ما اعتبره بن عمر يندرج ضمن الصنف الإبداعي، رأى أن الإشراق الفني يتحقق على ثلاثة أنحاء هي الإبداع داخل النمط وإبداع النمط وإبداع النمط والإبداع داخله، وهو ما ينسحب على كتابات كل من علي الدوعاجي والبشير خريف وسمير العيادي وأحمد ممو وإبراهيم الدرغوثي وفوزية العلوي. ويقول الدكتور بن عمر في هذه النقطة: «لقد اقترن مفهوم كتابة القصة القصيرة لدى رواد هذا الجنس من التونسيين في النصف الأول من ثلاثينات القرن العشرين بضرورة الاستجابة لمواصفات نمط سردي معين تحكمه قواعد. ولا أدل على ذلك من أن المحاولات القصصية الأولى قد رافقها جهد تنظيري اتجه الى التعريف بخصائص هذا الجنس وأبرز رواده في مهده الأصلي أي الغرب... ولئن ساد هذا المفهوم لكتابة القصة القصيرة في تونس الى نهاية الستينات وهي الفترة التي ظهرت فيها القصة التجريبية ضمن حركة الطليعة، فإنه لا يزال يستهوي عندنا عددا من الكتاب..».

إن الخضوع لضوابط هذه التقنية القصصية الكلاسيكية لا يحول في حد ذاته من دون توفر فرص الابتكار والاختراع في كثير من المستويات والمواضيع منها أولا نوعية الشخصية الرئيسية المختارة. وفي هذا السياق يقدم قصص علي الدوعاجي نموذجا مبرزا حرص هذا الأخير على أن يكون أبطال قصصه من قبيل الشخصيات الشاذة وغير منقولة عن نص سردي آخر من دون أن ينسى الإشارة الى عناية الدوعاجي بخاتمة قصته. وفي مقابل هذه التقنية «الدوعاجية» رأى الناقد أن البشير خريف لا يعول دائما في قصصه على المفاجأة الختامية بل ينصب على امتداد الحكاية سلاسل من المفاجآت تتسم في الغالب بطابع فكاهي مرح مع تعمد انتقاء العناصر الوظيفية والموحية وتكثيفها.

* حركة «الطليعة»

* أما فيما يتعلق بما أسماه الناقد بإبداع النمط، فقد ظهر هذا المنحى في نهاية الستينات لدى عدد من القصاصين التونسيين الشبان إذ ذاك ضمن حركة «الطليعة» إثر اطلاعهم على القصة التجريبية الغربية، وأبرزهم عز الدين المدني ومحمود التونسي وسمير العيادي وأحمد ممو ورضوان الكوني. وقد كان الهم الأول لأولئك هو تفجير بنية القصة الكلاسيكية قصد إنشاء بنى جديدة طبقا لأنساق شتى، تختلف من قصة الى أخرى بحجة أن الإبداع الحقيقي هو الذي يتحقق في مستوى الكليات لا على صعيد التفاصيل. وبالنظر الى هذه الرؤية في العمل لاحظ صاحب الكتاب أن الطليعيين بوجه عام، قد وجهوا اهتمامهم الى إبداع البنية القصصية باعتباره غرضا في حد ذاته وهو ما جعلهم لا يعنون بتفاصيل القصة عنايتهم ببنائها العام، وهذا النقص هو الذي سيعمل على تلافيه القصاصون التسعينيون حسب استنتاج الناقد.

كما يلحظ قارئ الكتاب أن صاحبه لم يهمل التجارب والمحاولات القصصية للتسعينيين فأبرز تخليها النهائي عن الكتابة النمطية الكلاسيكية: «فلدى الجيل الجديد تصاغ القصة أيضا طبقا لتصور مخصوص إلا أنها تختلف عن القصة الطليعية من حيث الاشتغال المتأني فيها بالتفاصيل وذلك بوسائل شديدة التنوع لعل أبرزها شعرية الخطاب والعجائبي وشحن السياق الحكائي بالمواقف المراوغة والمباغتة». وحسب الأمثلة التي توقف عندها محمد صالح بن عمر بالنسبة الى موظفي هذه التقنيات الجديدة نذكر على سبيل الحصر إبراهيم الدرغوثي وفوزية العلوي.

ويختم الناقد إحدى دراسات كتابه بالقول إن القصة القصيرة التونسية وإن تأخرت عن القصة الغربية بفارق زمني يزيد على الثمانين عاما، فقد مرت بعد ظهورها في بداية الثلاثينات من القرن الماضي بكل المراحل التي قطعتها تلك حتى اليوم، مستخلصا أنه في كل مرحلة من تلك المراحل ظهر في تونس قصاصون موهوبون ارتقوا بهذا الجنس الى درجة عالية من الإبداع الفني. إن إطلالات الناقد محمد صالح بن عمر على المشهد الحكائي في تونس تبدو مستفيضة في سعيها الى الإلمام بأهم المشتغلين في السرد خصوصا في حفرها العميق، سواء من حيث تاريخية القصة التونسية أو من حيث مضامينها وتجدد أدواتها الجمالية . لذلك فهي إطلالات ترصد المشهد وتثير فضول البعض للقراءة عن التجارب المذكورة وتدفع بالمطلعين الى النقاش والاختلاف أيضا لأنها إطلالات عين متخصصة في النقد، من دون أن ننسى أن النقد يحتكم الى أكثر من عين وذلك مكمن القيمة والثراء.