الديمقراطية ونماذجها العالمية.. والعرب

من اليونان إلى جنوب أفريقيا

TT

يتحدث هذا الكتاب الذي صدر أخيراً عن معهد الدراسات الاستراتيجي بيروت عام 2007، وهو من تأليف ديفيد هيد وترجمة فاضل جتكر (713 صفحة)، عن الديمقراطية ونماذجها العالمية والكيفية التي يمكننا ان نرى فيها الشكل الملائم لشرقنا العربي، وكأنه يلخص لنا احتياجات المرحلة التي نمر بها: ما هو شكل الديمقراطية التي نرغب، وما هي طبيعة الحكم لها، هل تصلح الديمقراطيات مع كل اشكال الحكم، الملكية الدستورية، والأميرية، والجمهورية التداولية، والجمهورية الوراثية.

يبدو أن المشكلة ليست بالديمقراطية ونماذجها الغربية التي يروج لها البعض من أنها ملائمة لبلدان العالم الثالث ومن بينها الديمقراطيات التي يروج لها الغرب وأميركا في الشرق الأوسط، بل في تفهم آلياتها واعتمادها مجتمعات لم تمر بها. ومن يتتبع تصريحات بعض من الحكام العرب قبل ثلاث سنوات يجد ان نغمة الديمقراطية انتقلت من اللفظ المحرم إلى اللفظ المقبول ولكن المتحفظ عليه ما لم يكن منبثقا من داخل بنية وتركيب هذه المجتمعات. لذا فلا تصلح لنا ـ حسب مفهومهم ـ إلا الديمقراطية المنبثقة من التراث العربي الإسلامي، وهذه الرؤية محايثة لما يريده الغرب من شيوع حكم المجموع، لكنها في جوهرها تحافظ على فكرة أن يكون ثمة حاكم يصون المبادئ الإسلامية وأعرافها وتقاليدها، مع تغييرات في بنية المؤسسات التابعة للدولة. والطريقة التي يتمثلها العديد من الأنظمة الإسلامية هي ان تشمل الديمقراطية الانتخابات ومجالس البلديات والمحافظات مع مؤسسات المجتمع المدني، وحرية الاقتصاد والتجارة والقطاع الخاص، وشيء من عولمة التعليم، لكن إلى جوار ذلك لا بد من وجود سلطة عليا. وهي خطوة مهمة وإيجابية، تنقل مجتمعاتنا العربية من الأوتوقراطية إلى الديمقراطية المرحلية، ولا بد لها من ان تتمرن لاحقا على البنية المعرفية والثقافية لحقوق الشعوب العربية والإسلامية وأن تلحق بركب العالم المتقدم. والاعتقاد السائد هو ان مجتمعاتنا لما تزل غير قادرة على تمثل أسس وبنية الديمقراطيات الحديثة في العالم كي تنقلها إلى ممارسات اجتماعية وسياسية، كما حدث في العراق وانتخاباته السريعة التي أفرزت طوائف وقوميات ما كان لها ان تبرز بهذا الشكل السريع لولا ان المرحلة التي سبقتها كانت الأسوأ. وكنا نأمل التغيير والانتقال خطوة لتصفية التجربة من الشوائب الطائفية، لكننا فوجئنا أنها دخلت مراحل أسوأ من السابق عندما أخذت الطائفة مفهوم الدولة والمؤسسات التابعة لها.ومن هنا فتجربة الديمقراطية في العراق بحاجة إلى مراجعة جذرية دون التخلي عنها.

من مبادئ الديمقراطية ان يكون ثمة شعب متعلم، يفهم حقوقه وواجباته وليس نصفه امياً وعاطلاً عن العمل، وحريته مقيدة بمرجعية تتغير أهواؤها كلما استجد صيف وتغير مناخ. ومن أسس الديمقراطية أن تكون ثمة مجالس محلية تشكل نواة البرلمان، تنتخب بطريقة الترشيحات الفردية، ومن أسس الديمقراطية ان يصل مستوى الثقافة لدى الشعب بها إلى مستوى المشروع نفسه، اي مشروع التغيير والتحديث، وان يتم توزيع الثروة بالحق على الجميع. ومن أسسها أيضاً ان يكون التكنوقراط هم القادة الفعليون للدولة ومؤسساتها، وعدم الزج باسم الدين في الحكم، وأن تكون ثمة حرية للأفراد والمنظمات والأحزاب في التنظيم والعمل.

ومن أسس الديمقراطية كذلك ان يكون ثمة قانون وعدل ومؤسسات حماية وصحافة حرة ولها صوتها وتأثيرها، وأن لا تكون ثمة مليشيات تشكل دولة داخل الدولة، وغير ذلك كثير. وكل هذه الأمور وغيرها غير متوفرة لا في العراق، ولا في أي بلد عربي، خاصة ان التدخلات الأجنبية، خاصة من قبل إيران تجعل تجربة مثل لبنان ، وهي المهمة في سياق التجربة الشرق أوسطية تتراجع بوضوح.

لا يمكن تلخيص الكتاب بمثل هذه العجالة، لكنه يفرش لنا رؤية كونية لنماذج الديمقراطيات في العالم، من الديمقراطية في اليونان إلى الديمقراطيات التوافقية في جنوب افريقيا ودول المنظومة الاشتراكية السابقة، إلى تطعيمها برؤى وأفكار حديثة وقديمة بحيث يمكنها ان تصبح وصفة جاهزة كما في شرق آسيا والهند، إلى النموذج الصيني الذي يمزج بين الرؤية الاشتراكية وهيمنة الحزب الواحد مع الانفتاح الاقتصادي والتقني والعلمي والتجاري. كل هذه التجارب هي نوافذ لعالمنا ونحن في بداية القرن الواحد والعشرين.

ويعالج الكتاب مفهوم الديمقراطيات على مستويين: المستوى العمودي والمستوى الأفقي، ففي المستوى العمودي يأخذ مفهوم الديمقراطية مصطلحا وممارسة عبر تاريخ تشكلها من العصر اليوناني إلى اليوم مرورا بمئات التجارب العالمية والمحلية والممارسات والأشكال القائمة في عالم اليوم، خاصة في مناطق مختلفة جغرافيا واثنيا كأوروبا ذات الأصول القومية الواحدة، التي بنت اقتصادها على تزاوج العلم والروح، وأميركا التي تشكلت من المهاجرين، الذين شكلوا عبر تكوينها وحروبها عصب التحديث التقني للثروات وللبشر، وأميركا اللاتينية التي تتفرد بكونها نماذج قابلة للتجديد، لما تمتلكه من أصول قومية وتحديث في الهجرة، وثروات وتجارب محلية وثقافة شعبية، وأفريقيا وهي تنتقل من حكم القبيلة إلى حكم الأكثرية، معتمدة على مواردها وتراثها. ثم آسيا ونماذجها الكثيرة، ابتداء بالصين وانتهاء بدول التنين الحديثة. ولم يقف الكتاب عند جغرافية هذه البلدان، بل يعالج البناء العمودي، ومفاهيم الديمقراطية النخبوية، وعلاقة العلم بها، والديمقراطية اللبرالية، وتبادل السلطات، والديمقراطية في الأنظمة الرأسمالية والاشتراكية، باعتبارها الوجه الثاني للهيمنة السياسية.

ويقارن المؤلف بين الديمقراطية الكلاسيكية اليونانية، والديمقراطية الحديثة برؤيتها التكنوقراطية، ويتحدث عن تصورات العلاقة بين الحكومات والشعب عبر نماذج كثيرة من الممارسات الديمقراطية، ومن أساليب قمعها وتحجيمها كمفهوم السلطة والديمقراطية، أو الدولة والتعاونيات، أو الشرعية والانتخابات الحرة.

أما المستوى الأفقي، فيعالج الكتاب مفهوم الديمقراطية بوصفها منظومة معرفية وقانونية تستوجب تغيير الكثير من القوانين والأنظمة التي تتحكم بالعالم اليوم ومن بينها نظام الأمم المتحدة الذي يعطي لدول معينة حق الفيتو ويحرم أخرى منه لأسباب تتعلق بالهيمنة والقوى العسكرية والاقتصادية، وهو مفهوم يناقض الديمقراطية. ويقترح الكاتب أن يكون لكل منطقة برلمانها الديمقراطي الذي يحتكم لثقافتها وأسسها وأفكارها وتراثها، كأميركا اللاتينية التي لها ديمقراطيتها المنبثقة عن جوهر ثقافتها، كأن يكون لشرق آسيا برلمانها الشامل الذي يتلاءم وسياق ثقافتها، ولمنطقة الشرق الأوسط برلمانها الذي يتلاءم وسياق ثقافتها، كذلك أفريقيا. وفي ضوء مجموع هذه البرلمانات وهوياتها الاقليمية والمناطقية يمكن ان يعاد تشكيل بنية وتركيبة الأمم المتحدة.