المرأة من «الخرس» إلى النطق بالحقيقة

الشخصية النسائية في روايات الطاهر بن جلون من «حردة» إلى «ليلة القدر»

TT

صدر قبل أيام كتاب باللغة الفرنسية بعنوان «الهويات في صراع» للكاتبة نجاة تميم عن مؤسسة التنوخي للطباعة والنشر في المغرب. ويحلل الكتاب الشخصية النسائية في الروايات السبع الأولى للكاتب الفرنسي، المغربي الأصل، الطاهر بن جلون، بدءاً من «حرودة»، (1973) سجن انفرادي (1976)، «محا الأحمق» و«محا العاقل» (1978)، «صلاة الغائب» (1981)، «كاتب عمومي» (1983)، «طفل الرمال» (1985) و«ليلة القدر» (1987) التي حازت جائزة الكونكور. ووظفت الكاتبة في التحليل ما يسمى بنظرية «الهوية الريزوماتيكية» للكاتب والفيلسوف الفرنسي جيل دلوز ومفهوم «الهوية» وأوجهها عند ألكس ميشيلي كالهوية الذاتية، الهوية المؤكدة، الهوية السلبية وهوية الواجهة إلى غير ذلك من أنواع الهويات.

وتعتبر الحياة اليومية عنصرا مهما في تكوين هوية الشخصية النسائية عند بن جلون. ففي رواياته التي تركز عليها الدراسة، نلاحظ أن كل الشخصيات النسائية من حرودة إلى أحمد? زهرة مرورا بالشخصية المتخيلة في رواية «سجن انفرادي»، نجمة، عائشة، دادا/ فاطمة الزهراء، الضاوية وزوجة الأب المتسلط في «محا الأحمق ، محا العاقل»، يمنا، فريحا اليهودية وأركان في رواية «صلاة الغائب»، وفيما بعد خطيبة الكاتب العمومي المعتقل في معسكر عسكري في رواية «كاتب عمومي» تكونت من خلال الحياة اليومية سواء في الفضاء الخاص أو في الفضاء العام أو فيهما معا. وهكذا اكتسبن مصادر هوياتية على مدى حياتهن. لكنهن، بفضل هوية الواجهة مثلا، استطعن الإفلات من تعقيدات حياتهن. فصمتهن أو بالأحرى الخرس، كان بالنسبة لهن موقفا اتخذنه كاستراتيجية، وربما ساعدهن، حين جاء الوقت المناسب، على إظهار ردة فعلهن.

ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أبواب بثمانية فصول، تتبعت فيها الكاتبة تطور الشخصية النسائية بدءاً بدراسة التجانس والترابط الاجتماعي اللذين يساعدان على تعددية المصادر الهوياتية التي، بدورها، تُحدث قطيعة مع الماضي لكي تستطيع إعادة بناء المستقبل.

في الباب الأول الذي جاء بعنوان «غموض وازدواجية الأنوثة»، تلاحظ المؤلفة أن هناك التباساً خصوصا في الروايات الأولى بين الكلمة والجسد، وبين غياب وحضور الشخصية النسائية، بينما كرست الباب الثاني لدراسة «تعددية المصادر الهوياتية» حيث ترى أن الشخصية النسائية تقمصت فكرة ومفهوم الأرض? الأم والموروث في سرد بن جلون، وذلك لأن المرأة مؤهلة غالبا بتوريث القيم لأبنائها. وهي أيضا الوسيط بين الماضي والمستقبل مع الأخذ بعين الاعتبار تجليات الحاضر. وبفضل تأثيرات داخلية وأخرى خارجية، هناك بالتأكيد مصادر هوياتية تحدد بوعي أو من دون وعي طابع وتصرف وسلوك الشخصية النسائية. وهذا يؤدي إلى تغيير مجرى طريقة عيش الشخصية وأكثر من هذا ربما يؤدي إلى ردة فعل تجاه حياتها اليومية.

وترى الكاتبة أن فكرة التعددية في نصوص بن جلون تعد إغناء لنصوصه، حيث التحولات والتغيرات والرموز والمصادر الغزيرة. لكن للوصول إلى هذه التعددية، يجب إعادة التفكير في الماضي والموروث الثقافي وجعلهما يتماشيان مع المتطلبات الجديدة للحياة، أي مع الحداثة والتطور التكنولوجي الرقمي. لذلك فإن نوعا من القطيعة مع الماضي بات ضرورياً.

في الباب الثالث «إشكالية الرجولة»، تبرز الشخصية النسائية كعامل للقطيعة مع التقاليد البالية في فصلي «الأبوية» و«الصراع بين الموروث والحديث»، ومع الاستعمار وموروثاته في فصل «ما بعد الاستعمار» بعد حصولها على رصيد معرفي بمحض جهدها (بالأخص في الجزء الثاني من مؤلفات بن جلون، تحديدا بعد رواية «كاتب عمومي»). لكن هذه القطيعة كانت في الواقع ظاهرية ولم تكن نهائية.

إن المرأة هي «عامل للقطيعة» لكنها في نفس الوقت هي التي تؤمن الاستمرارية في نصوص بن جلون كما تؤمنها في الحياة عن طريق الإنجاب. بالإضافة لذلك، إن كل حركة يومية يمكنها أن تعبر عن طريقة ما للعيش حتى عند غياب الكلمة. فـ«الكلمة الجسدية»، هي إحدى الوسائل لخلق ولادة جديدة ولتأكيد الاستمرارية في السرد.

الشخصية النسائية هي دائما في حالة تحول وتغير مستمر. ولنأخذ الشخصية الرئيسة التي تحمل اسم الرواية الأولى لبن جلون «حرودة» التي أحدثت ضجة في الوسط الثقافي. حرودة ثارت على محيطها، (واسمها مشتق من فعل «حرض»). خرقت القيم والأعراف. والنتيجة: رُفضت، لُعنت من قبل محيطها. فهي المرأة الخطيرة، المرأة التي تعارض النظام الحاكم، والتي تقهر الغول وتهزم الاخطبوط والكواسر، وفي الوقت نفسه تهرع لمساعدة الأطفال العصافير. امرأة حرة طليقة نقيض شخصية الأم التي فرض عليها الصمت فيأتي ابنها الطفل - الراوي ليجعلها تتكلم منصتا لقصة حياتها مع زوجين سابقين لأبيه يكبرانها سنا.

لقد فشلت القطيعة. وعانت شخصيات نسائية عديدة خلال مشوار حياتهن الطويل. لكن لم يُرد لهن الاعتبار إلا بعد مرورهن بمرحلة الاذعان والخضوع والإذلال والتشويه والضياع والتشرد والتيهان. لم يكن ظهور شخصية أحمد ? زهرة في رواية «ليلة القدر» إلا نتيجة لهذه الصيرورة الطويلة. وكانت ولادة جديدة بعد آلام عسيرة مرت بها هذه الشخصية. إن تعدد الرواة حول قصة احمد ? زهرة في رواية «طفل الرمال» ساهمت في إشراك المستمعين والرواة، والقراء لاحقاً، من خلال تأويلاتهم لتعددية وتنوع الحكايات. هذا الخليط أعطى لمستمعي قصة أحمد ? زهرة فرصة طرح السؤال والمطالبة بسماع الحقيقة.

«ما يهمنا هو الحقيقة»، هكذا تبدأ رواية «ليلة القدر». فيأخذنا بن جلون في مشوار، يمر بنا بصمت ليصل بنا إلى النطق بالكلمة، ومن غياب متصنع إلى حضور الشخصية النسائية التي تعرض حياتها الخاصة وتكشف أوجهها ومصادر هويتها المتعددة. إنها تحكي قصتها بنفسها أمام مستمعيها مستعينة «بالأنا» بكل ثقة وبأدنى خوف. إن مستمعي أحمد ? زهرة أصبحوا جاهزين للاستماع لروايتها، مستعدين لتقبل قصتها بكل خصوصيتها المحكاة بالضمير: أنا».

يبدو أن الطاهر بن جلون أدرك مبتغاه: المرأة لم تعد قاصرة، فقد حصلت على مساواتها مقابل الرجل بفضل المعرفة التي اكتسبتها من خبراتها المعاشة. لقد اكتشفت «الأنا» وقبل ذلك جسدها، بعبارة أخرى هويتها. وحصل تراض، أولا، مع نفسها باستردادها هويتها، بتقبلها وتكيفها مع الأوجه الأخرى للهوية المقتبسة، وأيضا تراضيها مع المجتمع. وتكون خاتمة الكتاب عبارة عن مصالحة مع الذات ومع المجتمع. لم تعد أحمد ? زهرة امرأة ملعونة بعد الآن. لقد أصبحت امرأة طاهرة تعالج نساء شابات يأتين لطلب مشورتها فيما يخص خصوبتهن.