ورش الكتابة الإبداعية تدفن نظرية «وادي عبقر»

100 مركز فرنسي والطلب يتصاعد للالتحاق بها وافتتاح غيرها

تعلّم الكتابة الأدبية مطلب جماهيري
TT

يسود في الأوساط الأدبية العربية اعتقاد شائع بأن فن الكتابة يعتمد في جزء كبير منه على الموهبة والقدرة الإبداعية، وهو ما لا تعترف به المجتمعات الغربية التي تعامل الفنون على أنها ميادين خاصة تحكمها قواعد وقوانين معينة، كسائر العلوم التي تدرس في المدارس والجامعات. وهي تعتبر أنه بإمكان الإنسان العادي صقل قدراته وتنميتها إن هو تعلّم مبكراً فن الكتابة، من الناحية اللغوية وعمّق معرفته بتقنيات الكتابة الأدبية والدرامية. هذه هي الفكرة وراء انتشار مراكز تعليم الكتابة أو ما يسمى بـ creative writing courses في الولايات المتحدة الأمريكية التي تكاد كل جامعاتها تحوي، فروعاً تدرّس كيفية كتابة الشعر والقصة والرواية والنقد أيضاً. الوضع مختلف في أوروبا وفرنسا خاصة، حيث تستمر الطبقة المثقفة في اعتبار الكتابة فناً، من وحي الإلهام، إلا أن الأمر بدأ يتغير، وتلاقي ورش الكتابة منذ مدة نجاحاً جماهيريا واسعاً.

* الكتابة الأدبية رغبة جماهيرية

ورش الكتابة المعتمدة اليوم، من طرف وزارة الثقافة الفرنسية تفوق المائة، 20 منها فقط تحظى بسمعة جيدة، واعتراف بحرفيتها. ولكثرة الإقبال عليها باتت هذه الورش لا تخلو من الدجّالين، والكتّاب المزيفين.

الكتابة تستهوي الجميع، والورش مفتوحة أمام أي شخص يهوى الكتابة ويريد إتقانها، سواء لأنه يريد المشاركة بمقالات في الصحافة المكتوبة أو لأنه يريد فتح مدونة يسجل فيها يومياته أو أن يكون فقط ممن يريدون خوض تجربة الكتابة لبعدها النفسي الاستبطاني. كما أن كثيراً من الورش موجهة لأطفال المدارس والثانويات، بإشراف أساتذة اللغة الذين يحاولون، من خلالها، تعويدهم على التمرس في التعبير الكتابي والشفوي بطريقة ترفيهية، بعد أن ثبُت وجود بعد اجتماعي وتربوي لهذه الورش من خلال فاعليتها في تقريب المسافة بين التلميذ والمؤسسة المدرسية ومساهمتها في تخفيض نسب الفشل الدراسي.

* طلب كبير على تعلم فن «الرواية»

الأساليب المعتمدة لتعليم أسرار الكتابة الإبداعية تختلف باختلاف النوع الأدبي، فمنها ما يخصص للرواية ومنها ما يخصص للشعر وكتابة السيناريوهات الدرامية أو حتى التقارير المهنية. على أن معظم ورش الكتابة تتجه لفن الرواية الأدبية بل وتتخصص فيها، وتقدم دروساً مثلاً في كتابة الرواية البوليسية، السيرة الذاتية، أدب الأطفال، علم الخيال، إلخ. «أكثر طلبات التسجيل التي نتلقاها هي لفن الكتابة الروائية»، يقول جان فرانسوا إسكري، أحد الأساتذة المدربين في مركز «ألف» للكتابة. ويتابع قائلاً: «الرواية جنس أدبي ذو إمكانيات كبيرة في التعبير عن الإنسان في تداخل قضاياه وتعقيداتها. وغالبية من يسجلون عندنا، عندهم قصصص يعتقدون أنها تستحق أن تروى أو مشروع لتدوين مذكرات يعتقدون انها هامة».

* تعددت الأساليب والهدف واحد..

عمل هذه الورش، لا يعتمد على دروس في الأدب أو تاريخ الرواية وأنواعها بالمعنى التقليدي، بل تعتمد في أغلبها على حصص في التعبير الكتابي والشفوي، وتبادل الآراء والتجارب في جو من المرح والمنادمة والتفاعل بين المشاركين، كشرط أساسي لإثارة الإبداع الفكري لديهم. المنشط لا يلبس ثوب «الأستاذ» المحاضر بل إنه يشارك في النقاش مثل غيره ويكتفي بتوجيه النقاش، إذا استلزم الأمر دون فرض رأيه. ورش الكتابة الإبداعية تستلهم أحد التيارات الثلاثة الكبرى المعروفة في هذا المجال. التيار الأول يهتم كثيراً بالحرية والتلقائية في التعامل مع النص والمعنى، ويعطي الأولوية لتبادل الآراء والتجارب لإخراج الكاتب من عزلته، ولا يحبذ استعمال أي قيود، كما أنه يركز على البعد النفسي للكتابة باعتبارها المتنفس عن كل ما يعذب النفس العميقة. أشهر الورش التي تعمل بهذه الطريقة ورش «إيلزابيت بينغ». التيار الثاني يركز على الجانب التقني للكتابة، تماما كما تعمل الورش الإبداعية الأمريكية، أي يتم التمرن على الكتابة بتقنيات معينة: نقد وإعادة كتابة النصوص عدة مرات، مراعاة البعد الرمزي للشخصيات والأسماء، التركيز على احترام البناء التركيبي للرواية، الاستعانة بنماذج للمقارنة... مع التركيز على أهمية الدور التأطيري للأستاذ المنشط. وأشهر المراكز التي تعتمد هذا الأسلوب ورش «ألف» Aleph للكتابة وورش الكاتب المعروف «فرنسوا بون»، الذي يعتبر من المثقفين القلائل الذين يساندون فكرة التمرن على الكتابة، خاصة في الضواحي الشعبية.

الدروس أو «الجلسات» كما يسميها أصحابها لا تضم أكثر من عشرة مشاركين يتحلّقون حول أستاذ مدرب غالبا ما يكون كاتباً محترفاً أو أستاذ لغة. الحصة تبدأ بعرض صورة أو رسم أو مقطع موسيقي أو قراءة مقطع من كتاب، ثم يطلب المنشط من المشاركين صياغة نص صغير انطلاقا من هذه «المحفزات». ويراعى، في كل مرة، أن تطرح هذه النصوص للمناقشة حتى يتمكن كل واحد من الاستفادة من آراء الآخرين. تخصيص مدة محددة للكتابة مهم ايضاً، لأنه يدرب الكاتب الناشئ على تحرير خياله، وتقديم الفكرة على الجانب الشكلي للنص، كثيراً ما يكون الحرص والتركيز عليه عائقاً يحول دون تفجير الطاقات الإبداعية.

التيار الأخير يعتمد أسلوب «الكتابة تحت الضغط». وهي طريقة أطلقها الكاتب «ريمون كينو» الذي اشتهر بفرنسا بعد قيامه بإنجاز فني وتقني هائل، تمثّل في تأليف رواية بعنوان «الاختفاء» كتبها من البداية إلى النهاية دون أن يدخل في كلماتها حرف (E) على الرغم من أن استعماله شائع جدا في اللغة الفرنسية. معظم الورش التي تعتمد هذا الأسلوب تقترح ألعاباً وتمرينات لغوية ترفيهية، تمزج أحياناً بين علم الرياضيات واللّغة، كأن يتم تكوين نص تنتهي أو تبدأ كل جملة منه بنفس الحرف أو تركيب جملة مفيدة تضم جميع أحرف اللغة الفرنسية، أو جملة نستطيع قراءتها بالمقلوب، أو جملة يكون لكل كلمة فيها حرف زيادة عن الكلمة التي سبقتها.

* الكتابة حق للجميع

* أولى تجارب ورش الكتابة الإبداعية في فرنسا بدأت في ستينات القرن الماضي، تزامناً مع التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدها هذا البلد بعد ثورة مايو 1968. فكانت قضية تعميم الكتابة من جملة المطالب الاشتراكية للشباب الفرنسي الذي كان يرى الممارسة الأدبية «نخبوية» وحكراً على الطبقة المثقفة. لكن أولى التجارب العملية التي لاقت انتشاراً شعبياً كانت مع الصحافية والكاتبة «إيلازبيت بينغ» منذ حوالي ثلاثين سنة، حين نجحت من خلال تنظيم دروس للتعبير الكتابي مع مجموعة طلبة ذوي وضعية فشل دراسي في جعلهم يتصالحون مع المدرسة بل ويقبلون بشدة على الكتابة والتعبير. وقد لخصت «إيلازبيت بينغ» تجربتها المتميزة في كتاب صنع شهرتها بعنوان «وسبحت حتى.. الصفحة». وهي تعتمد في عملها على تطبيق مفهوم «التصليح» الذي تقصد به استبدال المفهوم التربوي الكلاسيكي للكتابة بآخر أكثر حرية وتلقائية. وهي ترى أن التقيد بالأنماط القديمة يحبس الطاقات الإبداعية ويختزل الكتابة إلى مجرد ممارسة قسرية، ويضيّع على الشخص فرصة التعرف الى الجانب الممتع من الكتابة وكذلك الى أسلوبه الشخصي.

وقد تستخدم ألعاب معروفة أخرى مثل، «الجثة اللذيذة» أو «المتاهة» أو «لعبة السجين» أو «لعبة السبير» وكلها أساليب ممتعة للّعب بالحرف والكلمات والكتابة تحت ضغط تحديات تحدد سلفاً. وهذه التحديات ليست أبجدية فحسب، فقد تكون نحوية أو صوتية أو درامية. تقول ريجين دوتبيل، أستاذة مدربة في ورشة «ألف»: «ان تكتب تحت ضغط قاعدة معينة، يعني أن تجد نفسك تكتب نصوصا لم تخطر على بالك مطلقاً. فأنت تنطلق من الكلمة لتصل للفكرة، وهو عكس ما يحدث في الكتابة التقليدية. ولهذا فأول ميزات هذه الطريقة هو تحرير الخيال والخروج من مصيدة الكليشهات والروتين. فالكاتب يذهب إلى أبعد حدوده ليدخل في السوريالية، ويتعلم كيف يصبح كالحرفي الذي يتففن في صنع قطعته اليدوية».

المدافعون عن فعالية ورش الكتابة، لا يؤمنون كثيرا «بلحظة الإلهام» التي كثيراً ما يٌقال إنها تزور الكتّاب قبل أن يتحفونا بإبداعاتهم. يقول إيمانويل بينغ، مدير ورشة «دوكسا» للكتابة والفن التشكيلي: «ليست هناك وصفة سحرية، تجعلنا نكتب كما يكتب الآخرون، المهم أن نقرأ كثيراً ثم نترك القلم يتحرك بحرية، ونطلق العنان للخيال والعاطفة ونضاعف المحاولات حتى نصل إلى ما نريده». إيمانويل لا ينسى أن يركز على دور الأستاذ المدرب الذي يقع على عاتقه مهمة توجيه المتدرب دون التأثير عليه، ويتابع قائلاً: «لا بد أن يكون الأستاذ المدرب قد امتهن الكتابة وذا ثقافة واسعة، لكن لا يجب عليه التدخل إلا لتوجيه المناقشة، لأن الهدف هنا، هو أن يجد الشخص أسلوبه الخاص في الكتابة بحرية ودون ضغط».

آلان أندريه، أستاذ مدرب ومدير مركز «ألف»، يقول: «إذا لم تأت لحظة الإلهام فما علينا إلا الذهاب لاصطيادها، وإن لم نتمكن من الظفر بها فسيكون بحوزتنا شيء ما يشبهها كثيراً». وهو يركز هنا على أهمية التمرن على الكتابة والجهد الشخصي الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى الوصول لأسلوب ومستوى جيدين في الكتابة. ويقول ناصحاً تلاميذه: «اكتبوا كل يوم مع الصباح الباكر أو بالليل، المدة غير مهمة حتى وإن كتبتم نصف ساعة في اليوم. المهم هو الالتزام بنهج وإيقاع منتظم في الكتابة. لا تنتظروا لحظة الإلهام فهي قد لا تأتي أبدا».

المقتنعون بفكرة التمرن على الكتابة من أجل الوصول إلى «الحرفية» يستشهدون بالتاريخ. وها هي أكبر المؤسسات الثقافية في فرنسا كمكتبة فرانسوا ميتران، تعرض في طابقها الثامن مسودات لأشهر أعمال عمالقة الأدب والرواية مثل فيكتور هوغو، بروست، سارتر وفلوبير في محاولة منها لفهم هذه اللحظات السحرية التي تسبق الإبداع. مشهد الصفحات الصفراء القديمة التي تكاد تكون غير مفهومة، بسبب كثرة الشطب تثبت لنا أن النصوص الجميلة التي أحببناها عند كبار الكتاب، لم تأت للوهلة الأولى، بفعل وحي، بل كانت حصيلة جهد فكري كبير، وساعات طويلة من المحاولات المتكّررة. الخروج من العزلة وتبادل الخبرات والتجارب مع الآخرين، تبقى اكبر ميزات هذه الفضاءات الورش. فالكتابة باعتبارها تجربة فردية، بل وسرية، في بعض الأحيان، لا تسمح بالاحتكاك مع الآخرين للاستفادة من آرائهم. وعادة ما تكون مشكلة الشباب الذين لا يتجرأون على إخراج محاولاتهم الأدبية من أدراج المكاتب هي «نقص الثقة بالنفس»، خاصة مع الاعتقاد السائد أن آراء الأصدقاء والأقارب، لا يمكن الثقة بها لأن طابع المجاملة قد يطغى عليها.

خديجة طبيبة جزائرية مقيمة في باريس، تهوى الكتابة، ولها عدة محاولات روائية باللّغة الفرنسية، تقول عن تجربتها: «أول مرة قرأت فيها محاولاتي الأدبية، كانت في ورشة للكتابة الأدبية، وكنت أخجل من عرض محاولاتي على معارفي، وينتابني شعور غريب بأني إن قرأت عليهم شيئاً ما مما أكتب، فكأني أتجرد من ملابسي، وأكشف عن أشياء شخصية حميمية. لكن الأمر كان أهون بالنسبة لي أمام زملائي في الورشة، ولم تكن تربطني بهم أي علاقة من قبل. استفدت كثيراً من آرائهم ونبهوني إلى تفاصيل في أسلوبي الكتابي لم ألحظها من قبل. والتجربة بالنسبة لي إيجابية، فقد أكملت أول رواية لي، وأنا الآن بصدد البحث عن ناشر». ساندرين بايي، كاتبة ناشئة أصدرت اخيراً رواية «La serre» منشورات Rouergue وكانت قد تابعت دروساً في ورشة «إيلازبيت بينغ» تقول: «لم يكن التحاقي بالورشة هو ما شجعني على الكتابة، وكنت قد بدأت فعلاً بالكتابة قبل التسجيل في الورشة، لكن حضوري هذه الدروس ساعدني على الالتزام بمنهج معين في الكتابة ومنحنى الثقة بالنفس للمضي قدما في مشروعي. والأهم من هذا هو أن الاحتكاك بالآخرين سمح لي بمواجهة ما أريد التعبير عنه، مع ما يصل لآذانهم من خلال قراءتي عليهم». رغم أن كتاباً أمريكيين معروفين، خاضوا تجربة الورش الإبداعية قبل الوصول إلى الشهرة مثل، لوري مور وريمون كرفر وحتى إرنست هيمنغواي الذي تلقي دروساً في باريس على يد جرترود شتاين، إلا أن النتائج المباشرة ليست دائماً ما ينتظره المشاركون في هذه الورش، فمنهم من يشارك لمجرد الاستمتاع بتبادل التجارب الشخصية مع الآخرين أو لتحسين أدائه الاجتماعي باعتبار الكتابة وسيلة للتقارب والاتصال في كل المجتمعات، أو لمجرد التسلية وإشباع للفضول. البعض ينتهي به المطاف فعلاً إلى احتراف الكتابة، والبعض يواصل الكتابة على سبيل الهواية. لكن تبقى هذه الورش بالنسبة للشباب وهواة الكتابة فضاءات ثقافية حقيقية لتبادل الخبرات والتجارب. وأولى الخطوات التي قد تقودهم نحو تنمية المزيد من قدراتهم الإبداعية.