رياض نجيب الريس: طائري المفضل هو البوم لكنني لا أحب التبويم

يتلو فعل الندامة على ما فعل دون توبة نصوح

TT

لا يخطئ الصحافي والوراق رياض نجيب الريس، حين يلقب نفسه بـ «آخر الخوارج»، فقد اختار هذا الاسم عنواناً لكتاب مذكراته «أشياء من سيرة صحافية» حيث نبش في التاريخ وتوصل إلى نتيجة أن الخارجي لا يعني اللامنتمي، كما سبق وترجمت الكلمة إلى الانكليزية outsider، في الخمسينات في كتاب كولن ويلسون، والتي عارضها حينها. لأن اللامنتمي لفكرة أو قضية، ليس بالضرورة أن يكون خارج السياق العام، كما أن الخارجي بحسب التاريخ العربي الإسلامي من وجهة نظر الريس هو: «الخارج على السياق العام والمنتمي لقضية أو فكرة معينة». ومن الطريف أن يعترف الريس بأنه صحافي القضايا الخاسرة، إذ أن انتماءه لحرية واستقلال الصحافة، كان يدق المسامير في نعش كل مشروع صحافي ثقافي يتنطح له. فمن جريدة «المنار» التي أصدرها في لندن عام 1976، أول جريدة عربية مهاجرة، والتي حققت في أول عدد لها سبقاً صحفياً شغل العالم أجمع لدى الكشف عن هوية خاطفي طائرة ألمانية، مروراً بمجلة «الناقد» الشهرية التي عاشت سبع سنوات من القمع والمصادرة، ولغاية «النقاد» الأسبوعية السياسية والثقافية المشاغبة التي لم يكتب لها العيش أكثر من أربع سنوات، رغم ما حققته من نجاح. لا يبدو رياض الريس أنه يتعلم من تجاربه، فما زال يرفض التخلي عن قناعته: «إما حرية أو لا حرية»، رغم إقراره بوجود «ضوابط للحرية»، لكنها برأيه «ليست نظاماً صارماً. ضوابط الحرية هي الظرف السياسي الوطني في مرحلة تاريخية معينة، مع وجوب وجود قوانين تحمي المجتمع والفرد والمطبوعة». معتبراً أن مهنة الصحافة مثل «عزيز قوم ذل»، وفي الوقت نفسه تصر الصحافة على الظهور بكامل قيافتها. ومن أكبر الأكاذيب عنده القول ان «الصحافة سلطة رابعة»، فقد حط الزمن بها وفقدت مكانتها، مذ فقدت حريتها. يقول الريس: «بكل أسف، المؤسسات الصحافية العربية لا تناقش موضوع حرية الصحافة. لم أقرأ بياناً واحداً لأي مؤتمر من مؤتمرات وزراء الإعلام العرب أو اتحادات الصحافيين يدافع عن حرية الصحافة. لم تطالب تلك المؤسسات بدعم حرية الصحافة، وإنما ضاع الصحافي العربي في تحصيل لقمة عيشه التي أصبحت موضوع مساومة».

ناقد ونقّاد

حين أصدر «الناقد» في لندن يوليو (تموز) 1988 كان ذلك انطلاقاً من رفض أزمة حادة يعيشها العالم العربي شملت المجلات الثقافية، والتقت آراء عدد كبير من الأدباء والنقاد حول إصدار مجلة شهرية تكون منبراً لأقلام الخلق والتغيير، تمثل كل الاتجاهات، وتُعنى بحرية التعبير. وكان هذا سبباً كافياً لتبقى المجلة محكومة تارة بالمطاردة وأخرى بالطرد إلى أن توقفت بعد سبع سنوات من المعاناة والشقاء الجميل. لكنها شكلت علامة فارقة، بما مثلته من حركة حيوية قدمت نخبة من المبدعين، شكلوا عصب الحياة الثقافية العربية وما زالوا حتى الآن يلعبون أدواراً رائدة.

ويذكر الريس أنه قبل صدور العدد الأول من «الناقد»، أعلنوا في الصحف عن تطلعهم إلى إصدار مجلة ثقافية، ودعوا الكتاب إلى سن أقلامهم للمشاركة فيها. فتطوع شاعر غيور بنصيحة لهم نشرها في مقاله الأسبوعي، أن يصدروا مجلة كلمات متقاطعة تساعده على النوم بدلاً من مجلة ثقافية تساعد على الاستيقاظ والفهم. ويقول الريس: حينها لم نخف استياءنا من تلك النصيحة، واعتبرنا أنها تصب في خانة (عداوة الكار) الثقافي. لكن اليوم وبعد كل تلك السنوات من مغامرات النشر، أدركنا بحكم وقائع التجربة، كم أن ذلك الشاعر كان مصيباً. مع أن «الناقد» ومن ثم «النقاد» امتلكتا من المغامرة والعناد، ما أهلنا لإعلان العصيان بوجه تلك النصيحة.

في مكتبه بمنطقة الصنايع في بيروت، يجلس رياض الريس محاطاً بصور لأغلفة مجلتي «الناقد» و«النقاد» إلى جانب لوحات فنية مميزة أغلبها لفنانين سوريين، ولوحات كاريكاتير وقصاصات صحف ومجلات تحوي أخباراً أو صوراً لأصدقاء أغلبهم مستجد، قلة منهم تصمد معه في خندق المودة، والكثرة تتناوب بين المودة والعداء الثقافي. فإذا كان ثمة وصف ينطبق على علاقاته فهو الأسرع في تحويل الأصدقاء إلى أعداء، والعكس صحيح، في حالة سجال ثقافي خال من الحقد.

أهلاً بالرقابة ولكن كيف؟

في مكتبه الأقرب إلى مطبخ ثقافي شديد التنوع والحافل بالمفاجآت، يكفي أن يحمل الكتاب أو الكاتب فكرة غير مألوفة حتى يدب الحماس لديه، ويبدأ بكرنفال ترويجي بعناوين ذكية و«كوتشن» طريفة أو صادمة، لا شك في أنه من أبرع من يختارها، وأدق من يصيب الهدف. وما بين الهذر والجد، يُغري القارئ بوجبة ثقافية شهية، لكن دون ضمانة أكيدة، فقد لا تكون دسمة على مستوى الدعاية والاحتفالية التي قُدمت بها، منها ما هو أقل مما يطمح، ومنها ما هو خالي الدسم. ويرد على الانتقادات التي تطال لديه هذا الجانب المولع باختيار العناوين ويقول: «نحن لا نتدخل إطلاقاً في نص الكاتب، فهو يقبل أو يرفض. أما العنوان فأساسي، ويوضع حسب دواعي النشر وعادة لا يعترض الكاتب على عناويننا». لافتاً إلى أنه من جانب آخر «لا نحذف أي كلمة لدواع رقابية خوفاً من المنع في بلد عربي ما، ولا نبدل في الجمل والفقرات خشية الرقيب، هكذا ألاعيب، لا تؤدي غرضها. لأن الرقابة في بلداننا لا تخلو من المفاجأة، فقد يعثر الرقيب على شيء لا يخطر في البال». ويعطي مثالاً على ذلك مثلاً: «أصدرنا رواية لأديب سوري كبير، وتم السماح لها بدخول السوق السورية ثم سُحبت من الأسواق، والسبب كما علمنا اعتراض متأخر للرقيب على كلمة «حكومية» الواردة في الرواية كصفة لسيارة دهست إحدى شخصيات الرواية!!» ويتساءل الريس: «هل يخطر ببال أحد أن تكون كلمة (حكومية) سبب منع الرواية؟!» مؤكدا أنه ليس «ضد الرقابة والمنع، إذا كان هناك موضوع مهم بالإمكان الدفاع عنه، لكن في هكذا، حالة عن ماذا ندافع؟!!».

ومع انه ليس «ضد الرقابة»، إلا أن الرقابات العربية كانت له دائماً بالمرصاد، أو أنه بالأحرى كان دائما حريصاً على التحرش بها عبر الحث على الممنوع وغير المرغوب فيه من الكتابات والأفكار، متحملاً، بل مستمتعاً بما يناله من انتقادات. واتهامه بنشر كتب تجارية، وهو ما يرد عليه بالنفي، متحدياً أي شخص يجد فيما تنشره الدار كتباً تجارية، إذ تخلو منشوراتها من تلك الكتب التي تطلبها الجامعات والمؤسسات التعليمية كالقواميس والموسوعات. فهو ينشر ما يهم القارئ العادي، ولا ينفي أن تكون هناك اعتبارات شخصية في النشر، إذ قد يتحمس لكاتب يحبه بغض النظر عن محتوى كتابه، أو يضعف حيال واسطة من صديق عزيز، «لكنه لا ينشر لأسباب تجارية»، ويضيف هازئاً: «مع أني مستعد لقبول أي مشروع تجاري».

أعداء بدون حدود

ولعل أجمل المفارقات التي تطالعنا أن المرح والبهجة أهم ميزات الحديث مع رياض نجيب الريس، فأينما مضى ترافقه النكات والقفشات، على الضد تماما من أجواء الثقافة المكفهرة الكئيبة. فالرصانة الفكرية لديه لا تتناقض مع السخرية والمرح، يقول:«طيري المفضل هو البوم لكني لا أحب التبويم. فالمرح وخفة الدم سرعة البديهة والنكتة أمور يجب توفرها في الثقافة». لأن الثقافة بمفهومه:» ليست تقطيب جبين ووجوماً وادعاءات. فالثقافة على علاقة بكل الناس بمختلف مستوياتهم وإذا كثر فيها الادعاء تصبح مضجرة ومملة». لذا فإنه «حين تحبك النكتة» حسب تعبيره لا بد أن يرميها، مهما كانت لاذعة، بغض النظر عن العواقب. وهذا ما يكسبه أصدقاء بقدر ما يكسبه أعداء، فحين تسأله عن صفحة، «دليلك إلى الكتاب الرديء» التي ابتدعها في مجلة «الناقد»، يضحك قبل الإجابة: «للأسف تم تفسير هذه الصفحة بأنها للتشهير ودخلنا بسببها المحاكم. فلم نكن نتوقع أن يكون رد الفعل على هذا النحو، كأن تهاتفني كاتبة مهددة بالانتحار، وأخرى تتهمنا بسبب طلاقها من زوجها!!» ويعبر عن ندمه بالقول: «ربما كان الأجدى الاستمرار بما درجت عليه العادة تجاهل الكتاب الرديء، بدل الترويج له بهذه الطريقة». «الندم» كلمة تتكرر أثناء حديثه عن تجربته في النشر، فهو كما يعلن في جلساته الخاصة دائماً، يتلو فعل الندامة عشرات المرات على أفكار تحمس لها زيادة عن اللزوم، منها على سبيل المثال «تخصيص عام 2000 لنشر الإبداعات النسوية». ويروي بطريقة مسرحية تختلط فيها التراجيديا بالكوميديا، تجربة يقسم بألا يعيدها ثانية. والسبب أنه عندما أعلن عن المشروع تحت عنوان «دعوا الكاتبات يأتين إلينا»، تعرض لهجمة نقد ساخر عنيفة من زملاء المهنة، ما جعله يقف أمام تحد بحجم الدعاية والصخب الذي أثاره المشروع. وحين وصلته المخطوطات كانت بمثابة مأزق حقيقي، ويقول: «كي لا أبالغ وصلنا حوالي أربعين مخطوطاً ثلاثة أرباعها شعر تافه، وبضع روايات مقبولة إلى حد ما، ومجموعات قصصية لا بأس بها». فماذا يُخرج من كل هذه الكومة ليبرر ما تقدم من همروجة الدعاية؟! الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. ولا يملك الريس إلا أن يضحك ساخراً، وهو يروي كيف انهالت عليه هواتف واسطات من كل حدب وصوب من خارج الوسط الثقافي، من رجال أمن ومسؤولين كبار يتوسطون لهذه الكاتبة أو تلك، يطلبون تشجيعها. والأكثر طرافة أن تأتيه كاتبة إلى المكتب باكية شاكية من أنه لا يحبها، لذلك لا يريد أن ينشر لها!! ما أثار استغرابه، ولم يتمكن من تقبله هو اللجوء إلى ذوي النفوذ من خارج الوسط الثقافي، بدل الاستعانة بمثقفين وكتاب بإمكانهم الدفاع عن محتوى الكتاب على الأقل.

رياض الريس في جحيم النساء

رأيه هذا جره إلى خصومات مع كثير من الكاتبات لا يد له فيها. إذ اعتبر عدواً للمرأة الكاتبة، وهو ما ينفيه، إذ ليس لديه موقف من الكاتبات، بل ما زال يشجعهن. وحسب جدول إصداراته، للكاتبات نصيب كبير فيه، لكنه «نادم» على تخصيص عام كامل لهن.

من يعرف رياض الريس يعرف تماماً، أن تلاوته لفعل الندامة مجرد كلام. فهو لا يكف عن المغامرة والتجريب، ألعاب أدمنها مثلما أدمن الشغب في أجواء ثقافية راكدة، فيقول باعتزاز مسرحي: «كانت «النقاد» أول من عالج أخبار الأدباء مثل أخبار نجوم الفن والغناء، لأن في نفس كل أديب شيئاً من نجومية الفن ولو اطلعتم على الرسائل التي تصلني من الأدباء والأديبات وبالأخص الأديبات وكيف يقدمن أنفسهن للمسنا هذا الجانب». فحين أصدر مجلة «النقاد» أرادها مجلة خفيفة، تُعنى بتقديم وجبة أخبار سياسية واقتصادية سريعة، تلائم روح العصر لقارئ ملول، مع إعادة الاعتبار لفن الكاريكاتير كغلاف وبديل عن الصور داخل الموضوعات، بإخراج جذاب لطيف إلى جانب أبواب ثقافية تعنى بالكواليس والقيل والقال، فتمكنت من شغل الأوساط الثقافية مع مطلع كل أسبوع، واحتدمت على صفحاتها معارك ثقافية امتدت من بلاد الشام إلى مصر، قبل أن تلحق بركب «الناقد» وتتوقف عن الصدور. إلا أن أحلام الريس لا تتوقف ولا يزال السؤال يلاحقه وبالأخص من قرائه السوريين: ماذا بعد، ألا تفكر بمشروع جديد؟ لكن الصحافي يبدو وكأنه يأخذ استراحة المحارب، وينصرف لتأليف الكتب وإنشاء مؤسسة نشر جديدة باسم «كوكب» تعنى بنشر الأدب فقط. أما مشاريع الصحافة فهي مؤجلة إلى حين غير مسمى، بعد انهيار أكبر أحلامه وهو إصدار «صحافة عربية حرة» في أوروبا بعيدة عن الضغوط السياسية والأحقاد الحزبية والإرهاب السلطوي. صحافة فيها شيء من نفس الرواد الأوائل من الذين هاجروا، تكون استمرارية لهم بأسلوب متميز وصادق وبحرفية مهنية لا تستهين بالقارئ. وكانت النتيجة أن تحقق الحلم بإصدار صحافة عربية في أوروبا من غير حرية ومع كل الضغوط التقليدية التي تمارس في العالم العربي وفشل الطموح وانتهاء الوهم. فهي لم تكن أفضل حالا من الصحافة التي تصدر في أي بلد عربي، كل ما في الأمر أنها تحرر في أوروبا وتشحن إلى العالم العربي بشروط العالم العربي.

بيروت الإمتاع والمؤانسة

حين ينظر رياض الريس إلى تجربته الصحافية في ميدان الثقافة وهو الذي جرب في بداياته الكتابة في الشعر والنقد، يُسلم بأن الصحافي هي الصفة الوحيدة التي يملكها من دون أية أوهام، ومن دون الوقوع في وهم الاعتقاد بأن ما كتبه للصحافة كان أدباً، «لأن الأدب الحقيقي لا يعترف بالصحافة، وليس من مهمة الصحافة أن تؤدي مهمة الأدب، فما يميز صحافي عن آخر هو الأسلوب والمعلومة، والأسلوب وحده لا يخلق أديباً، والمعلومة وحدها لا تصنع صحافياً».

الريس الذي مارس الصحافة ما يقارب النصف قرن، وفتحت له أبواب كثيرة عرف من خلالها العالم، يتأسف على ما وصلت إليه حالها إلى «سقوط لم تعرفه في كل تاريخها، وتراجع في أسلوبها وممارساتها، فاق تراجعها في حرياتها وكراماتها واستباحة الأنظمة والناس لها».

السوداوية والإحباط مفردات يمقتها الريس، لكنها تلاحقه بحكم واقع مأزوم منذ عقود، غير أنه يتحايل عليه بالنكتة انطلاقاً من مبدأ «شر البلية ما يضحك». ولعل هذا ما يميزه هو انه يظهر في هذه البيداء من التجهم الثقافي، كواحة من البهجة والرهجة، لا يكف عن إعلان آراء خارجة عن المألوف، ونابذة لمنطق المجاملات الثقافية أحياناً كثيراً. فهو «يحب في الصحافيين تقلبهم، ويمقت في الأدباء والشعراء غرورهم، ويحب منهم من يستطيع حفظ شعرهم أو يفهم أدبهم». نرافقه في بيروت من «دار الريس للنشر» إلى مقهاه ومطاعم، اعتاد ارتيادها لرؤية الأصدقاء والاستمتاع بالطعام كواحد من طقوس الإمتاع والمؤانسة التي يهواها ويطيب الحديث أثناءها. كما تطيب رفقته في بيروت المدينة التي يقول انها «المدينة الوحيدة في العالم العربي التي يمكن للمرء فيها العمل، قد تكون غير نظيفة ولا يوجد فيها كهرباء، أو فقيرة. لكن يمكن للمرء أن يبيع شاورما، أو يفتح معمل كراسي، وأن يضارب بالبورصة في نيويورك، ويكتب في مجلة ثقافية ويصدر ديوان شعر، من دون أن يقول له أحد، ما هذا؟ ويمكن أن يضربه قارئ احتجاجا على شعره السيئ أو يقلبه على عبقريته».

رياض الريس ابن الصحافي السوري الأشهر في سورية نجيب الريس الذي عرف في فترة الانتداب الفرنسي على سورية ومرحلة الاستقلال من خلال صحيفته «القبس»، لا يعتبر نفسه سوريا ولا لبنانيا وإنما عربياً. فهو دمشقي المولد، لبناني النشأة، من أب سوري حموي وأم طرابلسية، «قومي الفكر عربي الهوى». ويضحك عندما يعلن أن لا سوريته خدمته ولا لبنانيته شفعت له، وظلت عروبته مقياساً وحيداً لهويته، وما وضعه القانوني، إلا كوضع دولة تعلن استقلالها من طرف واحد، من دون أن تنتظر اعترافاً من أحد.