الترجمة السبيل الوحيد لنهضة عربية

الكتب المترجمة لا تشكل حتى الآن إلا ربع الكتب التي نشرتها «رابطة العقلانيين العرب»

TT

كانت رابطة العقلانيين العرب قد عقدت مؤتمرها التأسيسي الأول في فندق باريسي كبير بين 26 - 28 من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. وقد جرت فيه حوارات ونقاشات معمقة وصلت الى درجة الاحتداد والاشتباك (بالكلمات) في بعض اللحظات. وهذه هي سمات النقاش الديمقراطي الحر غير المدجن سلفا. هل كانت هذه النقاشات كافية او خالية من العيوب والنواقص. بالطبع لا. فمسائل ضخمة كتلك المطروحة على واقعنا العربي اليوم لا يمكن اشباعها، دراسة وتمحيصا، في لقاء قصير كهذا. هذه قضية مطروحة على المستقبل القريب والبعيد في آن معا. ولكن الرابطة استطاعت خلال فترة قصيرة لا تتجاوز السنتين أو الثلاث سنوات أن تقدم ما لا يقل عن ثلاثة وخمسين كتاباً ترجمة وتأليفاً. وهذا يعتبر بداية لا بأس بها لتحقيق انطلاقة كبرى مقبلة بعد تأسيسها بشكل رسمي وخروجها إلى مرحلة العلن. فالرابطة العتيدة إذ ترتكز على ما حققته حتى الآن تستطيع أن تواصل مسيرتها بزخم أكبر من أجل إنجازات أخرى أهم بكثير. والواقع أن مشروعها ضخم وربما كانت طموحاتها أكبر من إمكاناتها. لكن حسبها ان تحقق منها ما تستطيع.. وكما قال شاعرنا الكبير أبو الطيب المتنبي فإنه: على قدر أهل العزم تأتي العزائم... ثم إنه لا مستحيل تحت الشمس إذا ما توافرت الإرادة الطيبة وخلصت النيات...

عندما نلقي نظرة استرجاعية على ما حققته حتى الآن، سواء عندما كان اسمها «المؤسسة العربية للتحديث الفكري»، أم بعد أن اتخذت اسم «رابطة العقلانيين العرب» نلاحظ ما يلي: ان الكتب المترجمة لا تشكل حتى الآن إلا ربع الكتب التي نشرتها حتى الآن (أي 15 من أصل 53). وربما كان يفضل تدارك ذلك مستقبلاً وإقامة توازن بين المُترجَم والمؤلَّف. فهناك العديد من الكتب المهمة التي تنتظر أن تترجم من الفرنسية والانجليزية وربما الألمانية إلى لغتنا العربية. لكن هنا يمكن أن نطرح موضوع الترجمة بالمعنى الواسع للكلمة لا بالمعنى الحرفي الضيق: أي الترجمة كتلخيص وتعريب للفتوحات العلمية والفلسفية الكبرى التي تحققت في أوروبا على مدار القرون الأربعة المنصرمة. بهذا المعنى، فنحن جميعاً مترجمون حتى عندما نؤلف ونوقع أسماءنا بشكل مباشر على كتبنا!. وهذا ليس عيباً على الإطلاق ولا ينفي إبداعية هذا المثقف أو ذاك أو اجتهاده الشخصي الحر، وإنما يلفت الانتباه إلى الحقيقة التالية: وهي أن الثقافة العربية متأخرة جداً بالقياس إلى الثقافة الأوروبية، وبالتالي فلا يمكن استدراك ما فات وردم هذه الهوة السحيقة التي تفصل بيننا وبينهم إلا عن طريق الإكثار من الترجمات والشروحات والتعليقات والاضاءات...وبما ان نهضاتنا السابقة أيام المأمون والأندلس الزاهرة ومحمد علي قامت على أكتاف الترجمات في البداية، فإن نهضتنا الحالية لن تكون شذوذا عن القاعدة. نحن بحاجة الى سيل من الترجمات في كافة المواضيع لكي نستطيع استدراك الأمر وسد الفوات التاريخي واللحاق بهم.

ويحضرني بهذا الصدد موقف الثقافة الفرنسية من الثقافة الانجليزية في أواسط القرن الثامن عشر. فمن المعلوم أن الفرنسيين كانوا متخلفين عن الانجليز في تلك الفترة. ولذلك فعندما حاولوا النهوض واللحاق بأعدائهم التاريخيين فكروا أولاً بترجمة الموسوعة الانجليزية حرفياً إلى اللغة الفرنسية للاطلاع على جميع أنواع المعرفة المتوافرة لدى الانجليز التي تنقصهم. ثم بعد أخذ ورد قرروا إصدار موسوعة جديدة مؤلفة مباشرة بالفرنسية وأقلعوا عن فكرة الترجمة الحرفية للموسوعة الانجليزية. لكن كم استفادوا منها أو اخذوا عنها وهم يؤلفون؟ أليس العديد من أبحاثهم المؤلفة هي عبارة عن ترجمات مقنَّعة؟ وماذا يمكن أن نقول عن كتب كبار المثقفين العرب اليوم؟ أفضل واحد فيهم هو من يعرف أن يترجم بشكل جيد... وليتهم جميعا قادرون على الترجمة أو فهم النظريات الفلسفية والعلمية الكبرى للغرب! قد أكون أبالغ في هذا الكلام وأظلم البعض، لكن ليس كثيرا. في الواقع إن مشروع «رابطة العقلانيين العرب» يذكرني بمشروع الموسوعة الفرنسية الشهيرة الذي ترأسه الفيلسوف «ديدرو» في وقته والذي كان بمثابة رأس الحربة ضد الاستبداد السياسي والأصولية المسيحية المسيطرة آنذاك. فرابطة العقلانيين العرب تهدف أيضاً إلى التنوير الفكري ومواجهة الموجة الأصولية العارمة التي تكتسح العالم العربي - بل والإسلامي - منذ ربع قرن أو يزيد. ومعظم الكتب التي أصدرتها الرابطة حتى الآن تمشي في اتجاه الدراسة العقلانية - النقدية للتراث. من هنا اسمها. وبالتالي فهي ليست مؤسسة أكاديمية باردة أو حيادية كما تفعل العديد من مؤسسات الترجمة ومراكز البحوث العربية الأخرى. وإنما هي منخرطة في هموم عصرها وقضاياه حتى النخاع وتسعى بكل قواها إلى حلحلة الأمور وتجديد الفكر والعقليات في العالم العربي. وإلا فلا معنى لها أصلا..

ولهذا السبب فإنها تعرّف نفسها على النحو التالي: إن رابطة العقلانيين العرب تسعى إلى نشر الفكر العقلاني النقدي الجذري. وهي ترحب بأن تنشر ما لا يجد طريقه إلى النشر بسبب جرأته الفكرية.

بودي لو أضيف إلى هذه العبارة ما يلي: ان الجرأة لا تكفي وإنما ينبغي أن ترافقها الجدية الفلسفية أو القيمة الفكرية للبحوث المعروضة على النشر، سواء أكانت مترجمة أم مؤلفة. كما ينبغي ألا تتحول الجرأة الفكرية إلى استفزاز مجاني لا أهمية له. ذلك ان المسار العقلاني هو مسار تدريجي بطبيعته: بمعنى انه لا يتقدم خطوة جديدة الى الأمام إلا بعد ان يكون قد هضم الخطوة السابقة. كما ولا يطرح في فترة تاريخية معينة أشياء لا يمكن تحقيقها إلا في فترة لاحقة. انه يعرف كيف يفرق في كل مرحلة تاريخية بين الممكن التفكير فيه والمستحيل التفكير فيه. هذا هو المسار العقلاني في نظري. انه لا يطلب من المرحلة إلا ما يمكن ان تعطيه: أقصد إلا ما يمكن استيعابه وهضمه من قبل الجمهور العام بانتظار ان تنضج الظروف أكثر لكي يغامر بأفكار وطروحات جديدة، وهكذا دواليك. وبالتالي فالمسار العقلاني جريء، لكن غير متهور على الاطلاق. هذا لا يعني بالطبع انه جبان او غير قادر على الانخراط في المجهول والمغامرة الخلاقة.

مهما يكن من أمر، وأياً تكن النواقص والسلبيات، فإن مشروع الرابطة ضروري ويلبي حاجة تاريخية في هذا الظرف العصيب بالذات. انها ليست لعبة ولا مزحة وانما هي قصة حياة او موت، وجود او عدم وجود. وبالتالي فان نجاح مشروع التنوير العربي يتوقف على مدى استشعار خطورة اللحظة التاريخية التي نعيشها وعلى جدية المثقفين القائمين عليه والمساهمين فيه وفي جريدته الالكترونية «الأوان» التي تترأسها الآن الباحثة التونسية المعروفة رجاء بن سلامة، كما ويتوقف على حسن اختيار الكتب المترجمة ومدى نجاح الترجمة او فشلها.. سوف نحاسب على كل ذلك لاحقا، سواء من قبل الجيل الحالي او الأجيال المقبلة. ولن ننجو من المساءلة.. فمشروع الانسيكلوبديا الفرنسية (أي الموسوعة الفلسفية والعلمية) لم ينجح إلا لأن القائمين عليه والداعمين له كانوا شخصيات استثنائية من أمثال ديدرو، ودالامبير، وجان جاك روسو، وفولتير، وعشرات غيرهم. إنهم أناس ضحوا بطمأنينتهم الشخصية وأحياناً بحياتهم العائلية من أجل إنجاح مشروع فكري يتجاوزهم كأشخاص ولا يموت معهم وإنما يعيش بعد موتهم ويضيء للأجيال المقبلة الطريق. إنهم مفكرون عضّوا على الحقيقة بالنواجذ ونزلوا إلى الساحة على المكشوف ككاميكاز فكري، لكن في الاتجاه المعاكس للظلامية والظلاميين. وكان أن نتجت عن ذلك أكبر حركة فلسفية وتنويرية في العصور الحديثة: حركة صنعت مجد فرنسا وأدت إلى لحاقها بانجلترا، بل وتفوقها عليها في نهاية المطاف. وهي على أي حال أدت إلى تنوير أوروبا كلها لاحقاً وعلى مراحل. فهل من قبيل الصدفة أن ينطلق مشروع التنوير العربي من باريس مثلما انطلق منها التنوير الأوروبي عام 1750: أي قبل قرنين ونصف بالضبط أو أكثر قليلاً؟.

ولهذا السبب يدعونها مدينة النور والتنوير. كنت وأنا أجلس في قاعة الفندق المخصصة للحوار مع بقية الاخوة والأخوات المشاركين أعرف ان ديدرو كان يجمع مساعديه للتناقش بشؤون المشروع التنويري الفرنسي على بعد بضع خطوات منا. كان يجلس وهو مرعوب لانه يعرف انه مراقب من قبل السلطات الملكية والأصوليين الذين هددوه جسديا أكثر من مرة وأوقفوا صدور مجلته عدة مرات حتى أصيب بالقرحة من كثرة العرقلات والمضايقات والمناوشات. وكان اليسوعيون، أي الاخوان المسيحيون الأشداء، له بالمرصاد. لقد كانت المعركة من الضراوة والشراسة الى درجة انه دفن معظم مخطوطاته الفلسفية في الادراج العميقة فلم تنشر الا بعد موته. وبالتالي فلم تعرف قيمته الفكرية الحقيقية الا في القرن التاسع عشر. عندئذ عرفوا من هو ديدرو وما هو الدور الذي لعبه في ايقاظ فرنسا وتحريرها من اللاهوت الظلامي والطائفي المتزمت: هذا اللاهوت الذي يفتك الآن بالعراق وباكستان وأفغانستان وأجزاء كبيرة من العالم الاسلامي. لكن هذه هي طبيعة العمل الفكري: انه لا يتقدم الى الأمام خطوة واحدة الا من خلال الصراع والاشتباكات الفكرية، بل وحتى الشخصية. ولو كنت أمتلك الوقت الكافي هنا لشرحت كيف تمكن ديدرو ودالامبير والمتعاونون معهما من تغيير خريطة الفكر الفرنسي وقلب معطياته ومعادلاته في ظرف سنوات معدودات (عشرين سنة على أكثر تقدير). فهل سيكون المثقفون العرب الذين شاركوا في هذه الانطلاقة على مستوى نظرائهم الفرنسيين أكاد أقول:«أسلافهم» الكبار الذين حققوا التنوير الأول؟ أقول ذلك وأنا أفكر بكوكبة من المثقفات والمثقفين العرب الموجودين في المؤتمر والذين ساهموا في مناقشاته الحامية والحادة، سواء داخل القاعة أم خارجها.

أرجو ألا يفهم القارئ من كلامي هذا أن المثقفين العرب الذين لم يشاركوا في المؤتمر مستبعدون من جنة الله او انه لا علاقة لهم بالنور الفكري او الهم العربي والحقيقة الفلسفية! فما الى هذا قصدت على الاطلاق. فالكثيرون من غير الموجودين لا يقلون أهمية عمن دعوا، ان لم يزد في بعض الاحيان. لكن كان من المستحيل دعوة الجميع.. هذه بدهية.. فالمثقفون العرب الأكفاء كثيرون ومتنوعون. ولا يمكن حصرهم في لائحة صغيرة او لائحتين ولا في رابطة او رابطتين وانما هم متناثرون والحمد لله في كل أنحاء العالم العربي بمغربه ومشرقه وفي أرض الشتات، وعليهم تعقد الآمال لإخراجنا من هذا المأزق التاريخي الكبير الذي نتخبط فيه.