كيف تعامل الفكر الإسلامي مع مفهوم الجهاد؟

منذ القرن الثاني للهجرة حتى اليوم

TT

يعتبر هذا الكتاب مرجعا مهما في مجال عرض تطور آراء المفكرين المسلمين، منذ القرن الثاني للهجرة، وحتى اليوم تجاه مسألة الجهاد.

ويدرج الدكتور ماهر الشريف كتابه في حقل دراسة الأفكار، مستندا إلى منهج يقوم على التمييز بين الدين من جهة، والفكر الديني من جهة ثانية، ويحصر أغراضه في تتبع المواقف التي برزت خلال التاريخ الإسلامي تجاه هذه المسألة، على أن يكتفي بعرض آراء المفكرين، من دون أن يتدخل في تفسيرها، أو في تفسير وتحليل النصوص القرآنية، أو الأحاديث النبوية التي تم الاستناد إليها في نظريات الجهاد المختلفة.

أما السؤال الرئيس الذي يشغل الكتاب فهو: كيف تعامل المعبرون عن الفكر الإسلامي مع مفهوم الجهاد، وكيف فسروه، أو أولوا الآيات القرآنية عبر مراحل التاريخ؟ والافتراض النظري الذي يعتمده الكاتب هو أن هذا المفهوم، مثله كمثل غيره من المفاهيم الفكرية، قد تطور تبعا لتطور الواقع، وأن المفكرين الإسلاميين قد حملوه معاني، وارتباطات مختلفة، تبعا للتيارات الفكرية والسياسية التي انتسبوا إليها.

الملاحظ أنه في كل مرحلة من مراحل التاريخ، شهد هذا المفهوم تباينا صريحا بين مفكرين إسلاميين عاشوا في زمن واحد، أو في أزمان متقاربة. وربما احتاج هذا منا إلى دراسة الواقع المحيط بهذا المفكر أو ذاك، لمعرفة الأسباب التي تدعو لتفسير الفكرة بهذه الصورة أو تلك. مما لم يكن من مهام هذا الكتاب. ومع ذلك يمكن الانتباه إلى ان الفكرة تناوبت بين تيارين رئيسيين: الأول يرى أن الجهاد فرض على الكفاية، في حال العدوان، وأنه لا بد من دعوة الناس إلى الدين بالهداية. وهذا رأي الإمام مالك بن أنس، الذي قال أيضا، بأنه يعارض الاستقتال، أي الهجمات الانتحارية، لأن قصد الإسلام إحياء الناس، ودعا إلى الالتزام بأخلاقيات النبي ووصاياه أثناء القتال.

أما الاتجاه الثاني، فيمكن تقصيه لدى الإمام الشافعي في مؤلفه الرسالة، حيث إن الغاية من الجهاد مجاهدة أهل الأوثان حتى يسلموا أو يدفعوا الجزية، وعلة الجهاد عند الشافعي هي الشرك، وليس العدوان على المسلمين فقط، لأنه يرمي إلى إظهار دين النبي على الأديان الأخرى.

بل إن القاضي أبو حنيفة أفتى بأن القتال متوجب على كل من أنكر النبوة، والجهاد فرض على كل مسلم أراد الجنة، ودعا إلى قتال أهل البغي، ومن بينهم مسلمون مثل أصحاب الجمل، والخوارج، وأهل الشام من أحزاب معاوية. وتجري، على هؤلاء في عرفه، الأحكام التي تجري على المشركين. ومن أنصار هذا الرأي «ابن تيمية» الذي جمع بين الدعوة إلى الجهاد، واتخاذ موقف من المنشقين عن الإسلام.

فإذا انتقلنا إلى رواد الإصلاح الديني، وجدنا عبد الرحمن الكواكبي، يعطي للجهاد معنى النضال من أجل الإصلاح، «يجب على حكماء الأمة من المجاهدين في الله أن يعتنوا بالوسائل اللينة لتثقيف عقول العلماء العاملين» أما جمال الدين الأفغاني فقد أكد أن الإسلام دين العقل والمناقشة. وأدان الحروب لأنها لا تنشأ إلا عن «إرادة ملك مسرف مغرور، أو عن تهويل أفراد يقبضون على زمام الأحكام» ورد الأفغاني على من يقول بان الإسلام انتشر بعامل القهر والسيف وسطوة الجيوش، بالقول إنه انتشر في مكة والمدينة «غزوات وسريات محدودة، في حين أنه انتشر في اليمن بدون قتال، بل بالدعوة، والإرشاد» الأمر الذي يؤكد أن عمل السيف لم يكن يذكر في جانب الدعوة بالحكمة والأخذ بالعدل المطلق، والمثال الحسن، والقدوة الصالحة. وبالمثل قال الإمام محمد عبده بأن مرجع العلوم الدنيوية هو العقل، ورأى أن أحد أصول الإسلام هو البعد عن التكفير، أما بالنسبة للجهاد فهو فرض كفاية على المسلمين، ولكن الجهاد الأكبر هو مجاهدة الإنسان لشهواته، كما أن من طبيعة الإسلام العفو والمسامحة، والقتال مشروع فيه لرد اعتداء المعتدين على الحق وأهله إلى أن يؤمن شرهم.

وفي الفصل المخصص للحديث عن دعاة «الإسلام الحركي» يعرض المؤلف آراء كل من حسن البنا وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب وعبد الله عزام. وفي رأي حسن البنا، وهو مؤسس حركة الإخوان المسلمين في الإسماعيلية عام 1928أن الإسلام قد جعل القتال في سبيل الله فريضة لا فرق بينها وبين الصلاة والصوم في شيء، ومن الواجب قتال كل من بلغته الدعوة ولم يسلم، والأمر المهم أنه شكك في صدقية الحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إذ قال: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قالوا وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد القلب أو جهاد النفس. والإسلام في رأي أبو الأعلى المودودي «فكرة انقلابية» و«منهاج انقلابي» يهدف إلى هدم نظام العالم بِأسره، كي يؤسس بنيانه من جديد، وانطلاقا من هذا يصبح الجهاد هو ذلك «الكفاح الانقلابي» أما المسلمون فهم الحزب الانقلابي العالمي، أو حزب الله، فالإسلام يريد أن يقضي على سائر النظم البالية الجائرة الجارية في العالم. أما سيد قطب فهو صاحب فكرة أن المجتمعات البشرية رجعت إلى الجاهلية، ووصمها بالكفر، وانتقد دعوة الإمام محمد عبده إلى إباحة تأويل النص القرآني ليوافق مفهوم العقل.

وفي الفصل المخصص للمصلحين الجدد من دعاة اللاعنف، يعرض لأفكار كل من الإمام محمد مهدي شمس الدين، والشيخ جودت سعيد، والشيخ خليل عبد الكريم، والدكتور محمد شحرور. يرى الإمام شمس الدين أن أدلة الوجوب في آيات الكتاب تدل على أن الطبيعة الراسخة الوحيدة لمهمة الرسول هي البلاغ، وعلى عدم معقولية الإكراه في الدين، وبالنسبة للعنف المسلح قال الشيخ شمس الدين بأنه إذا علم أن الدفاع بالعنف المسلح يؤدي إلى قتل وجرح الناس الذين لا علاقة لهم بالاعتداء على المسلمين، فإن الظاهر عدم مشروعية الدفاع بالعنف المسلح. ويعد الشيخ جودت سعيد من أبرز دعاة اللاعنف في الفكر الإسلامي المعاصر، وهو ينطلق في فكره مما أشار إليه القرآن في سورة المائدة «لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين». وفي رأيه أن على المسلم ألا ينشر رأيه بالقوة على الآخرين، وأن لا يتنازل في المقابل عن رأيه خوفا من القوة، بل عليه أن يتحمل الآلام من أجل مبدئه، لا أن يفرض مبدأه بالآلام على الآخرين.