الكل انخرط في غمار الحرب.. بعضهم الجلاد وبعضهم الضحية

كتاب لبناني يدعو إلى إحياء ذاكرة لبنان

TT

محت الحرب اللبنانية ذاكرة ما قبلها، دمّرها المقاتلون على اختلاف انتماءاتهم بإيعاز من زعماء الحرب كي تستقيم لهم الأمور، ويسيّرون أتباعهم وفق إرادتهم، وكيف شاءوا. مذاك بدأت الذاكرة اللبنانية بالتقاط موادها وتكديسها، من أفواه المدججين بالحقد والسلاح، من الحواجز الطيارة والثابتة، والسيارات المفخخة والعبوات الناسفة، من التهجير وصفاء المناطق الطائفية، من القصف العشوائي والخطف والقتل على الهوية. فالتصفية الجسدية لم تتجرأ أن تبدأ، وما كان لها لتنجح في تفريغ اللبنانيين من العلاقات والمصالح المشتركة، من الذكريات الجامعة، ووشائج التفاعل والتعدد والتنوع التي جعلت من الكل واحداً وكثيراً، وبدأت بالتقاط وكتابة التاريخ المشترك، والانتماء له وللجغرافية. ما كان للحرب أن تنطلق وتمتد لو لم تسبقها حرب تدمير ذاكرة ما قبل الحرب. تلك هي المسألة، وهذه هي المعضلة.

الزميل سمير شمس يفرغ ذاكرة الحرب في كتابه الجديد «حوليات يوسف»، دون قاعدة معتمدة، وسياق منهجي في الظاهر. فالنص يؤرخ للحرب اللبنانية باعتماد الحادثة المفردة التي تحمل في تفصيلها ليس الشيطان فحسب، بل عفاريت الخارج وممسوخات الداخل وما بينهما من الصلة لإغراء الحديد والنار ليكونا سبيلاً للحوار.

أصيب اللبنانيون بفقدان ذاكرة «الما قبل» بقصف «ثقافي» نشط قبل القصف المدفعي وترافق معه وبقي بعده. فأصبح الجميع لا يملكون سوى ذاكرة الحرب وتاريخها.

من يغيث لبنان من ذاكرته، ما هي الوسيلة لينقذ الإنسان نفسه من مخزونها المتبرم بمحتوياته وقد أثقلت وراحت بجرأة ووقاحة تكتب المستقبل؟. كيف يستطيع الموبوء بالصدق أن يتخلص منها ويتعرّى، ويكشف عوراته، ويبيح للقاصي والداني، والمتعصب والمنفتح، والجاهل والعالم أن يحدّق في تكوينه المغطّى بالقيم والتقاليد والعادات.

قد نفرغ الذاكرة حبراً ونلطخ التاريخ الذي أجمعنا على نسيانه فنثير الأحقاد والأعصاب وندمّر العلاقات والجغرافيا. ثمّ أليست هذه العلاقات مخادعة وكاذبة ومنافقة، وهذه الجغرافيا أكذوبة لم يبق منها للإنسان سوى ذكرها في النشيد الوطني؟.

الذاكرة تاريخ، وما تحتويه مادة تاريخية. لكنها انتقائية، ومتفجرة في آن. يطفو عليها ما هو مشحون ومتوتر، ويسقط منها ما يخضع للعقل والمنطق والتروي. ومعايشة الحدث شهادة حيّة، وتأثيراته في الذَّات تلوينات على الحبر والخبر يجلوها اللاحق من الأحداث ليصبح التاريخ تاريخاً للمستقبل.

يرى المؤلف للوهلة الأولى، على الرغم من تأكد الجميع وتأكيدهم للآخرين على عبثية الحرب، أن الكل انخرط في غمارها، بعضهم الجلاد وبعضهم الضحية، لكننا لو أمعنا النظر وأمعنا البصيرة ستكون المحصلة أن الكل ضحايا، وأن الحياد أكذوبة، فالمحايد منخرط في شكل ما في خلق بيئة صالحة وأرضية خصبة للقتال، وفي تلوين وتمهيد سبل الحرب وطرقها وتفرعاتها، وفي إغراء المتحاربين على مزيد من القتل والتدمير والتهجير. يؤجج نار الحرب باستكانته إلى هروبه أو سكوته أو صموده في جحره، يقتات من فضلة المحاربين وفضائلهم، فيعلنهم بلامبالاته أبطالاً يحررون الوطن مما تبقى له من الحرية والأمن. ويرفعهم بصموده فوق جسده وجسد مستقبله أسياداً. وبهروبه يترك لهم الوطن يعيثون فيه وبمصيره، فغيابه عن المشاركة مشاركة مضاعفة تزيد ثقل المسؤولية، وتحول دون وقف النزيف المتدفق شلالات دماء وطهارة ومواطنية وقيم.

تؤرخ هذه الحوليات للحرب بأحداث وقعت مثيلاتها في كل يوم على من بقي في الوطن مصموداً، أو هاجر مستأمناً. اختارها المؤلف ليؤكد عبثية الحرب، ليطرح أسبابها، ويكشف جذورها بسرد وقائع شخصية تنسحب على اللبنانيين جميعاً. فالحرب لم تقع حينما وقعت، بل قبل ذلك بزمن طويل، وبسنوات طويلة. الكل كان يؤسس لحرب طويلة، والذين ساهموا في تأجيلها، ساهموا من حيث لا يدرون أو يدرون بتطويل أمدها وتعنيف وسائلها. والشرارة الأولى التي اعتبرها المؤرخون القشّة التي قصمت ظهر البعير، لم تكن أولى بل كانت تحوُّلا في أدوات الصراع، وتبديلا في نوعية الأسلحة المستخدمة. ما آلت إليه الأوضاع، كان تكراراً للأوضاع التي لم يعد يقبلها التطور التاريخي، ولم تعد الجغرافية تتسع لها.

التسميات التي أطلقت على الحرب تعدّدت بتعدد وعديد الشعب اللبناني، وربما الشعب الفلسطيني، وبعض العرب. فهي مرّة «حرب الآخرين على أرضنا»، ومرّة «الحرب الأهلية»، وفي أحيان ووفقاً لمشيئة المقاتل «حرب تحرير لبنان من الغرباء»، و«حرب المحرومين» لاستعادة حقوقهم المهدورة. ووفقاً لغايات أخرى «حرب ارتدادات اتفاقات كمب ديفيد» و«حرب تداعيات هزيمة 1967» الماحقة التي سميت تخفيفاً النكسة. لم يتفق اللبنانيون على تسمية لهذه الحرب لأنَّهم لم يتفقوا على أسبابها وغاياتها. فظلّت قتالاً عبثياً مدمراً أطاح بالحجر والبشر، وأدخل لبنان والعرب في هزائم يومية ممتدة على امتداد سنوات الحرب وما بعدها وإلى ما شاء الله من زمن لم يبدُ في أفقه بادرة انفراج، ولا لاح بارق بأملٍ لوضع حد لمفاعيلها.

يرى المؤلف أن لبنان تكوّن من مجموعة ظروف والتباسات وإرادات أجنبية تقاطعت، ولم يكن للبنانيين إرادة في تشكيل هذا الوطن. أعلن جنرال فرنسي اسمه «غورو» قيام «دولة لبنان الكبير!» على خلفية اتفاقات سرية مع المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، فكان لبنان. وجنرالات آخرون في الوقت عينه أعلنوا بقية دول العالم العربي، ورسموا حدود كل دولة، وفصّلوا على قياس مصالحهم الحجم السكاني والجغرافي للأوطان الجديدة التي فرَّخت كالفطر نتيجة رعود وبروق ومدافع الحرب العالمية الأولى. ولمزيد من الاستعمار الذي أصبح تسميته «الانتداب» ترك بين حدود كل دولتين نزاعاً، وداخل كل دولة عوامل فتنة دائمة دينية أو قومية أو عرقية أو قبلية. مما أثمر حروباً بين الدول الوليدة، وانقسامات بين «الشعب الواحد» في الوطن الواحد، فاحتار العرب بين أمتهم ووطنيتهم، بين انتمائهم للعروبة أو الإسلام، وبين ولائهم لوطنيتهم الجديدة، فتكاملت أسباب التمزق والانتحار. وتفجرت في خاصرة العرب الرخوة التي قوتها في ضعفها، فانفجرت منذ اليوم الأول لإعلان دولة لبنان الكبير ولا تزال متفجرة.

أفرزت الحرب مفرداتها، ولم يكن لهذه المفردات أن تتفشّى وتعم ويتداولها الجميع لولا أن القاموس المعتمد سابقاً لم يحتوِ على كلمات رديفة تغطي بدلالاتها الحدث، وتضيء بمعانيها المستجد. فأبدع المقاتلون معجمهم الذي أصبح من متداولات اللغة اليومية بعد انتهاء الحرب، فهل نستطيع الجزم بأن الحرب قد انتهت ونحن نستخدم لغتها؟ فالقصف الكلامي، والتراشق الإعلامي، والحواجز بين اللبنانيين، والانسحاب من المعركة، واقتحام ميادين العلم أو غيره، وخطف الفكرة، وسحل العبرة، وتدشيم المواقع، وتدعيم المحاور، والتصفية والإلغاء، والتمركز والتموضع وإعادة الانتشار وغيرها قواسم لغوية مشتركة أصرّ اللبنانيون على تسميتها جوامع مشتركة لأن علامات الجمع في ما بينهم تعاني من نقص حاد لإعادة تكوين الوطن.

ويرى المؤلف أيضاً أن الحرب أفرزت سلوكها وعاداتها وتقاليدها وقيمها، فالطائفية والمذهبية طغتا وتجاوزتا الأحزاب العلمانية، واللاطائفيون والعلمانيون وحتى الملحدون يؤكدون بسلوكهم الخافت والجاهر على عمق الطائفية في النفوس، وعلى الغرائز المذهبية التي تنتشي بوصول زعيم من طائفة معينة لرئاسة أو قيادة حزب علماني. ليتعرف اللبناني على الآخر في سبيل تجارة أو علاقة أو مصلحة، يسأل عن طائفة الآخر مواربة في البداية، فدليله الاسم أو المنطقة التي ينتمي إليها الآخر، وإذا لم تبح له هذه بالمعلومة المطلوبة، ولا يستشف الانتماء الطائفي عرضاً، فلا يتحرّج من السؤال المباشر الذي يختتم عادة بأننا «كلنا أخوة أولاد آدم وحواء» وتفرط المصلحة المشتركة، فلا يعود المشترك قابلاً للاستثمار إذا اختلفت الطوائف.

لماذا يوسف؟ لأن يوسف يتحول وفق موقعه، فهو في مكان «جوزف» وفي آخر «زوزو» أو «أبو الزوز»، وهو ابن يعقوب البريء الذي قدّ قميصه من دبر، والذي تخلّى عنه إخوته، وقميصه الملطخ بالدم أعمى مصيره بين أشداق الذئاب وخزائن فرعون. يوسف يقرأ الحلم ويعلم أن السنوات العجاف ستتبعها سنوات سمان.

«حوليات يوسف» كتاب يؤرخ للنسيان، لمرحلة كانت الحرب فيها تدور بصمت، يحجبها عن الأنظار رماد الازدهار الاقتصادي، ويؤجل اندلاعها نشاط ثقافي متميز، ويفرغ شحناتها الحراك الاجتماعي، والحركات النقابية والحزبية المطلبية. كان السلم خلالها يتسلل بخفر، يؤسس لعلاقات اجتماعية واقتصادية وثقافية من نوع جديد، نخر في فروع الطائفية، وفتح في أسوار المناطقية منافذ وثغرات، وكتب التاريخ بأمل المستقبل. لكنه قبل أن يتمكن من الوصول إلى اقتلاع الجذور، وهدم الأسوار، وإلغاء التكاذب المشترك، وإسقاط الأقنعة، واكتساب المناعة اللازمة لإفشال المؤامرات، وسد الفجوات التي يتسلل عبرها أصحاب الغايات والمصالح والمآرب. قبل أن تتجذَّر الذاكرة الجديدة، وتكتب تاريخها، وترسم جغرافيتها، اجتاحها وباء الحرب، واجتاحت فلول المقاتلين ما تمّ إنجازه، فتساقط في أشداق تاريخ كاذب يحلّق ويرسم لكل فئة بأن الآخر هو العدو الذي يريد قتلك، وبأن الزعيم هو الأمل في الحؤول دون ذلك.

ساهم جميع المحاربين في محو الذاكرة، وإلغاء التاريخ. وسطَّرت الحرب على بياضها أحداثاً يحاول الجميع نسيانها، وفي كل مرّة، وعند كل مفترق يعمل زعماء الحرب على إنعاشها، فيستغيثون من الرمضاء بالنار.