مفارقات الحرب من خلال سيرة امرأة

«وداعاً بيروت» لمي غصوب في ترجمته العربية

TT

في مقدمتها لكتاب «وداعاً بيروت»، سلطت ماغي جي الضوء على جوانب عديدة من حياة وتجربة مي غصوب الثقافية والانسانية، حيث كان للراحلة حضورها الملحوظ في الحياة الثقافية البريطانية والأوروبية عموماً، وصدمة رحيلها المفاجئ.

وإذا كان التوصيف الشائع عن الكتاب الناجح هو أن يكون «نافعاً وممتعاً» فإن أهمية «وداعاً بيروت» يكتسب أهميته من أمرين آخرين هما الضرورة والمسؤولية: ضرورة المواضيع التي يثيرها الكتاب، ومسؤولية القارىء، أي طريقة استقباله لنصوص الكتاب بصفته مشاركاً لا مجرد متلقٍ. فالنصوص الخمسة عشر التي يحتويها الكتاب لا تنطوي على تعاليم أو نصائح بقدر ما تثير أسئلة متعددة من جوانب مختلفة، حول أخطر ظاهرة في حياة البشر، وهي العنف أو القسوة بأشكالها المختلفة، القسوة عندما تُسلط علينا فتجعلنا أمام خيارين أحلاهما مرّ، فإما أن نخضع لها فتجعلنا نعيش مكسورين ومهزومين أو نعيد إنتاج القسوة، فندخل في دوامة العنف وآثاره المدمِرة والتي يصعب الخروج منها بسهولة.

ربما كانت هذه هي الإشكالية التي حدت بمي غصوب ضمنياً أن تكيف أسلوب معالجاتها بحيث تحفز القارئ على المشاركة لا التلقي، ومن هنا تأتي مسؤوليته في المساهمة بتحديد مصير الأفكار المطروحة. فهي أسئلته هو أيضاً لأن العنف والقسوة التي واجهت المؤلفة وصدمتها خلال الحرب الأهلية اللبنانية وفصولها الرهيبة، حيث تركت القذائف آثارها على الجدران والذاكرة والنفوس، ليست، أي تلك الحرب، هي المصدر الوحيدة لإنتاج العنف القسوة، فالحياة الإنسانية، أي التجربة الشخصية لأي إنسان ظلت على الدوام تنطوي على حروب صغيرة أو كبيرة مرئية أو غير مرئية، تفرض نفسها عليه وتتلاعب بمشاعره ومصيره، ومن هنا تأتي أهمية المشاركة في مواجهة الأسئلة التي تطرحها تلك اللعنة التي اسمها القسوة.

ليس كتاب مي غصوب بحثاً أكاديمياً بالمعنى المتعارف عليه، لذلك فهو لا ينطوي على مراجع أو مصادر، فالمراجع والمصادر هنا هي ظواهر الحياة نفسها، والأفكار والأسئلة والإشكاليات نابعة من تلك الظواهر ذاتها، أي من التجارب التي واجهها بشر مُحدّدون خلال الحرب اللبنانية وكذلك في تجارب مشابهة في مناطق أخرى من العالم.

ولكي تكون قراءتنا أكثر وضوحاً، لا بد من تسليط الضوء على محطتين أساسيتين في تجربة مي غصوب الإنسانية تركتا تأثيراً واضحاً على توجهاتها الفكرية اللاحقة ووعيها الذي ظل يتعمق بمرور السنين. الأولى هي تجربتها مع معلمتها الأثيرة (السيدة نومي) حين كانت تلميذة في الثانية عشرة من عمرها، أي عندما يكون الإنسان أكثر حساسية إزاء مواقف الآخرين منه، خصوصاً أولئك الذين لهم مكانة خاصة عنده. ذات يوم طلبت السيدة نومي من تلاميذها كتابة موضوع إنشاء (صف في أربع صفحات حادثاً ترك أثراً بالغاً في حياتك) فاختارت مي مقلباً مُروِّعاً رتبه لها أصدقاؤها قبل شهور عندما ذهبت معهم في نزهة إلى غابة صغيرة. وكانت تعتقد أن الموضوع سينال رضا معلمتها (توقعت الحصول على علامة 16 أو 18 التي يندر الحصول عليها.. لكن عيني السيدة نومي ضؤل حجمهما، وأمسكت الورقة واتهمتني قائلة: حزت عشرة من عشرين، لكنك لا تستحقين هذه العلامة. وتابعت حديثها قائلة إنه لأمر مثير للاشمئزاز أن يحقد المرء على أصدقائه، واضاف أنه حتى لو كانوا من ذوي النية السيئة، فكان يجب ألا أحقد عليهم، وان أُحسن معاملتهم، وأضافت أن الرغبة بالانتقام هي أحقر المشاعر الانسانية، والوسيلة الأكثر جبناً في التعامل مع الآخرين..) ص35 هذه الكلمات ظلت تتردد في مشاعر مي الصغيرة وخيالها طوال حياتها اللاحقة كما يتضح من نصوص الكتاب.

المحطة الثانية هي مبادرتها خلال الحرب الأهلية 1975 مع أندره كساب (الذي سيشاركها لاحقاً في تأسيس مكتبة الساقي بلندن) حيث أسسا مستوصفاً للفقراء في منطقة النبعة التي عُزلت عن سائر أحياء بيروت نتيجة إندلاع الاشتباكات المسلحة. وذات مرة كانت مي تقلُّ جريحاً إلى مستشفى مجاور حين اجتازت خطّاً غير واضح المعالم، فسقطت قذيفة على سيارتها فقدت نتيجتها إحدى عينيها، ولزمها من ثم ثلاث سنوات كي تستعيد عافيتها فيما كانت تخضع للعلاج في مستشفيات بيروت ولندن. (ص8).

أن أحداثاً كهذه ستساهم حتماً في تشكيل شخصية الإنسان وتختبر سجيته، وستتدخل في طريقة تفكيره وطريقة استقباله لأفكار الآخرين وظواهر الحياة عموماً، سلباً أو إيجاباً. بالنسبة لمي غصوب التي أرادت لحياتها أن تكون بحثاً متواصلاً عن نجمة المحبة في سماء مدينتها، رافضة الكذب والخديعة، حيث يتضح كل ذلك من خلال مواقفها اللاحقة ومساهماتها الثقافية، فهي مع نخبة من المثقفين اللبنانيين اختارت منطقة أخرى، منطقة ليست خارج الصراع، بل خارج الأطراف المتحاربة وفي مواجهتها، وسيرى أي باحث لهذه الحقبة في الثقافة اللبنانية، أن هذه النخبة هي التي أنتجت أهم الظواهر المعرفية والإبداعية، ليدل ذلك ضمناً على إفلاس ثقافة الحرب الأهلية والأطراف المستفيدة منها والتي لم تُنتج سوى الهوس الغريزي والكلام الفارغ، رغم استمرارهم لحد الآن في السيطرة على الساحة اللبنانية، غارقين في نزاعاتهم العدمية دافعين بالبلد إلى حافة الهاوية!!

ومن هنا تحديداً تأتي أهمية النتاج الفكري والابداعي لهذه النخبة، الذي يكشف عن مأساة الإنسان والمجتمع في ظل الحرب الأهلية. «وداعاً بيروت» ينتمي إلى تلك الأعمال التي تحاول تفكيك وفضح مفردات ثقافة الحروب والتعصب وضيق الأفق المدمر في السياسة وفي سلوك البشر عموماً.

من ناحية ترتيب أو تسلسل نصوص الكتاب، ربما كان من الأفضل وضع «تحولات سعيد»، النص الثامن في بداية الكتاب، فهذا النص المهم يضعنا مع بداية التحولات الخطيرة التي حملتها الحرب الأهلية، إذ يصف لنا الحياة الهادئة للمواطنين قبيل اندلاع الحرب، وتفاصيل يومياتهم والمتع الصغيرة التي عمقت مشاعر الألفة والاحساس بجدوى تلك المبادرات الودية الصغيرة في تعميق الحياة الروحية للناس البسطاء، حيث كان سعيد الولد المحبوب ابن البقال يشكل بؤرة لتلك التجاذبات الودية بين محل أبيه وزبائنه وعوائل الحارة. لكن ما أن تندلع الحرب الأهلية حتى ينكمش الإيقاع الاجتماعي للمدينة ويبدأ بالتشظي، فتصبح حياة الناس عرضة لتلك الريح السموم التي لا يعرفون من أين هبت عليهم، وتحت إيقاع القذائف ولعلعة رصاص المسلحين وسياراتهم المسرعة، تنقلب حياة سعيد رأساً على عقب، فيتحول من بؤرة للألفة والمحبة إلى محارب من النوع الذي يساهم في إقلاق حياة عائلته وإشاعة الخوف والذعر في منطقته، فمنهم من يقرن اسمه بالقتل والخطف والتهريب ومنهم من يرى فيه بطلاً ومدافعاً شجاعاً عن جماعته. لكن هذه التباينات لن تجدي نفعاً، ففي غمرة هذه الدوامة الرهيبة تكون الغرائز العمياء المذعورة قد انتصرت على العقل وأحالت النسيج الاجتماعي إلى خراب وأنقاض، فانقلبت المفاهيم والمبادىء على رأسها. وسنجد مشاهد من هذه المأساة في (ضرب من الجنون) النص الأول في الكتاب، والذي كان ينبغي أن يأتي بعد (تحولات سعيد) بحكم تتابع الأحداث.

غالباً ما تفرض الحكاية أو الحدث شكلاً خاصاً للنص في هذا الكتاب، وإذا كانت أكثرية النصوص هي مواضيع فكرية تناقش أحداثاً واقعية، فإن (سلطة كيرستن) هو قصة قصيرة مذهلة من حيث الموضوع ونسيج النص، أما (ضرب من الجنون) فهو رواية مكثفة مفعمة بويلات ومفارقات الحرب من خلال سيرة امرأة. فبعد أن (انتُهِكَتْ قوانين الدولة، واختُرِقَتْ التقاليد والقيم الإنسانية، عندما ضُرب بجميع القيم الإنسانية عرض الحائط، عم البلاد ضرب من الجنون) كما قال ستيفان زويغ لتعيد الحكاية المظلمة نفسها في بيروت!

في (ضرب من الجنون) نحن مع رواية مختنقة بالأسى والاضطراب، امرأة لبنانية في باريس، هارب من الحرب، من دوي القذائف وكوابيس الذاكرة وجروحها، من تلك المفارقات والتحولات التي تفرضها الحرب الأهلية على البشر، حيث يجدون أنفسهم وقد تخلوا عن أعمالهم وأحلامهم وطموحاتهم، ليجدوا أنفسهم في أعمال أخرى اختاروها ظناً منهم بأنها الموقف الأصوب، أو فُرضت عليهم حيث تسقط خيارات الإنسان في دوي المعارك وانفجاراتها .

تعتمد ثيمة النص على تداعيات حرة متداخلة لامرأة تروي حكايتها بين مكانين وزمانين مختلفين. امرأة قادتها مفارقات الحرب للارتباط بأحد قادة الحرب لتنظيم يساري، فتدخل عوالم المخيمات المهملة عبر الخدمة في المركز الصحي، لترى معاناة البؤساء فتشمئز من طبقتها الوسطى وتعاليها وانانيتها حين تنظر إلى هؤلاء الفقراء بتعالٍ. لكن تطورات الحرب والتباساتها تجعلها تطّلع على تفاصيل ومفارقات في حياة هذا القائد لم تكن تخطر على بالها. لم يكن ذلك القائد يملك تبريراً لما يفعل سوى قلب المفاهيم والمبادىء على رأسها لتبرير ممارساته فيقول لها (الشعوب لا تتحرر بطرق شريفة ونبيلة)! فتكرّ الأيام وتدور بها دوائر الحرب والغرائز والتناقضات إلى أن تجد نفسها مشتتة المشاعر في باريس (.. وصلتْ إلى ساحة بلاس دو شاتوليه بعد اجتيازها جادة بولفار سان ميشال من دون أن تلحظ ذلك. وصلت إلى ساحة واسعة.. ازدحمت بالمارة .. وهذا ما أعاد الوعي إليها وأعادها إلى حاضرها. لماذا كانت تمشي مسرعة وكأنها ملاحقة؟ بيروت بعيدة كل البعد عن هذا المكان. امتلكت عدة خيارات، بإمكانها دخول مسرح تياترو دو لا فيل، أو العودة إلى الجسر، كذلك بإمكانها الإصغاء إلى تدفق مياه نهر السين، وهذا ما يساهم في تهدئة روعها. ما كان عليها أن تمشي مسرعة. كان بإمكانها عدم استرجاع ذكرياتها، وتعيين نقطة بداية جديدة لحياتها الشخصية) لكن الماضي لا ينفك يلاحقها (يقع بعض اللوم عليَّ، إذ أنني انجرفت وراء العواطف الجياشة، فقدت رشدي، خدعت نفسي حيث شاركت في ثورة اعتقدت أنها تساهم في القضاء على البؤس وفي تحقيق العدالة، لكنني استغللته لإثبات وجودي، ولاستمداد الطاقة نتيجة حلول شبح الموت على بيروت. حاولت اخفاء مشاعر الخوف باللجوء إلى دفء ذراعيه.

ذات أمسية لم أتمكن من الابتعاد عنه، فظللت أحثّه على العودة إلى الوراء فيما القذائف تتساقط بلا انقطاع، فيهتز مخبؤنا السري. حاولت أن لا أتساءل عن فحوى الحوادث الجارية، وعن تناقضها مع مثلنا العليا. ظللت أمشي ذهاباً وإياباً منجزة المهمات عوضاً عن أن أراوح مكاني أو أطرح أسئلة على نفسي، عجزت عن التفكير السليم، وطلبت منه أن يرميني في متاهات المجهول..) لتجد نفسها في إحدى مقاهي باريس تكتب له رسالة طويلة تحكي فيها كل ما لم تستطع قوله هناك (.. لا أريدك أن تتحول حقيقةً في خضم هذه الفوضى.

ان العلاقات الوثيقة القائمة بين المحاربين الذين انتميت إليهم، دفعتني إلى الابتعاد عنك تارة والاقتراب منك طوراً، ولم أطمئن إلا لدى معانقتي اياك. أحكمَ الكثير من الرجال القبض على مدينتي، وهذا ما أغضبني، لكنني أخفيت مشاعري بين ذراعيك.

حاولت القضاء على مخاوفي فاختبرت ضعفي تكراراً محاولة خوض المجازفات، وأصابتك الدهشة إذ اعتقدتَ أنني أتمتع بالجرأة.. ان غرامي بك ما هو إلى وجه من وجوه الحرب، ولم أتمكن قط من اطلاعك على هذا الأمر..)