مجلاّت وجامعات تعانق الفلسفة وفيلسوف شابّ يشغل الناس

الإقبال جماهيري على لغة العقل في فرنسا

TT

مجلة شعبية وليدة في فرنسا اختصاصها الفلسفة ولا شيء غير الفلسفة، انتخبت كأفضل مجلة جديدة. والجامعة التي أسست عام 2002 لتجعل الفلسفة في متناول الجميع هي أيضاً نحو التوسع وفي صدد افتتاح فرع آخر لها. أما الصحف والمجلات التقليدية المعروفة، فهذه باتت، ومنذ سنوات تمتلك الجرأة، كي تفرد لفلاسفة كبار من أمثال هيغل وأرسطو، صفحاتها وملفاتها لا بل وأغلفتها الأولى. صارت الفلسفة جزءاً من حياة الفرنسيين وطريقة تفكيرهم، لكن، لماذا بمقدور كل فرنسي ان يتحول إلى فيلسوف صغير، فيما تبدو الفلسفة في المنطقة العربية، وكأنها حكر على نخبة النخبة؟

هل من الممكن رؤية مجلات عربية سياسية أسبوعية، مثلا وهي تضع على غلافها صوراً متخيلة لفلاسفة مسلمين، باعتباره الحدث المركزي للمجلة؟ ربما لن يكون الجواب كما يجب. إذ إنّ كثيراً من البرامج التدريسية، في العديد من الدول العربية، تلغي الفلسفة أو تحاصرها، كما فعل المغرب مرة، من خلال محاصرته للفلسفة بخلق مادة الدراسات الإسلامية، وحرم الكثير من الجامعات من هذه المادة، التي ساهمت في تطوير علم الكلام ومنحتنا مفكرين (فلاسفة) عظاماً من الكندي وابن سينا والفارابي إلى ابن رشد وآخرين. اكتشف المغرب فشله، ولكن إحساساً بخسارة ما، لا يزال مريراً وحاضراً.

الدور المركزي للفلسفة هو تشجيع الفكر النقدي. وهذا الإحساس النقدي أصبح، الآن، سمة الإنسان المعاصر، في الغرب. أصبح المنطق سمة العصر، وأصبحت مصطلحات الفلسفة تتسرب إلى اللغة اليومية.

لكن عوامل كثيرة ساهمت في هذه المكانة التي تحظى بها الفلسفة، حيث إن الفلسفة أصبحت جزءاً من الحياة اليومية. ولا يزال الكثيرون يتذكرون الدروس التي كان يقدمها الفيلسوف الراحل جيل دولوز، في «جامعة فانسان» أو «باريس الثامنة» حالياً، والتي كانت تشبه الدروس التي يمنحها الفلاسفة الإغريق القدماء، من حيث أن كل موضوع يصبح موضوع فلسفة، وأيضا من خلال أحقية الجميع في أن يطرح أسئلته واندهاشاته، ولو كانت ساذجة. لم يكن دولوز وحده، كان ثمة في السوربون العريقة والأرستقراطية، فيلسوف آخر هو فلاديمير جانكلفيتش، لا يميز بين المواضيع التي يمكن أن تكون فلسفية وغيرها... وكان ثمة غيرهما...

بالطبع لن نسقط في التبسيط، إذْ ثمة عوامل كثيرة وحاسمة في وصول الفلسفة إلى هذا المستوى، من بينها فلسفة الأنوار والثورة الصناعية والعلمانية ومايو 1968، في فرنسا على الأقل، وغيرها من المسائل الحاسمة (من بينها دور الفلسفة الرشدية، ذات يوم). ولكن الشيء المهم هو ما يعْمَل اليوم كي تستمرّ هذه المادة متوهجة، خارج ردهات الجامعات ومراكز البحث.

من هنا يأتي الدور المركزي الذي تلعبه المجلات السياسية الأسبوعية في هذا الصدد، إذْ ليس من الغريب أن يكون موضوع العدد والغلاف، معاً، في مجلة من نوع «نوفيل أوبسرفاتور» أو «لوبوان» أو «ليكسبريس»، هو «هيغل» أو «أرسطو» أو «أفلاطون» أو ظواهر فلسفية وفكرية... وليس من الغريب استنتاج أن هذا الأمر ساهم في جماهيرية الفلسفة ورواجها.

ولأنّ جمهوراً واسعاً، يهتم بالفلسفة بدأ يظهر وينتشر، فقد ظهرت مجلة جديدة هدفها تقريب الفلسفة من القارئ العادي، بعيداً عن التعقيدات الأكاديمية أحياناً، التي ترهق هذا القارئ العادي، وتحمل اسم «فيلوزوفي ماغازين». وهي الآن في عددها السادس عشر، وتم اختيارها (أفضل مجلة جديدة) وفيها يمكن أن نقرأ مواضيع، كانت إلى فترة قريبة، لا تهم الفلسفة، أو لا تهمّ صرامة الفلسفة. نقرأ في أحد الأعداد مواضيع: (الملف: «أنا أشتغل إذاً أنا موجود»، «مصارعة الثيران، حوار بين فيلسوف ومصارع ثيران»، الموضوع المركزي: «الأبيقورية: السعادة في متناول اليد» وغيرها).

لم تكن هذه المجلة وحدها من استثمر انفتاح الفرنسيين على الفلسفة، وها هي جريدة «لوموند»، السياسية، تدخل بدورها غمار المغامرة، فتقرر، أن توزع، بالتنسيق مع دار النشر «فلاماريون»، كل أسبوعٍ كتاباً يخصّ فيلسوفاً ما، مع الصحيفة، بثمن زهيد. في الأسبوع الأول وزّعت، بالمجان، كتاباً عن أفلاطون، وفي العدد الجديد وزعت كتاباً عن أرسطو. والبقية تأتي...

مجلة «ماغازين ليترير»، هي الأخرى ـ وليست المرة الأولى ـ كرست عددها الأخير، شهر فبراير، للفيلسوف أرسطو، بمناسبة صدور ترجمة كاملة لأعماله، قامت بها دار «فلاماريون»، وتأتي بعد صدور الأعمال الكاملة لأفلاطون. تقول افتتاحية ماغازين ليترير: «ها هم الأقدمون يعودون، ويبعثون لنا بتحدّ، ويمنحوننا شروط نهضة جديدة...».

وكما لا يخفى، أيضا، فإن شروطاً أخرى، أكثر من أن تُعدّ، تساهم في رواج الفلسفة، ومن بينها صدور الكتب في طبعات رخيصة وطبعات الجيب، مما يجعلها في متناول الجميع، بالإضافة إلى الدور الهام الذي تلعبه المكتبات العمومية.

وإذْ نحن نستعرض تكسير الأسوار ما بين الفيلسوف والمفكر والطلبة والجمهور، لا يمكننا البتة أن نغفل دور مقاهي الفلسفة التي تنتشر في المدن الفرنسية، والتي يزداد الإقبال عليها، وتشهد التقاء شرائح مختلفة (عرقية ودينية وعمرية «أعمار متفاوتة» من المواطنين.

يبقى أن نشير إلى ظاهرة كبيرة تشغل الفرنسيين، وهي ظاهرة الفيلسوف «ميشيل أونفراي» Michel Onfray، الذي أسس الجامعة الشعبية المفتوحة في مدينة «كان» Caen سنة 2002.

نقول إنه ظاهرة، لأن مواقفه تختلف عن معظم أقرانه. فالجامعة الشعبية مفتوحة للجميع، وهو لا يحب العاصمة، باريس، وكتبه التي تطال كل مناحي الحياة وتنفتح على تراث البشرية أجمع بما فيها التراث الإنسانوي العربي الإسلامي، تباع في كل مكان وتعرف جماهيرية لا تُضَاهى، كما هي جماهيرية جامعته التي بدأت تنسخ في أماكن أخرى (ناربون مثلا). وأونفراي هو ظاهرة أيضاً، لأنه واعٍ بشعبيته، فلم يستغلها لأغراضه الشخصية، لم يتخلّ عن ميله للمقهورين، للذين لا سلطة لهم، ويكفي أن نقرأ البورتريه اللاذع الذي كرّسه للمرشّح ساركوزي، في مجلة «نوفيل أوبسرفاتور»، لنرى الفرق بين عزلة الحاكم ورحابة التفكير والتفلسف..

هذه بعض ملامح الفلسفة في فرنسا، بصفة سريعة وموجزة، فما حالها يا تُرى في عالمنا العربي العريض، ماذا يفعل حفدة الفارابي وابن رشد؟

ربما النكتة التي تُرْوى صحيحة! عن البدوي الذي يسأل أخيراً ابنه الطالب في الفلسفة أن يفسر له معنى الفلسفة، فيرد الابن ـ وكانا مع العائلة على مائدة طعام وأمامهم دجاجة تسيل اللعاب ـ «أستطيع أن أبرهن لك أنه لا توجد دجاجة واحدة، فقط، بل دجاجتان» يقرّب الأب الدجاجة منه، وهو يقول لابنه: «أنا وإخوتك سنأكل هذه الدجاجة، وأنت ما عليك سوى التهام الثانية». ربما هذه النكتة لا تفسّر الوضع الذي توجد عليه الفلسفة، اليوم، لكن من المؤكد أنه لو أجري استطلاع للرأي في العالم العربي، الآن، وطُلِب من الجمهور ذكر اسم فيلسوف أو فيلسوفين عربيين حاليين، لَطَال تفكير المُسْتَجْوَبين.