الفراغ التشريعي فى عالم الإنترنت.. حرية أم فوضى؟

المحكمة رفضت حجب مواقع لكنها أكدت أن الجريمة لا تزال تبحث عن عقاب

TT

مع ظهور شبكة الإنترنت، أصبح الفضاء الإلكتروني أكثر إثارة للخيال من قصص حرب النجوم وغزو الكواكب. تدريجيا بدأ هذا الفضاء الجديد يحل كبديل لمثيله الواقعي، وقدم عالما افتراضيا متكاملا، عاش فيه الملايين على مستوى العالم أحلامهم من خلال مجتمعات متكاملة، يصبح فيها الجبان شجاعاً والخجول جريئاً، ويمتلئ العاجز جنسياً بفحولة أسطورية. وفي أجواء كهذه كان طبيعيا أن يظهر قبل سنوات مصطلح الجريمة الإلكترونية، لكن يبدو أن جريمة الإنترنت لا تزال تبحث عن عقاب!

قبل أسابيع، شهدت القاهرة صدور حكم اعتبره البعض تاريخياً، لأنه انتصر لحرية التعبير. فقد رفضت محكمة القضاء الإداري دعوى رفعها قاض ضد عدد من الهيئات والوزارات، يطلب فيها إلزامها بالتدخل لحجب 49 موقعاً ومدونة. وفي حيثياتها أشارت المحكمة إلى أن الدستور المصري يكفل حرية التعبير: «كما أن الدستور بعد أن أرسى القاعدة العامة التي تقوم عليها حرية التعبير حرص على إتمامها بإحدى الحريات المتولدة عنها كإحدى صورها الأكثر أهمية والأكثر أثراً، في المجتمع وهي حرية الصحافة.. ومن حيث أنه من المقرر أن الحريات والحقوق العامة التي كفلها الدستور ليست حريات وحقوقاً مطلقة وإنما يجوز تنظيمها تشريعياً بما لا ينال من محتواها إلا بالقدر وفي الحدود التي ينص عليها. ومن ثم فان هذه القيود والتي يفرضها المشرع على تلك الحرية تمثل استثناء من الأصل الدستوري المقرر بكفالة وضمان حرية التعبير، وبالتالي يجب أن تكون في أضيق الحدود وللضرورة القصوى». اعتمد الحكم على الصحافة كمثال وعندما انتقل إلى المواقع الالكترونية أشار في حيثياته إلى وجود فراغ تشريعي ما، يتمثل في ان: «التشريعات المصرية لم تحدد المجالات التي تستدعي حجب المواقع الالكترونية. غير ان هذا الفراغ التشريعي لا يخل بحق الأجهزة الحكومية من إلزام مزودي الخدمة بالحجب..». وإزاء هذا الفراغ التشريعي رأت المحكمة أن تنحاز إلى جانب الحرية. هل معنى الحكم السابق أن تختفي قضايا السب والقذف مثلا ضد ما هو منشور على الانترنت لعدم وجود تشريعات؟ سؤال أجابت عليه المحكمة في حيثيات حكمها حينما أكدت: «تأخذ المحكمة في الاعتبار، بخصوص الحالة الماثلة، أن المخالفات التي يأخذها المدعي على بعض المواقع بأنها تسببت في التعرض له بالإهانة، فإن ذلك يسوغ له ملاحقة مرتكبيها جنائياً ومدنياً، إلا أنها لا تبرر حجب هذه المواقع بالكامل لما تحتويه المواقع من آلاف المعلومات الأخرى التي يستفيد منها كل من يسعى إلى المعرفة وبالتالي يطولهم عقاب الجهة الإدارية في حالة حجبها الموقع».

يفسر صابر عمار، الأمين العام المساعد لاتحاد المحامين العرب العبارات السابقة بقوله: «رفضت المحكمة دعوى الحجب، لكنها حفظت لصاحبها حقه في الدفاع عن نفسه تجاه ما يرى أنه تعرض له من إهانة، فأكدت أنه يحق له ملاحقة من أخطأ في حقه عبر المحاكم المدنية والجنائية، أي أن المحكمة تعاملت مع الموضوع على أنه جريمة سب وقذف عادية يمكن أن تحدث بأي وسيلة نشر أخرى، لها عقوبات منصوص عليها قانونا في حال ثبوتها. وبهذا تنطبق العقوبات ذاتها على مرتكبها على النت دون الحاجة إلى اللجوء لإلغاء المواقع أو حجبها». وفقا لهذا المنطق يرى عمار أنه لا يوجد قصور تشريعي، ويوضح: «أعتقد أن المشرع لم يلجأ إلى تنظيم هذه الأمور، عن قصد، لأنه اختار الانحياز لحرية التعبير، كما أن لكل جريمة ترتكب عقوبتها في القوانين القائمة، بدءا من السب والقذف، ومروراً بجرائم أخرى عديدة، يتحول فيها الإنترنت إلى مجرد وسيلة. فيمكن لشخص ما أن يحتال على بنك بورقة مزورة ويقوم آخر بالاحتيال عبر الانترنت، الاثنان قاما بنفس الفعل لكن كل منهما اختار وسيلة مختلفة، لهذا فإن القانون الذي يعاقبهما واحد. إذا طبقنا هذا على جرائم أخرى سنجد أن لغالبيتها عقوبات منصوص عليها في القوانين المدنية والجنائية. وقد خصص عدد من الأساتذة جانبا من مؤلفاتهم لبحث هذا الموضوع، وبالتالي يعتبر استحداث قوانين خاصة بالإنترنت أمراً يستهدف حرية التعبير بالأساس من وجهة نظري. لهذا أكرر أننا أمام حالة فراغ تشريعي قصدها المشرع».

لكن القوانين التي نتعامل بها صدرت قبل ظهور الإنترنت، وبالتالي ربما يكون الحديث عن تعمد المشرع مبالغاً فيه، تعقيب يعلق عليه صابر عمار قائلا: «هناك قوانين خاصة بالمعاملات المالية الإلكترونية. وهي قوانين حديثة بالطبع، وكان يمكن للمشرع في هذه الحالة أن يتناول أي جوانب يريدها، لكنه اختار ألا يفعل انحيازاً إلى حرية التعبير». (ملحوظة: الدائرة التي نظرت دعوى الحجب السابق الإشارة لها هي دائرة المنازعات الاقتصادية والاستثمار).

في دعواه أكد المستشار عبد الفتاح مراد، أن جرائم السب والقذف التي ارتكبت في حقه عبر شبكة الإنترنت، كانت تهدف لمنعه من المناداة بوضع قانون يحكم المدونات. لكن القضية متشعبة إلى جوانب اكثر من ذلك، ننقل من وثائق المحكمة اقتباساً يضيء بعض زواياها، ورد في أوراق الدعوى ما يلي: «قال المدعي شرحا لدعواه: إنه تقدم بشكاوى للمدعي عليهم (عدد من الوزراء والمسؤولين بالحكومة المصرية) بتواريخ 20، 25، 27، فبراير 2007، كما أرسل أكثر من بريد إلكتروني على البريد الخاص بوزير الاتصالات طالباً اتخاذ اللازم نحو حجب المواقع الالكترونية الإرهابية (وأشار المدعي إلى عدد واحد وعشرين موقعاً لكنها ارتفعت بعد ذلك إلى 49) لأنها تتضمن تقارير تسيء إلى سمعة جمهورية مصر العربية وإهانة رئيس الجمهورية والتطاول على بعض الدول العربية وكذلك التطاول على شخص المدعي، لأنه تناول تلك التقارير في كتابه (الأصول العلمية والقانونية للمدونات على شبكة الإنترنت) متعمدا حذف ما تضمنته من عبارات تسيء إلى سمعة الدولة. وأشار المدعي من خلال الاستعانة ببعض الفقرات المنشورة في هذه المواقع ـ إلى أنها ارتكبت جرائم جنائية ضد الدولة ومنها ما تناولته ضد الشرطة وضد رئيس الجمهورية والتشكيك في حياد النيابة العامة في قضية كريم عامر... وأضاف المدعي أنه بعد ظهور كتابه (الأصول العلمية والقانونية للمدونات على شبكة الإنترنت) وحذف ما تضمنته التقارير الواردة بتلك المواقع من عبارات تسيء إلى الدولة، أعلنت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان عبر موقعها والمواقع التابعة لها حملة شرسة عليه، ولم تكتف الشبكة بنشر بيان يخالف الحقيقة، يتضمن اتهامه بالتعدي على تقرير لها رغم أن هذا التقرير مجرد أخبار لا تشملها حماية حق المؤلف، بل قامت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان بتحريض الغير من المواقع التابعة لها على نشر هذا البيان عن طريق روابط إلكترونية وتم وضعه على العديد من المدونات. وترتب على ذلك إعطاء الفرصة لمجهولين، بارتكاب جرائم سب وقذف في حقه وطعناً في صفته القضائية ونزاهته الشخصية».

أشارت المحكمة إلى الفراغ التشريعي، كما أشار إليه المستشار مراد، مؤكدا أن دعوته لسد هذا الفراغ، هي التي دعت مدونات عديدة للتهجم عليه، بينما أكد صابر عمار أنه فراغ متعمد يدعم حرية التعبير في النهاية، ولم ينكره جمال عيد مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الانسان التي ورد ذكرها في الدعوى. ويرى عيد أن الأمر يحتاج إلى وقفة حقيقية: «لا توجد قوانين تحمي المستخدمين، وإن كانت هناك قوانين متعلقة بالتداول التجاري على الانترنت». لكن الأمر ليس بهذه السهولة، يطرح عيد مثالا دالا: «دائما نتساءل لو أن مواطنا في ليبيا أخذ رابطاً من فرنسا ونشر عليه من السعودية مواد قرئت في مصر، فمن الذي سيحاكمه في حالة حدوث خطأ؟». يضيف عيد: «لهذا نرى ان الأمر بالغ التعقيد، ونحن نحاول التنسيق مع منظمات أخرى لنضع معايير أكثر إفادة في هذا الشأن. كأن تتم محاكمة المواد المنشورة في بلد إطلاق هذه المادة، كما أننا نرى أن جرائم السب والقذف تحتاج إلى جهود مضنية لإثبات حدوثها. فما الذي يضمن أن يكون اسم من كتب مادة ما، هو بالفعل لكاتبها؟ في الإنترنت يمكن ان تكتب ما تشاء، وتضع عليه اسم شخص آخر مثلا، إذا أردت أن تكيد له. هناك مشكلة اخرى: إذا كتب أحدهم في مدونة ما رأياً، وعقب عليه آخر بتعليق أساء للبعض، من الذي يحاسب في هذه الحالة؟ صاحب المدونة أم الذي قام بكتابة التعليق؟ هناك أمور عديدة نناقشها الآن سعيا لحماية حقوق المستخدمين وأيضا دعم حقنا في التعبير».