الـ «هيب بوب» التركي مارد لا يريد العودة إلى فانوسه

يتحصن في قلب اسطنبول وعاصمته «كاديكوي»

TT

رغم انطلاقها العالمي المبكر في مطلع السبعينات، فإن الأتراك لم يفتحوا أبوابهم أمام ظاهرة الـ«هيب بوب» إلا في السنوات الثلاث الأخيرة، حيث كانت اهتماماتهم وانشغالاتهم وهمومهم متوجهة نحو مكان آخر، ونقصد الداخل السياسي الدائم التأزم، بسبب ميول آلاف الشبان الفكرية وانقساماتهم على الارض بين جماعات اليسار الماركسي واليمين القومي المتشدد، وفئة ثالثة محسوبة على الجماعات والطرق الاسلامية الصوفية. أما اليوم فالهيب بوب في تركيا، بات ظاهرة أخطبوطية الانتشار، ومع ذلك فثمة من يريد أن يعتبرها عابرة، ليستريح. تركيا والهيب بوب، مسألة تستحق البحث!

مركز تجمع عشاق «الهيب بوب» وقاعدتهم الرئيسية هي في قلب حي «كاديكوي» الواقع على الساحل الآسيوي لاسطنبول حيث تهيمن عشرات محلات بيع الألبسة والأدوات الموسيقية، وشرائط التسجيل والمقاهي، ونقاط التقاء أنصار هذه الفورة. كنزات وبلوزات بمقياس «إكس إكس لارج» بأكمام طويلة وأكتاف متدلية لمراهقين ومراهقات في مقتبل العمر، ضعاف البنية، تزينها رسوم وكتابات مثيرة واستفزازية. نجد أيضاً، سراويل الخصر الهابط، أحذية خفيفة من النوع الرياضي الدارج باللون الابيض، قبعات البيسبول المعدلة في رفرافها الأمامي. وكل ذلك بهدف واحد، هو ارتداء ألبسة كل مكان وزمان.

المسألة تتحول شيئاً فشيئاً إلى أكثر من نزوة او موجة وتعبر، فالمواهب متمسكة بتوسيع رقعة انتشارها ونفوذها بين شباب، جاءوا يتقاسمون الأزقة وتقاطع الطرقات، لعرض بضاعتهم وإظهار قدراتهم وآخر الصرعات التي وصلوا إليها، يدعمها ويقاسمها غاياتها هذه، عشرات الشركات والمؤسسات العاملة في القطاع الفني والادبي والموسيقي ومجال اللبس، تضع يدها بيدهم متواعدين على المضي في خدمة القضية حتى النهاية.

مئات آلاف الدولارات، تصول وتجول داخل القطاع وبين أربابه. أرباح كبيرة وأرقام خيالية، يجري الحديث عنها، والمنافسة مستمرة في أرض الله الواسعة، إذ يكفي أن تكتشف أنك صاحب موهبة، وعندك بعض الخلفيات المطلوبة، وستجد حتماً من يأخذ بيدك، ويقودك بين الشوارع والازقة إلى غايتك.

قطاع ثقافي فني تعبيري تجاري جديد، يولد في تركيا، أطلقته وفرضته هذه المجموعات الشبابية المتمسكة بالدفاع عن قضيتها، من باب الحريات وحق التعبير والقول.

موجة وحدت الجيل الصاعد التركي في المدن الكبرى، حول قواسم وقواعد حوار ولغة جديدة، مركز الثقل فيها هو «الراب»، «الديجيه»، «البريك دانس» و«الغرافيتي». مدن الاناضول التركي، تقاوم ببسالة في وجه هذه الظاهرة، فلا وقت ولا طاقة لها لدخول هذا العالم، خصوصاً ان بعض الجماعات والطرق الدينية الفاعلة في تركيا، لا تتساهل في انتشار مثل هذه الظواهر، بين صفوف فتيانها، حتى ولو كان «البوب الاخضر» هو بيت القصيد.

شباب متمرد بين طالب وعامل وعاطل عن العمل، مستعدون لمنافسة كبار نجوم هذا الحقل العالميين، وهم يقتربون بسرعة جنونية من الذروة التي توحد الاجيال والثقافات والميول والاتجاهات في العالم.

رموز هذا الحقل في اسطنبول يقولون «إن من بين المعجبين فتيانا وفتيات متدينين ومحجبات أيضاً، قد لا يعرفون في العمق حقيقة فلسفتنا، وما ندافع عنه، لكنهم معجبون بما نقول، وبطريقة تصرفنا، وهم يشعرون أننا نترجم ما يراودهم ويجول بداخلهم».

الانطلاقة كانت مع يونس طالب قسم الدراسات الإيرانية الذي اختار لقب «ساغورا كاجمر»، وبدأ الكتابة والتأليف وتوزيع الألبومات واحداً بعد الآخر. حماس فرقة «كارتل» حملها أيضاً إلى الذروة في هذا المجال، وهي تنافس فرقة أخرى تحمل اسم «جزا». وهكذا تكر السبحة مع «الاتوركا موزر»، «ميهانك تاشي»، «مرديفان»، «غوركام»، «برك التن» و«دو بوات»، طليعة الأسماء التي تعصف في «كاديكوي»، حيث تتصدر صورهم واجهات المتاجر و«الكوفيه شوب». البومات متلاحقة وأماكن التقاء جديدة، يتزايد عددها والسباق في احتدام دائم نحو ألحانٍ وموسيقى وشعر واكتشافات وصرعات جديدة. ولا أحد في تركيا يريد ان يبدأ بدراسة جدية لهذه الظاهرة والبحث في أسباب انتشارها الواسع، على هذا النحو، وانعكاساتها الاجتماعية والثقافية وموقعها الجديد، في تركيبة المجتمع التركي حيث تتواصل حملات التعاون وتتوسع مجالات الانفتاح على رواد الظاهرة العالميين، الذين يتسابقون نحو اسطنبول لتوقيع العقود والاتفاقيات، الهادفة لإقامة حفلات وعروض ومهرجانات ومشاريع مشتركة.

نعم لنهاية الازدواجية في المعاملة، لا للاعدالة والتشرذم والتجاهل والإنكار والعزل. اهلاً بـ«تربو» و«ماهو» و«بلدوزر»، نجوم الراب، أينما حلّوا، وبالإذن من نجوم الطرب الأتراك، والمغنين الشعبيين المعروفين، الذين يراقبون بدهشة وحيرة، ما يحدث.

متطلبات جديدة بأسلوب مختلف، وطريقة تعبير تتماشى مع تقلبات عصر المراهقين، وآخر صرعاتهم يفرضونها علينا، كنمط عيش جديد، وفرصتنا الوحيدة هي مواجهتهم، بالتجديد أيضاً، دون التخلي عن قناعاتنا والتزاماتنا حول ضرورات الترابط الأسري، والتمسك بالهوية والانتماء والتراث.

أنصار «الهيب بوب» التركي، يقولون إن ماردهم غادر الفانوس، وان من حاول عزلهم واستبعادهم وهمّش دورهم، هو الذي سيدفع الثمن. قوافل تضم شباناً من مختلف الفئات والأعمار، ولكل اسبابه وطموحه ونظرته وفلسفته طبعاً.

«الشوارعيزم»، أي «الشوارعية» بحلتها الجديدة هي «الهيب بوب» في تركيا، أنصارها ومريدوها في ازدياد، قبلوا ما أخذوه عن الغرب، وحولوه الى صناعة محلية وطنية، تتلاءم ومنافذ تعبيرهم ومتطلباتهم واحتياجاتهم، بأسلوب وطراز جديدين.

اسطنبول التي تعرفت قبل سنوات إلى مجموعات من «أنصار الشيطان» وموسيقى «الميتال» التي تركت انطباعات سلبية في صفوف أبناء «الراب» و«الهيب بوب»، تشتكي هذه المرة عبر روادها الجدد من التقليد والمنافسة الرخيصة والإساءة الى هذه الظاهرة التي قاومتها الأسر بشدة في البداية، لكنها باتت تستسلم شيئاً فشيئاً، وتقبل مرغمة ما يجري.

«الهيب بوب» التركي، يتحصن اليوم في قلب اسطنبول وعاصمته هي «كاديكوي». هناك من ينتظره بفارغ الصبر في مدن الأناضول البعيدة، فهل سيسمح له بتوسيع رقعة نفوذه وانتشاره، ضمن منطق العولمة الاقتصادية الثقافية التي يتعامل العدالة والتنمية، بليونة معها، وتغادر جدران «كاديكوي» أم انها ستظل محصورة في اسطنبول التي استقبلت عبر العصور والازمنة، بحكم موقعها وتركيبتها وامتداداتها، ظواهر وبدعاً اجتماعية فلسفية سياسية فكرية كثيرة، سقطت وفقدت جاذبيتها مع مرور الزمن؟