كيف أصبح زوجة كاتب؟

على زوجة المبدع أن تبقيه منشغلا بالكتابة كي لا يستيقظ ويقول: «الآن أريد أن أعيش»

كيف تعيش مع كاتب تحرير: ديل سالواك
TT

كثرت الرسائل حول مسألة كيف تصبح كاتبا، ومن الرسائل الثمينة المحفوظة في الأرشيف رسائل ريلكه الى شاب يريد أن يصبح كاتبا. وأيضاً خصصت بعض الجامعات برامج لتدريس الكتابة الابداعية على يد أساتذة مختصين، كما طُرحت في الأسواق كتب لا تحصى لتحسين الملكات الابداعية في جميع حقول الأدب، ولكن قلّما قرأنا عن الحياة الداخلية والشخصية لهؤلاء الذين يمتهنون الكتابة. ولعل الشريك هو الشخص الأقرب والأمثل للتعرف على ملابسات حياة هذه الكائنات بكل ما فيها من متاعب، وأفراح وأسرار.

يعرض هذا الكتاب الصادر بالانجليزية، بتحرير ديل سالواك، 28 مقالة شخصية في 236 صفحة مكتوبة بأقلام شعراء وكتاب، نساء ورجال، يتحدثون فيها عن ازواجهم وتجربة العيش مع كاتب أو كاتبة بعضهم حائز على نوبل. الجزء الأول من الكتاب يحمل عنوان «المسرات» ويعرض تجربة ناجحة لأزواج أحدهما كاتب أو كاتبة أو كليهما، بينما الجزء الآخر فهو بعنوان «المشاكل» ويعرض نماذج مختلفة من المعاناة والخيبة التي واجهها الأزواج.

كيف أصبح زوجة كاتب؟ إنه سؤال طازج ويستحق البحث ويتم تناوله في في أولى مقالات هذا الكتاب «كيف تعيش مع كاتب». سؤال تطرحه امرأة مقدمة على الزواج من كاتب، وتسأل النصيحة من كاتب مخضرم في الحياة الزوجية والإبداعية، فيأتي الرد في رسالة مطولة الى السيدة ( س) بلغة فكاهية وواقعية.

في مقالة الكاتب الانجليزي «مالكولم برادبيري» الناقد والروائي والأستاذ الجامعي الغزير الانتاج، الذي كانت زوجته معيناً لفرحه وسنداً كبيراً له في جميع مراحل حياته( 1932-2000)، يكتب جوابه في رسالة مطولة إلى امرأة بعثت إلى بريده سؤالاً «كيف اصبح زوجة كاتب؟».

يقول برادبيري: واقعياً، لست موجوداً في البيت. منذ أن أستيقظ أجلس إلى الطابعة وأعيش في عالمي التخيلي، وأغلب ما أعرفه عن الواقع يأتيني عبر الصحف القديمة والكتب التي أبحث فيها. الأكل يأتي إليّ عن طريق زوجتي التي تقوم بابلاغي بالأخبار المهمة في الحي. التليفون يجعلني أقفز، وأيضاً ذلك العالم المتعلق بالمحاسبة والضرائب. أنا محظوظ بأنني أعيش مع «زوجة كاتب من الدرجة الأولى» تبحث لي عن الحقيقة بينما أنا غائب عن العالم. الزوجة تهتم بكل ما يلزم من اتصالات مع الناشر والميديا وتهتم بالمخطوطات وتقوم بارسالها للجهة المعنية. وتعهدت على نفسها ألا تقرأ سطراً واحدا من كتبي، كي توفر على نفسها مشقة الغيرة وكي لا تسمح للشك بالدخول في قلبها، وهذا لم يتأت لكثير من شعراء كبار، انتهت علاقاتهم الى الجحيم لهذا السبب».

ويقول برادبيري: إن على زوجة الكاتب الممتازة، أن تبقيه في إطار الكتابة، إذ إن المشكلة تقع، حين يجد الكاتب نفسه فجأة في حالة «بلوك» أو جفاف، وهنا يبدأ بالتفكير في اشياء كثيرة كأن يخترع سفرة إلى الامازون أو مصر أو أي بلد آخر بحجة أن يجمع مادة جديدة، أو يبدأ الحياة. فقد تساوره الرغبة في إقامة علاقات غرامية بحجة أنه يريد أن «يعيش الحياة». ويقول: تذكري بأن الشخص كي يكون كاتبا، لا بد لديه الكثير من النرجسية، الغرور، حب النفس، البارانويا، الغيرة.. ولذلك على زوجة الكاتب أن تكون مستعدة للتعامل مع هذه الحالات، وأن تعرف أن كل الكتاب يشعرون بالاحباط، الناجحين منهم وغير الناجحين. يشعرون أن لجنة التحكيم لجائزة نوبل لم تنصفهم، وأنهم في وحدة والعالم كله أدار لهم ظهره، وحتى الزوجة. هذا بالاضافة إلى عدم استقرارهم المادي. الرسالة طويلة يختمها بالقول: «ولكن تذكري أيضاً أن أرملة الكاتب في النهاية هي التي تحظى بامتلاك كل رسائله ومخطوطاته وتعرف عاداته اليومية ولها أن ترث حقوقه وتكتب عنه السيرة الذاتية».

أما الكاتبة نادين غورديمير الحائزة على نوبل وجوائز عديدة ولديها أكثر من 13 رواية وعدد من المجموعات القصصية وكتابات متفرقة، فتتحدث عن «كيف يتأقلم الكاتب مع ذاته أولا؟». وتقول إن سؤال العيش مع كاتب كان يجب أن يوجه إلى زوجها الذي عاشت معه أكثر من 48 عاما، وإنها ككاتبة وامرأة كان عليها أن تتعامل مع مسألة متطلبات الأسرة والأولاد إلى جانب كتابتها، وأنها كانت تضع برنامجا حازما لمراقبة نفسها والالتزام بأوقات الكتابة والعزلة. وتشير إلى انها أعطت تحذيرا صارماً للجميع في بيتها بعدم مقاطعتها أثناء ساعات العمل مهما كان الأمر خطيرا «لا تجوز مقاطعتي إلا إذا احترق المنزل» ، كما تشير إلى مسألة السرية الشخصية التي تحتاجها في مرحلة اعداد المخطوط، وتقول ان زوجها لا يقرأ كلمة من مسوداتها لحين صدور الطبعة الأولى. وتتعجب كيف كان الكاتب توماس مان يجتمع بأسرته كل مساء ويقرأ عليهم مسوداته، إذ ترى الكاتب وحده هو من يعرف ماذا يريد وكيف يصل إليه. كما تجد أنها شديدة السرية والغموض بالنسبة لأطفالها ايضا، إذ انها كانت تكتب في ساعات وجودهم في المدرسة، واستمرت على ذلك حتى في أيام العطل. وتذكر أنها لا تسمح بأي ضجيج «يخرب عليها خلوتها». مرة كان ابنها الصغير يلعب مع زميله خلف النافذة فسأله الطفل الآخر: «ماذا تشتغل أمك؟» فأجاب الولد: «أمي تشتغل في الطباعة». وتشير إلى مسألة حب الذات والانانية لدى كل كاتب. وهذه حقيقة تقر بها، إذ ان كتابتها لها الأولوية في حياتها، وتأتي قبل أي واجب آخر.

تتحدث الكاتبة أماندا كريج أيضاً عن مسألة التقلبات النفسية التي تعتري الكاتب وتجدها مسألة مهولة أن يقرر شخص العيش مع كاتب(ة). ففي حالتها ترى أن الزوج الذي ليس كاتبا، يجب أن يبقى على مسافة من المجتمع الأدبي وليس بالضرورة أن يكون حاضراً في كل مناسبة وتجمع. كريج تشفق على بعض أزواج وزوجات الكتاب الذين يحضرون مناسبات توزيع الجوائز أو صدور كتاب وقلما يجدون لأنفسهم مكانا بين الحضور. ولكن تشدد على ضرورة عدم الإجحاف بحق الشريك وعزله كلياً عن هذه الدائرة التي تكثر فيها الشائعات والفضائح والغيرة وقنص الشريك الآخر. تقول: « لماذا على الشريك أن يبقى دائما خارجا ولا يعرف شيئاً عن زملائنا وأصدقائنا، فيما يترتب عليه أن يقبل تقلبات مزاجنا وإحباطنا، ومشاكلنا المادية؟» وتتحدث عن زوجها الذي يحب القراءة، وكي يكون قادراً على التواصل مع مجتمعها الأدبي، يبدأ بالتعرف عليهم من خلال قراءة رواية لأحدهم. وتشير إلى حقيقة أن الزوج يتوقع حين يأتي الى البيت بعد نهار عمل طويل أن يجد زوجته سعيدة وقد أعدت وجبة طعام لذيذة، وربما يحدث العكس ويجدها مكفهرة تبكي وأمامها البطاطا دون تقشير، لأن الكتاب الذي تشتغل في كتابته أرهقها ولا تعرف كيف تتصرف بشخوصه.

يتحدث بعض الكتاب هنا عن ايجابية العيش مع والدين أو جدين كاتبين، وأثر ذلك في التحفيز على الكتابة والقراءة. تقول إحدى الكاتبات: « لقد شجعني والدي على الكتابة باعتبارها مهنة يمكن العيش منها. شعرت بفرح كبير بعد أن تسلمت الشيك الأول لقاء كتابة قصة وأنا شابة صغيرة. ثم تزوجت لاحقا من كاتب معروف وكان يعمل كل ما بوسعه لتوفير الوقت لي كي أنجز مادتي». كان الزوج أحياناً يقوم بأعمال البيت والطبخ والتسوق والاهتمام بالأولاد حين تكون الزوجة في خضم عملها ككاتبة سيرة.

ونجد في قسم المشاكل والمتاعب بخصوص العيش مع كاتب، نماذج كثيرة انتهت علاقاتهم العاطفية والاسرية بالانفصال. وهنا تكون المسببات إما مادية لا يمكن التلاؤم معها، أو تكون أنانية الكاتب متعاظمة بحيث لا يعود يرى الشريكة سوى سكرتيرة تكمل ما ينقصه وترعى شؤونه اليومية. تتحدث الكاتبة « بيتي فوسيل» عن تجربة انفصالها عن زوجها الكاتب الذي تعرفت اليه حين كانت مبتدئة في الكتابة، وكان ذلك في الخمسينات حين كان كل شغل المرأة واهتمامها أن ترعى نجاح زوجها وبيتها وأسرتها. بعد سنوات من قيامها بهذا الواجب وجدت نفسها أنها سيدة المطبخ وأصبحت فنانة في تحضير المأكولات، ولكن هذا لم يملأ روحها بالفرح ولم يشعرها بقيمتها الذاتية، فبدأت تكتب ولكن زوجها لم يكن يتقبل ويفهم ضرورة أن تصبح زوجته كاتبة. حتى يأتي يوم حاسم، تدخل الزوجة غرفتها وتضع اشارة على الباب «ابق بعيدا، الكاتبة تعمل» وكان ذلك بداية ثغرة في هذا الزواج الذي فشل. وبعدها أنجزت الكاتبة عشرة كتب خلال عشرين عاما بعد انفصالها.

تتطرق هذه المقالات الكاشفة إلى المأزق والفوائد حين يكون أحد الشريكين كاتبا في نفس الحقل الابداعي أو في حقل مختلف تماما. ويبدو أن على الشريكين أن يتفقا منذ بداية الزواج على مسألة توزيع الممتلكات والعناية بالأولاد. فكثيرة هي الزيجات التي كانت نهايتها مأساوية ولكنها أثمرت بالنتيجة عن كتابات خالدة مثل علاقة ت .اس. اليوت بزوجته، وكذلك فشل علاقة الحب بين تيد هيوز وسيلفيا بلاث، وزيلدا وسكوت فيتجيرالد. ولا ننسى «ميلفيل» الذي كتب «موبي ديك» وكانت حياته جحيماً.

كل من دخل ميدان الكتابة وعرف مواجعها سيجد صورة له في أحد هذه المقالات، والقارئ الذي ينظر من بعيد إلى شخصيات الكتاب على أنها فانتازية، سيدرك عمق الإشكالية وحدة المعاناة التي يعيشها الكاتب، التي لا تظهر في الكتب التي نقرأها كمادة تثقيفية أو ترفيهية أو تعليمية. وبالطبع لا أحد يستطيع أن يتكهن بعمق الإشكالية عند الكتاب العرب، لأننا لا نحب غالباً أن نتحدث عن خفايا حياتنا وعلاقاتنا.

كنت أتحدث عن هذا الكتاب مع صديقة، وهي زوجة شاعر، فتنهدت وقالت: أصبحت أكره الشعر، ولا أحبه أن يقرأ لي. انه يصرف كل وقته أمام الكمبيوتر ومع الكتب بينما أنا أحب أن يقوم الزوج بالعناية بي، وبالاهتمام بالحياة الاجتماعية والسهرات. حين أتحدث إليه، يهز رأسه موافقاً، في حين أنا متأكدة أنه غارق عالمه ولم يسمع ما قلت. أجبتها: ولكنك حين أحببته، كنت معجبة بكونه شاعرا! فقالت: نعم، ولكن في الواقع أنتم الشعراء مملون.