غاليلو.. المعرفة مقابل السلطة

وثائق جديدة اكتشفت أخيراً عن أكبر عالم في عصره

TT

في يونيو (حزيران) عام 1632، كان العالم الفيزيائي والفلكي الإيطالي غاليلو غاليلي يعتبر، بلا منازع، أكبر عالم في عصره، لكن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية أهملته وتجاهلته، وذلك لهرطقته، حسب رأي هذه الكنيسة، وإشاعته بأن الأرض تدور حول الشمس. لم يحرق أو يسجن بسبب أفكاره، بيد أنه اضطهد بشكل رسمي وحددت حرية تعبيره ووضع تحت الإقامة الجبريّة لبقية حياته. هذا الإجراء جعل المجتمع المثقف في البلدان الكاثوليكية في حالةٍ من الهلع والحذر. وفي أماكن أُخرى، أُستقبلت حركة الكنيسة هذه بمزيج من السخرية والغضب، مطالبين بإحالة العلم، الذي وصل ذروته في القرن التاسع عشر، إلى الأمور الدنيوية.

سرعان ما تحولت محاكمة غاليلو إلى مادة اسطورية وقصة نموذجيّة تحذيريّة تحكى بطرق مختلفة: الإنسان مقابل السلطة، العقل مقابل الكنيسة. في بعض الروايات أصبح غاليلو بطلاً وفي أخرى جباناً أو مرتداً. في القرن العشرين قدّم الكاتب المسرحي الألماني برتولد برشت غاليلو على شكل عمل مسرحي درامي تغريبي معقّد في مسرحية «غاليلو غاليله» وأعطى آرثر كوستلر في كتابه العلمي المثير للجدل «السائرون في نومهم» تفسيرات متناقضة عن نفس الموضوع، لكن الكاتب ميشائيل وايت المتخصص بكتابة التاريخ العلمي انتهج منهجاً مختلفاً ومطلقاً يشير إليه بوضوح عنوان كتابه «غاليلو المرتد».

في مقدمته للكتاب يشير المؤلف إلى أن «محكمة التفتيش الرومانية لم يعد بوسعها بعد أن تعذّب أو تحرق الناس، وإنما، بدلاً عن ذلك، «حظرت على النساء أن يصبحن قساوسة، وحرمت استخدام المواد المانعة للحمل عند أمم العالم الثالث حيث يموت الملايين من البشر سنوياً جرّاء الأمراض المرتبطة بالايدز وغيره».

يرسم وايت صور مشرقة لغاليلو خلال حياته: الإبن الذكي اللاّمع لإب ذكي ولامع أيضاً، كان باستمرار في صدام مع السلطة مما الحق ضرراً كبيراً بعائلته، ووقف بشكل عنيد وعنيف ضد رجال الدين المتعصبين. أخرج إبنه غاليلو من مدرسته الدينّية حالما وجد أن طفله يبدي اهتماماً لكي يصبح قسّاً. ومثل والده، صنع الإبن غاليلو له من الأعداء ما يساوي الأصدقاء. ورغم ورعه الكاثوليكي، لم يكن لديه متّسع من الوقت للانغماس في العمل الديني العلمي. لوحظ نبوغه مبكراً؛ لفترة من الوقت، لكن أخذ كثيرون يتذمّرون من وجوده كاستاذ لمادة الرياضيات في جامعة بيزا، فنقل إلى بادو حيث تلقفته المؤسسات الفينيسية برغبة شديدة. وهناك ابتكر تلّسكوبه الشهير، الذي غيّر مستقبله وسمعته رغم كونه أقلّ ما حققه ذكاؤه العبقري من إنجاز، كما أثبت التاريخ بعد ذلك.

ومثلما يبدي الكاتب وايت اهتماماً خاصاً بالسياق التاريخي والفكري لغاليلو، فإنه يبدي نفس القدر من الاهتمام بالسياق الشخصي له. يرى وايت بأن العائق الكبير للتعلّم واكتساب المعرفة في أواخر القرن السادس عشر كانت هيمنة كتابات وفكر أرسطو، وبالذات موضوعه عن الكون الذي يقول فيه بأن الشمس هي التي تدور حول الأرض الساكنة. لكن معاصري أرسطو ومن ضمنهم دمقراط كان لهم رأي آخر رغم أن أرسطو قد كسب المعركة الفكرية بشكل قاطع حينما تبنته الكنيسة المسيحية: إن تثبيت موقف أرسطو ومؤيديه جعلهم أكثر سيطرة وحسماً. لقد انسجموا تماماً مع ما جاء في الرواية الدينية آنذاك بهذا الشأن. وجاءت مصادقة اللاهوتي توماس أقيانوس في القرن الثالث عشر على كتابات أرسطو لتمنحهم هذه الرواية القوّة اللازمة.

واصل غاليلو عمله بثبات، مع أنه لم يبد صلابة واستعداداً لهذه المعركة التي تدور حول الاختلاف بين ما يقوله أرسطو والإنجيل وما يلاحظه هو شخصياً، إلا إنه ناقش أفكاره بشكل حر بين أقرانه العلماء في الأكاديميّة المعروفة «لنكسس»، مدوّناً معتقداته في الكراسات والكتب بلغةٍ إيطالية ذكية ومبسّطة بدلاً من اللاّتينيّة وهي اللغة الرسميّة التي كانت سائدة بين أوساط المثقفين والمتعلمين. رأى غاليلو المسألة في إطار الحقيقة البحتة التي تكمن في ما أورده العالم البولندي كوبرنيكوس في نظرياته التي تقول بأن الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس. وبسبب ذلك أصبح غاليلو موضع إتهام وشجب مستمرّين. وأخيراً قرر أن يأتي بموافقات بابوية لكتاباته.

طلب الكاردينال الرجعي بيلارمين من غاليلو أن يتولى تدريس ومناقشة نظرية كوبرنيكوس على أنها فرضيات قابلة للدحض والمراجعة. تقبّل غاليلو هذا الطلب، ولكن بحسّاسية عالية، فذهب إلى بيته وشرع يكتب بروح مستفزّة ومثارة. في الواقع، لم يستطع غاليلو أن يصدّق بأن السلطات كانت تعني ما تقول بمعاقبته أشدّ العقاب إذا ما أعلن عن الحقيقة بشكل صريح. وأثار كتابه المهم الثالث موجةً من الاستفزاز حينما اقتنع البابا الجديد بأنه أصبح مادةً لسخرية واستهزاء الكتاب. وكأحد البابوات الثمانية، قام الكاردينال باربيني بنبش قبور الهراطقة وعرض رفاتهم على العامة. كانت تلك «أوقات عصيبة وخطرة لم يعد فيها التساهل ممكناً مع المعارضة المتعلمة»، كما علّق أحد علماء ذلك الزمان على الأوضاع السائدة آنذاك.

حينما اكتشف المركز الديني المقدّس بأن غاليلو وفي كتاب مبكر له يؤيّد نظرية الذرّة، أتهم بنقده القربان المقدّس. واستدعي غاليلو إلى اجتماع في روما للإجابة عن التهم الموجهة إليه. وفي هذا الاجتماع أو المحاكمة أعلن غاليلو، مهادناً، التخلي عن نظرية دوران الأرض حول الشمس، وذلك، أولاً للحفاظ على حياته وثانياً لمتابعة علومه وكشوفاته وبخاصةٍ إتمام كتاب «المناظرات» الذي كان يوليه عناية خاصة.

تبرز أهمية الكاتب وايت، في عرضه لمحاكمة غاليلو واقتباسه لأجزاء كبيرة من النسخة طبق الأصل للمحاكمة ومن ضمنها ما تمّ الكشف عنه من وثائق مؤخراً، مقارنةً مع ما يزعم من مرتدّين آخرين مثل جوردونو برونو الذي أحرق، فإن غاليلو الذي هدد أكثر من مرّة بالتعذيب، كانت له تجربة ناعمة نسبيّا. فبعد عودته من المحكمة إلى بيته، ورغم وضعه تحت الإقامة الجبريّة، سمح له باستقبال الزائرين واستمرّ على العمل منكبّا على إتمام مؤلفه «المناظرات» وهو في عقده الثامن ولم يزل، على حد قول ولده، قادراً على إلقاء النكتة.

ظلت كنيسة روما على سابق عهدها، غير آسفة على ما اتخذته ضدّ غاليلو». إن محاكمة غاليلو، كما أعلن الكاردينال راتسينغر قبل سبعة عشر عاماً «كانت معقولة وعادلة. باختصار، يمكن اعتبار الكتاب، إلى جانب سرده لحياة غاليلو من موقع تاريخي وشخصي، تحذيراً استثنائياً من رعب الفكر الثيوقراطي في قمعه للفرد وحقائق العلم والمعرفة.