الفن التاسع يكتسح سوق الكتب وينتزع الاعتراف

القصص المصورة قصة نجاح خلابة

TT

أضخم ميزانية في تاريخ السينما الفرنسية (78 مليون يورو)، إضافة إلى دعاية كبيرة وإمكانات هائلة، تليق بإنتاج هوليوودي كبير، خُصّصت لآخر الانتاجات السينمائية الفرنسية «أستركس في الألعاب الأولمبية». الخبر عادي لولا أن الفيلم الذي نزل إلى جميع القاعات الأوروبية، مقتبس من سلسلة قصص مصورة تحظى بشعبية كبيرة في فرنسا! الأخبار تتحدث أيضا عن احتمال فوز القصة المصورة «برسوبولس» بجائزة الأوسكار، لأحسن فيلم أجنبي لسنة 2008. وهي سابقة، تعد مؤشراً مهماً، على صعود ما يسمى «بالفن التاسع» لا بل اكتساحه المكتبات، وتحوله إلى ظاهرة يصعب تجاهل أرباحها وجماهيريتها.

جولة صغيرة في قسم الكتب بأي محل من المحلات التجارية الكبيرة، يكشف عن عدد هائل من سلاسل القصص المصورة، على اختلاف توجهاتها وأنواعها، منها ما يتوجه للأطفال تحديداً، فتكون مواضيعه تربوية، علمية، ترفيهية، ومنها ما يتوجه للكبار فقط فتكون مواضيعه اجتماعية، هزلية، تاريخية، بوليسية أو حتى إباحية. أنواع أخرى عرفت طريقها إلى المكتبات أخيراً، وهي القصص المصورة السياسية الساخرة. وكان نجاح سلسلة «ساركو الاول» «الوجه الخفي لساركوزي»، أكبر مؤشر على رواج هذا النوع الجديد. فقد باعت هذه الأخيرة، أكثر من 100.000 نسخة وترجمت إلى 6 لغات أوروبية. لكن أولى الروايات المصورة التي عرفت طريقها لقلوب الناس كانت الروايات الفرنكو -بلجيكية، التي بدأت مع مطلع القرن الماضي، وعلى رأسها رواية كليرجي «مغامرات تان تان». ومن منا لم يقرأ في طفولته «مغامرات تان تان في التبت»، «مغامرات تان تان وزهرة اللّوتس الزرقاء» و«كنز القرصان الأحمر»، ذات الشهرة التي تعدت حدود الدول الناطقة بالفرنسية إلى العالم بأسره، بما أنها ترجمت لأكثر من 55 لغة، بما فيها العربية. وكانت مناسبة الاحتفال بمرور 75 سنة على مولد شخصية المحقق الصغير في الحادي عشر من يناير الماضي، حدثاً إعلامياً كبيراً في كل من فرنسا وبلجيكا. الروايات المصورة الأميركية، معروفة بمواضيعها المستوحاة من الخيال العلمي وبأبطالها الخارقي القوة أمثال «باتمان»، «سبيدرمان»، و«سوبرمان»، أما المانجا اليابانية فهي أكثر هذه القصص انتشاراً في العالم العربي، بسبب اقتباسها الواسع من طرف التلفزيون، حتى أن شهرة بعضها تعدت عدة أجيال أمثال: «الليث الأبيض»، «الجائزة الكبرى»، «أبطال البوكيمون»، «الكابتن ماجد»... إلخ.

جمهور من 7 إلى 77 سنة

علماء الاجتماع يؤكدون أن رواج هذا النوع من الكتب، يعود لكونها قادرة على تجاوز فجوة الأجيال والتخاطب مع أعمار مختلفة، ومن ذلك الشعار الفرنسي الشهير الذي أطلقته مجلة «تان تان» في السنوات السبعين: «من 7 إلى 77 سنة« والذي جاء ليكرس الفكرة التي تفيد باتساع الشريحة المستهلكة لهذه القصص المصورة. فإذا كنت طفلا فإن المغامرة والحركة تشدان انتباهك، وإذا كنت بالغاً، فإن سرعة القراءة وسلاسة الأسلوب قد تشدَّانك نحو هذه القراءات. كما أن أبطال هذه القصص عادة ما يتعدّون هم أيضاً حدود وطن معين. فأبطال «المانجا» مثلا لا يشبهون في شيء اليابانيين، سواء في الشكل الخارجي وكبر العينين أو حتى في كثرة حركتهم وتعابير الجسد والوجه التي لا تعتبر ميزة اليابانيين إطلاقاً. كما أن شخصية «تان تان»، ورغم جذورها البلجيكية، إلا انه لا يمكن الاستدلال منها بشكل واضح على أنها بلجيكية، بل يكاد يكون تان تان مواطنا دولياً.

أظهرت دراسة لمعهد «تى. إن. تى سوفرس» الفرنسي لصحيفة «ليفرإبدو» أن معظم الراغبين في اقتناء هذه النوعية من الكتب يختارون المحلات الكبيرة، وعادة ما تؤخذ كهدية للأحفاد أو الأبناء باعتبار أن مواضيعها مسلية وتربوية، وأثمانها أرخص بكثير من الكتب العادية. وقد بدأ هذا التقليد في الانتشار منذ السنوات الثمانين، حين شرعت هذه المحلات في تسويق هذه المنتجات بكثرة حتى أصبح اقتناء هذه الكتب في المحلات التجارية «ضرباً من ضروب الثقافة الاستهلاكية»، حسب تعريف باحث الاجتماع برتون لهير الذي يضيف أن «القصة المصورة أصبحت تباع كما يباع أي منتج آخر، ولا أحد يتعجب الآن، لوجود إنتاج فني إبداعي على مقربة أمتار صغيرة من علب اللبن». معظم منْ بدأ يهتم بهذا النوع من القراءات، يبدو متأثراً باقتباس هذه الروايات من طرف الشاشة الصغيرة. جاكي وزوجته كوليت اللذان التقيناهما في قسم الكتب في محل «كارفور» بإحدى الضواحي الباريسية قالا لـ «الشرق الأوسط» انهما لا يشتريان لحفيدتيهما سوى الروايات التي سبق وأن رأوها في التلفزيون أمثال «سيدريك» «كيد بادال» او «السنافر الصغار». وهما يستلهمان خياراتهما من الشاشة الصغيرة، لأنهما بصراحة لا يعلمان ما يمكن أن يعجب الحفيدتين. أما «توما» الذي وجدناه في نفس القسم، جالساً على الأرض يقرأ سلسلة «تيتوف»، فيقول: انه عادة ما ينعزل في هذا القسم بانتظار انتهاء والديه من شراء حاجياتهم من المّحل، وقد تعّرف على شخصية «تيتوف» الولد المشاكس أول مرة من خلال الرسوم المتحركة التي تحمل اسمه، وهو الآن متعلق بقراءة قصصه المصورة، لكنه لا يشتريها إلا نادراً وعادة ما يكتفي بقراءتها في المحلّ.

الجمهور الآخر الذي يعتبر أكثر تعلقاً وانتظاما في قراءته لهذه الكتب، يجد ضالته في المكتبات، إما لأنها توفر أحدث الإصدارات أو لأنها توفر أعداد السلاسل كاملة بمواضيعها. وبدل تعبير القصة المصورة، فإن هذا الجمهور يبدو أكثر اهتماما بما يسمى «القصة التخطيطية»، وهي التسمية التي تطلق على السلاسل التي تتجه للمراهقين والكبار فقط، ويراعى فيها الحّس الفني والإبداعي، وعمق وجديّة المواضيع، ولكن أيضا الحجم والشكل الخارجي. «غِيّوم» هو صاحب مكتبة متخصصةّ في الروايات المصّورة، في الحيّ اللاتيني بالعاصمة باريس، يقول «ان بعض الزبائن ممن يُجَمّعون سلاسل القصص الأصلية، مستّعدون لدفع مبلغ يصل إلى 2000 يورو من اجل الحصول على عدد نادر أو قصة مفقودة من السوق. كما تصل بعض أعداد «استركس» المشهورة، المحدودة الطبع كـ «أستركس في الألعاب الاولمبية» إلى 300 يورو. علما أن ثمن القصة في المحلات الكبيرة، يتراوح ما بين 5 إلى 15 يورو».

القصة المصورة: فن بكل المعايير

رغم البدايات الصعبة لسلاسل القصص المصورة، والاعتقاد السائد الذي طالما لاحقها بأنها مجرد قراءات تافهة لتسلية للأطفال والمراهقين دون أي قيمة فنية أو أدبية تذكر، إلا أن هذا التعبير الفني الجديد الذي يجمع بين الكتابة والرسم استطاع في أقل من عقدين وبجدارة، انتزاع اعتراف وتقدير الوسط الثقافي، حتى أصبح يلقب «بالفن التاسع»، وصارت تقام له المهرجانات العالمية وأكبرها يدعى مهرجان «انغولام» الذي ينعقد سنويا في غرب فرنسا منذ 1972. وقد حظي المهرجان منذ البداية باهتمام الأوساط الرسمية التي تدعمه مادياً ومعنوياً من خلال زيارات وزراء الثقافة بل ورؤساء الجمهورية أيضاً، كما حدث مع شيراك وفرانسوا ميتران عدة مرات. كما أصبح لفن الروايات المصّورة قسم خاص بها في كلية الفنون الجميلة منذ 1982.

اقتباس كثير من الروايات المشهورة للسينما والتلفزيون ساهم بقدر كبير في انتشار شعبية هذا النوع من القراءات، وربما بصفة خاصة السينما التي يجمعها بهذا الفن تقارب شديد، فبخلاف قضية الميزانية، كلاهما يعتمد على التقاط تعابير الشخصيات وإحيائها من خلال تصوير المشاهد من زوايا مختلفة، الإضاءة (باستعمال تقنيات ألوان معينة في الروايات)، الفلاش باك، حتى في الكتابة الدرامية التي تعتمد على السيناريوهات في كلتا الحالتين، وفي استعمال المونتاج الذي يعطي للقارئ الإحساس بتتابع اللقطات. أوجه التقارب هذه أصبحت أكثر وضوحاً حين انطلقت هوليوود منذ السنوات الثمانين في إنتاج عدة أعمال معروفة كفيلم «بوباي» سنة 1980 والمقتبس عن بطل الكارتون الذي اكتسب شهرة عالمية بقوته الخارقة التي تأتيه من أكل علبة السبانخ، وكذلك أفلام أخرى مثل «فلاش غوردون» أو «سوبرمان». لكن النقلة الكبيرة جاءت مع بداية التسعينيات وفيلم «باتمان» لمخرجه تيم برتون والذي استعمل فيه لأول مرة ببراعة تقنيات التكنولوجيا الرقمية وما يسمى بالصورة التركيبية Image de synthèse فكان النجاح السينمائي والشعبي الهائل للفيلم، أول مؤشرات اهتمام هوليوود باقتباس هذا النوع من الكتب إلى السينما، وبداية سلسلة طويلة من إنتاجات أخرى، تتميز كلها بميزانية ودعاية ضخمة مثل «سبيدرمان»، «سوبر مان»، «كات وومان»، «إكس مان» و«أستيركس» بالنسبة لأوروبا. الشاشة الصغيرة اهتمت أيضا بنقل بعض الأعمال بل وساهمت في رواجها، من خلال رسوم متحركة معروفة ابتكرت أصلا على الورق، قبل أن تقتبس من قبل التلفزيون وأشهرها على الإطلاق شخصية «ميكي».

«مانجاكا» أو رسام سيناريست.. كلهم فنانون

صنّاع هذه النوعية من الكتب وبالرغم من انتمائهم إلى تيّار فني جديد إلا أنهم يعّدون فنانين مبدعين بكل المعايير، سواء اعتبروا من الكلاسيكيين أمثال «إرجي» الرسام البلجيكي المبتكر لشخصية «تان تان» أو روني غوشنيه وألبير أندرزو مبتكرا شخصية «استركس» و«لوكي لوك» أو كانوا فنانين من الطراز الثقيل أمثال «ويل أيزمان» الأمريكي صاحب القصص التـاريخية الدرامية المعروفة مثل «شارع دروبسي» التي لا تقل في القيمة الفنية عن أية رواية أدبية. وهناك بلال انكي اليوغسلافي، المسلم الأصل الذي ينشط أيضا بالإخراج السينمائي أو الرسام الإيطالي صانع شخصية «كورتو مالتيس» هوغو برات. اللمّسة الفنية موجودة أيضا عند الرسامين اليابانيين المختصين في روايات «المانجا» رغم ما يروج عنها من أنها أعمال تحث على العنف، إلا أنها فن يعتمد على الكثير من الحسّ المرهف، وإبراز تعابير الوجه والعينين لتوصيل الفكرة. كما أن رسوم المانجا تحوي أكثر من 33 رمزا غرافيكيا، وتحظى بشعبية كبيرة لدى مختلف الفئات الشعبية في اليابان حتى أن اليابانيين يقرؤونها على الأقل مرة في الأسبوع كما تظهر الإحصائيات. وأشهر أساتذة المانجا أو «المانجاكا» كما يسمونهم في اليابان: Akira Toriyama مبتكر شخصية «دراغون بول» التي تحولت إلى رسوم متحركة معروفة عالمياً.

نجاح شعبي وتجاري

الاعتراف بهذا النوع من الكتب، فرضه النجاح التجاري والجماهيري. فمجموعات القصص المصورة المعروفة في فرنسا تحت اسم BD وفي الولايات المتحدة COMIC BOOKS وفي اليابان: MANGAS هي أكثر أنواع الكتب رواجا، وقد تعدت واردات مبيعاتها بكثير، جميع الأجناس الأدبية الأخرى. 4300 ألبوم من القصص المصورة، عرف طريقه للنشر سنة 2007 في كل من فرنسا بلجيكا وسويسرا. وهو ما يعادل زيادة في الإنتاج بمقدار %4 زيادة عن السنة الماضية، والرقم إلى ارتفاع للسنة الثانية عشرة على التوالي حتى أصبحت اكبر دور النشر التي لا تهتم عادة إلا بالمواضيع الأدبية والسياسية مثل Gallimard, Grasset, Actes Sud, Laffont..، تتسابق لنشر هذه الأعمال.

السنوات الأخيرة عرفت اشتداد المنافسة، حول الريادة العالمية لهذا القطاع بين المنتجين التقليديين الفرنكو - بلجكيين، الأمريكان واليابانيين.

وقد ظلت السلاسل الفرنكوفونية، تتصدى بقوة لنظيرتها الأمريكية التي تحظى بتوزيع ودعاية جيدين خاصة بعد اقتباس أشهرها للسينما أمثال «بتمان» و«سبيدرمان». فبينما تحقق دار نشر الفرنسية «دوبوي» أرباحاً سنوية تصل إلى 72 مليون دولار من إيرادات بيعها لألبومات «سبيرو» و«سيدريك» لا تصل شركة «مرفل» في تسويقها لألبومات «سبيدرمان« و«إكس مان« إلى أكثر من 62 مليون دولار. لكن الاثنتين لا تملكان شيئا أمام تسونامي «المانجا اليابانية» التي بدأت تغزو الأسواق الأوروبية والأمريكية ابتداء من سنة 2002 بعد أن مهد نجاح الألعاب الإلكترونية عملية دخولها، وها هي الآن تكتسح الأسواق بقوة وتصبح المسيطرة عليها بلا منازع. فشركة Shueisha التي تصدر قصص «دراغون بول زاد»، «كاجيكا» و«بوكيمون» تحقق أرباحاً صافية سنوية تصل إلى أكثر من مليون دولار، أي عشرات أضعاف ما تحققه اكبر الشركات الأوروبية والأمريكية.