جبران خليل جبران سخر من الجميع بدءاً بنفسه

125 سنة على ولادة صاحب كتاب «النبي»

TT

«أذكر أن جبران كان ساخراً بروحه، يرسم بعض التلاميذ والاساتذة بما يثير الضحك». والمتكلم هنا هو النحات يوسف الحويك الذي زامل جبران في مدرسة «الحكمة» بين 1899 و1901، ثم رافقه في رحلة باريس الفنية بعد سبع سنوات (1908 ـ 1910). وبالرغم من عشرات المقالات والرسائل والأقوال المأثورة والمرويات التي تصنّف جبران كاتباً ساخراً وموهوباً في هذا اللون الأدبي الجذاب، فإن احداً، لحد علمي، لم يتناول هذا الجانب الأساسي في سيرته ونتاجه، في حين ركز بعض الباحثين على قدرات جبران الجنسية. لذلك، وبمناسبة مرور 125 سنة على ولادته (1883)، ووسط ندوات ثقافية تقام لجبران في بيروت، ومسلسل تلفزيوني يعرض على محطة «OTV» نلقي ضوءاً على نماذج من سخريته الأصيلة التي تعتلي قمة سلم الجدية.

يؤكد جبران في مقال «الكلام وطوائف المتكلمين» ان «المجون ضرب من الجد». واذا كان المجون يرادف السخرية أو هو أحد أنواعها، فالأخيرة تعتبر أعلى درجات الجدية. ولنا من شهرة أدبائنا الساخرين أمثال أحمد فارس الشدياق، واسكندر الرياشي، وسعيد تقي الدين واستمرار تداول كتاباتهم، خير دليل.

أراد جبران نقد آفتي الاستغياب والانبهار بالأجنبي، المنتشرتين في أوساط أبناء وطنه في المهجر الأميركي الشمالي، فكانت مسرحية «الوجوه الملونة» التي لعب هو فيها دور البطولة باسم «سليم المرجاني».

وفي الفصل الأول من المسرحية نقرأ أن جبران لم يكن حاضراً في منزل «يوسف أفندي الجمال أحد كبار التجار السوريين في نيويورك». لذلك، مارس الحاضرون باستثناء الآنسة وردة العازار الاستغياب بحقه والاستخفاف بتفوقه. قال الخوري نعمة الله باخوس: «ليس لي معرفة شخصية بسليم المرجاني (جبران) ولا أريد أن أعرفه. ولكنني سمعت عنه الشيء الكثير، وقرأت له بعض المقالات التي تدل على كونه واحداً من أولئك الكفار الملحدين الذين يظنون انهم يفعلون امراً عظيماً عندما يرمون الكنيسة وابناءها بأوحال جهلهم وجحودهم». وقال الدكتور سليمان بيطار: «ما أكثر المجانين بين السوريين. والأنكى من كل ذلك هو انه، كلما ظهر مجنون من هذا النوع، تقوم له جرائدنا وتقعد. قد قرأت في احدى جرائدنا العربية كلاماً عن هذا المرجاني جعلني أقطع اشتراكي فيها. فهي لم تكتفِ بأنها دعته أديباً وكاتباً متفنناً، بل زادت في الطين بلّة بقولها هو النابغة السوري! وماذا يا ترى فعل هذا المرجاني لندعوه بالنابغة؟».

وتساءل يوسف الجمال: «إذا كان المرجاني نابغة، فماذا يكون السمعاني والمطران الزغبي والخوري الانطلياسي؟ قد اجتمعت بهذا المرجاني من زمن غير بعيد، والقيت عليه بعض سؤالات في التاريخ، فوجدته لا يعرف شيئاً، آه يا الله ما اكثر النوابغ بين السوريين»! وأكمل انيس فرحات ما بدأه الخوري وصاحب المنزل: و«المدهش المنكي الذي تشمئز له نفسي، ان صاحبنا المرجاني يتوهم انه اذا أطال شعره وحمل عصاه وارتدى الملابس الغريبة الشكل، يحصل على اعتبار القوم وثقتهم».

وتساءلت الآنسة وردة العازار رداً على الهجوم الكاسح الذي شنّه صاحب المنزل وضيوفه: «لماذا يا ترى يكرم الاميركيون أديباً شرقياً؟ هل لسواد عينيه، ام لطول شعره، ام لنغمة غريبة في لهجته؟ ولو كان بيننا أميركي يفهم لغتنا، لظن ان سليم المرجاني قد خنق والده كل منكم بإصابعه»! هنا، وضع الجميع، «وردة» في سلة المرجاني، وراحوا يكيلون لها الوزنات. وعلى سبيل المثال، فقد قال الخوري نعمة الله: «قهراً عن الانتقاد الجارح الذي وجهته الآنسة نحونا. فأنا احترمها اكراماً لأبيها وعمها»! وردت وردة العازار: «أشكرك يا حضرة الأب، وأرجو ان يجعلك المستقبل تحترمني اكراما لنفسي». وفي ذروة الحوار، يقرع الجرس، ويدخل سليم المرجاني. فيرحب به الجميع. ولما كان اللقاء يتم لاول مرة، فقد رددوا عبارة «لنا الشرف، لنا الشرف» وهم يصافحونه. وهنا جرى حوار من نوع مختلف، حيث انتقلت فيه الآراء بجبران من قمة السلبية الى ذورة الايجابية. فالدكتور سليمان بيطار يقول لسليم المرجاني (جبران): «قرأنا عنك الليلة مقالا في جريدة الصن (The Sun). ويسرنا يا مرجاني أفندي ان نسمع عن ادبائنا كلاماً حسناً». يضيف الخوري نعمة الله: «ان غيرة الاميركيين على الادباء مشهورة خصوصاً اذا كان الاديب مثل مرجاني افندي». ويقول الصحافي فريد طنوس، تعليقاً على مقالة لجبران في دورية عربية مصرية ربما تكون «الهلال»: «قرأت لك يا مرجاني أفندي مقالة نفيسة في إحدى المجلات المصرية، ولا تسل عن إعجابي بها، وقد كان في قصدي نقلها الى جريدتي لولا أملي في الحصول على مقالة جديدة من قلمك السيال». اما الآنسة وردة، فقد استهلت كلامها بعبارة هَمْلتْ قبيل موته «وما بقي فسكوت». وعندما قال لها الدكتور بيطار: «خلصينا أيا حضرة الآنسة من المعميات»، أجابت من غير الخروج على نهج هَمْلتْ: «أواه ما أمهرنا في تخصيص وقت للمعميات، ووقت لغير المعميات. وقد كان بودي أن أقول الآن شيئاً عن المعميات. ولكنني أريد أن يشرب مرجاني فنجان القهوة بلذة. وهل تذكرون قول الشاعر:

قالت الضفدع قولاً فسّرته الحكماء

في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء

وعلّق جبران بسخرية: «الظاهر اني دخلت عليكم وأنتم في حديث خصوصي فقطعتكم عنه»!

* حين يسخر من الكلام

* وقد سخر جبران عبر بعض رسائله ومقالاته ومسرحياته من أرباب الفكر غير الواقعي الذين يتهمونه بالخيالي. ولنقرأ، على سبيل المثال، مقاله الشهير «الكلام وطوائف المتكلمين».

افتتح المقال بهذه العبارات الثلاث: «لقد مللت الكلام والمتكلمين. لقد تعبت روحي من الكلام والمتكلمين. لقد ضاعت فكرتي بين الكلام والمتكلمين». وجبران ملّ الكلام، ليس فقط لأنه لم يكن برسم التنفيذ والاصلاح، بل أيضاً لأنه البضاعة الرائجة في كل مكان وزمان. يقول جبران: «استيقظ في الصباح، فأرى الكلام جالساً بجانب مضجعي على صفحات الرسائل والجرائد والمجلات. وهو ينظر اليّ بعيون ملؤها الدهاء والخبث والرياء». يضيف: مشبّها الكلام بالشيطان «واقوم للعمل، فيلحق بي الكلام موسوساً في اذني، مهمهماً حول رأسي، مقرقعاً في خلايا دماغي. فأحاول طرده فيضحك مقهقهاً، ثم يعود الى الوسوسة والهمهمة والقرقعة». ولم يكن مستوى الثرثرة اقل انخفاضاً في المحاكم والمعاهد والمدارس حيث يرى هناك «الكلام وأبا الكلام وأخاه وهم يلبسون الكذب رداء والاحتيال عمامة وحذاء». وليس الوضع بأفضل في المعامل والمكاتب بدليل انه وجد «الكلام واقفاً بين أمه وعمته وجدته، وهو يقلب لسانه بين شفتيه الغليظتين، وهن يبتسمن له ويضحكن مني». ويتساءل جبران بعد ان فوجئ بذلك الحضور القوي للكلام في كل مكان: «أيوجد في هذا العالم طائفة من الخرسان لا نتمي اليهم؟ هل يرحمني الله ويمنحني الطرش فأحيا سعيداً في جنة السكون الابدي؟ ليت شعري! أبين سكان الارض من لا يعبد نفسه متكلماً؟ هل يوجد بين طغمات الخلق من لم يكن فمه مغارة للصوص الألفاظ»؟ وتبين في المختبر الجبراني، ليس فقط خلو العالم من طائفة الخرسان، بل أيضا وجود كل الأنواع والأشكال التي يتوزع عليها المتكلمون. فمثلا هناك «طائفة المستضعفين الذين يعيشون في المستنقعات النهار بطوله. وعندما يجيء المساء يفعمون صدر الليل بضجيج قبيح تأباه المسامع والأرواح. وهناك طائفة المستبعضين الذين يرفرفون حول أذنك بنغمة تافهة رفيعة شيطانية، سداها النكاية ولحمتها البغضاء. وهناك طائفة المسبومين، وهم الذين يصرفون الساعات بين مقابر الحياة وجداثها، محولين سكينة الدجى الى عويل أفراحه أحزن من نعيب البوم. وهناك طائفة المستهزئين، وهم الذين يستغيبون الناس ويستغيبون بعضهم بعضاً ويستغيبون نفوسهم على غير معرفة من نفوسهم. ولكنهم يدعون الاستغابة باسم المجون. والمجون ضرب من الجد ولكنهم لا يعلمون. وهناك طائفة الانوال التي تحوك الهواء بالهواء، ولكنها تظل هي من دون قمصان ولا سراويل. وهناك طائفة الزرازير التي قال عنها الشاعر: لما حام حائمها توهمت أنها صارت شواهينا. وهناك طائفة الاجراس، وهي التي تدعو الناس إلى الهياكل ولكنها لا تدخلها». واستدرك جبران في ختام المقال فقال، بعد ان اكتشف انه هجا الكلام بالكلام: «أراني كالطبيب المعتل او كمجرم يقف واعظا بين المجرمين». وتساءل: «هل يغفر الله ذنبي قبيل ان يرحمني وينقلني الى غابة الفكر والعاطفة والحق حيث لا كلام ولا متكلمين». ويقلب جبران الصفحة على الغرور المتفشي في أوساط أنصاف المثقفين، الذين يرادف غرورهم جنون العظمة، خصوصا حين يعبّرون عن ذلك بكلام فلسفي.

* جنون العظمة كيف يكون مثقفاً؟

* خصص جبران لمجانين العظمة والمغرورين مقال فلسفة المنطق او «معرفة الذات» الذي نشره اولاً في جريدة «السائح» العربية النيويوركية، ثم أعاد نشره في كتابه «العواصف». ووظّف الكاتب في هذا المقال العلامات الفارقة والكاريكاتورية احيانا، للعديد من الفنانين والأدباء والفلاسفة والسياسيين. وقد أكد التوظيف على سعة اطلاعه ودقة ملاحظاته. سليم افندي دعيبس مثقف بيروتي او مقيم في بيروت، يعتقد، ربما بتأثير من رسالة سقراط الى افلاطون، ان معرفة الذات «هي أم كل معرفة». لذلك، «انتصب كالتمثال، أمام مرآة كبيرة تصل الغرفة بسقفها»، حوالي نصف ساعة «ثم فتح شفتيه بهدوء وقال مخاطباً نفسه: أنا قصير القامة، وهكذا كان نابوليون وفكتور هوغو. أنا ضيق الجبهة وهكذا كان سقراط وسبينوزا. أنا اطلع وهكذا كان شكسبير. أنفي كبير ومنحن الى جهة واحدة، وهكذا كان فولتر وجورج واشنطن. في عيني سقم وهكذا كان بولس الرسول ونيتشه. فمي غليظ وشفتي السفلى ناتئة، وهكذا كان شيشرون ولويس الرابع عشر. عنقي غليظ، وهكذا كان هنيبال ومرقس انطونيوس. أذناي مستطيلتان بارزتان الى الجهة الوحشية، وهكذا كان برونر وسرفانتي. وجنتاي بارزتان وخداي ضامران، وهكذا كان لافيات ولنكولن. ذقني متقاهر الى الوراء، وهكذا كان غولد سمث ووليم بت. كتفاي متباينتان، فالواحدة تعلو عن الاخرى، وهكذا كان غمبتا وأديب اسحق. يداي تخينتا الكفين، قصيرتا الاصابع، وهكذا كان بليك وادنتون». اضاف: «جسدي ضعيف نحيل، وهذا شأن اكثر المفكرين الذين تتعب اجسادهم في مرامي نفوسهم، ومن الغريب اني لا استطيع الجلوس كاتباً او مطالعا الا وبجانبي إبريق القهوة مثلما كان يفعل بلزاك. لي ميل الى معاشرة الرعاع والبسطاء كتولستوي ومكسيم غوركي. وقد يمرّ اليوم واليومان من دون ان أغسل وجهي ويدي، وهكذا كان بيتهوفن وولت وتمن. وللعجب، انني استريح لسماع اخبار النساء وما يفعلنه في غياب أزواجهن كبوكاشيو وريبالي. ما عطشي الى الخمرة فيضارع عطش ابي نواس ودي موسه ومارلو. وأما مجاعتي للمآكل الشهية والموائد المرصوفة بالالوان المتنوعة، فتقارن نهم بطرس الاكبر والأمير بشير الشهابي». وختم قائلا ان دعيبس، بعد ساعة من ممارسته جنون العظمة أمام المرآة، نام «بملابسه المشوشة على سريره المشقلب، وغطيطه يملأ فضاء ذلك الحيّ بنغمة أدنى الى جعجعة الطاحون، منها الى صوت ابن آدم».

* دارون والقرود

* ويعود جبران الى القالب المسرحي ليستأنف نقده للمثقفين عبر مسرحية «شؤون فلسفية اجتماعية بقالب روائي». وفي هذه المسرحية التي يطلق عليها جبران تسمية (رواية)، ينتقد اصدقاءه ولا يوفر نفسه. ولكن النقد كان أقرب إلى المداعبة منه إلى السخرية.

أسند جبران دور البطولة الى القروي البتروني حنا سمعان، رغم ان الأدوار الاخرى توزعت على جبران، وأمين الريحاني، والشيخ اسكندر العازار الناثر والشاعر والخطيب والساخر الاصيل، ورائد الاشتراكية والداروينية شبلي شميّل الذي افتتح الحوار الذي اقيم في مكان «مسحور بجمال المناظر وهيبة الشمس والوان الشفق المندرجة من الأصفر الى الأحمر الناري». وكعادته في مقهى طسبلندد بار القاهري او في منزله، تساءل بصوته الجهوري وبمنهجه الدارويني: «يا ترى، هل كان لألوان الشفق تأثير على فطرة القرد الذي تحدر منه الانسان حسب الناموس المعروف بتأثير الوسط»؟ اجابه الكاتب الساخر العازار: «بالله عليك، دع دارون ومذهبه مدفونين بين صفحات الكتب ولا تشوه مجلس هذا المنظر بذكر القرود. الا يكفي ما عندنا من القرود البشرية»؟ وقال جبران: «يذكرني هذا المنظر بصورة للرسام تيرنار الإنكليزي تمثل رجوع عولص من جزيرة كاليبسو». وعلق الريحاني: «لقد ضاعت الطاسة بين قرود دارون ورسوم تيران، وكلا الرجلين من أمة ثلجية الاخلاق، رمادية العواطف». وعاد شميل الى القول: «ابتدأنا بفطرة القرود وانتهينا بأمة الانكليز». وتساءل العازار: «أوليس الانكليز والقرود متشابهين»؟ وفي ذروة حوار جبابرة الادب والسخرية يدخل حنا سمعان بخفر ليقول: «مسّيكم بالخير يا أفندية». يضيف: «اسمحوا لي بكلمة من دون ثقلة: بشوف ان كلام هالشاب فيه زبد، والفرنج مش أحسن من العرب والقلب ما يهف ليهن».

هنا، رد العازار عليه، فدافع عنه شميّل والريحاني الذي قال: «أجل وقد جاء في الحديث: لا يغيّر الله»... فقاطعه سمعان: «بيظهر حضرتك مسلم»؟ وعندما ساوى جبران قوة نابوليون بقصائد الفارض، وعارضه شميّل، تدخّل سمعان للقول: «ما فهمت كل كلامكم. ولكن أنا بحب نابوليون وبحب الفارض، وليش لا؟ هلّي بيحب الكوسا المحشي بيقدر يحب الدجاج المحمّر». ولما ودّع حنا سمعان الفرسان الاربعة، قال جبران «ما أشبه صاحبنا بيوليوس قيصر، فقد أتى، فرأى، فانتصر. انتصر عليكم وعليّ ثم تركنا غارقين في بحر من الافكار والآراء والمبادئ والتعاليم. نعم، نحن غارقون، والافضل له ان يبقى واقفاً على الشاطئ». وتعليقاً على طلب العازار من صاحب المطعم الاتيان بأربع كؤوس ومازة، ختم جبران المداعبة الفلسفية: «كنا غارقين في بحر من الافكار والآراء والمبادئ والتعاليم، فلنغرق الآن في بحر من العرق». والمعروف ان جبران كان «شرّيب كاس»!

ومن المسرحية الثقافية، ينتقل جبران الى المسرحية السياسية الساخرة أيضاً المعنونة «بين الليل والصباح». حصر الكاتب مكان المسرحية في مخفر ساحة البرج في بيروت. اما الزمان، فيحدده في السنوات القليلة التي سبقت أفول نجم الاحتلال العثماني وسطوع شمس الاحتلال الفرنسي، في الحرب العالمية الاولى. وفي سياق فصول المسرحية القصيرة، يجري حواراً بين خمسة معتقلين في سراي ساحة البرج، وهم: الشاعر يوسف كرامة (وهو جبران نفسه)، والوجيه المسيحي سليم بلان، والوجيه المسلم علي رحمن، والوجيه الدرزي شرف الدين الحوراني، والتاجر اليهودي موسى حاييم. وفي الوقت الذي يتمحور حوار الشاعر والوجهاء الثلاثة على السياسة والحرية، يفتتح حاييم حواره، وهو نائم، بقوله: «مئتان ومئتان، أربع مئة. أربع مئة وثلاث مئة، سبع مئة. سبع مئة ومئتان، تسعمئة. تسع مئة وخمس مئة، الف واربعمئة من الذهب. اخذوها! اخذوها مني. اخذوها آه، آه. لذلك، حين افرج عن المعتقلين، اثر حلول المحتلين الاوروبيين مكان المحتل التركي، كان حاييم اول المغادرين للسجن «والفرح يكاد يقتله» بأمل استعادة ليراته الذهبية ومضاعفتها، في حين، كان يوسف ـ اي جبران ـ آخر المفرج عنهم ولسان حاله يقول: «ليكن يا رب خروجي من هذا السجن الى الحرية الحقيقية». وكتب جبران عشرات الأقوال المأثورة الساخرة، حيث انتقد بكلماتها القليلة الكثير من الاعتقادات والممارسات الخاطئة وبخاصة اتباع منهج التقليد وتقديس التقاليد. ولنقرأ ثلاثة منها على سبيل المثال لا الحصر.

1: «سيأتي زمن يأبى فيه أبناؤه الانتساب إلينا، مثلما يأبى بعضنا الانتساب الى طائفة السّعادين».

2: «بعض الناس يسمعون بآذانهم، والبعض ببطونهم، والبعض بجيوبهم، والبعض لا يسمع أبداً!».

3: «تأكل متسارعاً، وتمشي متباطئاً، فهلاّ أكلت برجليك ومشيت على شفتيك»؟