اصداء رحيل سهيل إدريس: رجاء النقاش: نشرت أول كتاب في «الآداب»

TT

شهادة كتبها عن سهيل إدريس الناقد الراحل رجاء النقاش في عمود «ضواحي الفضفضة» بصحيفة «أخبار الأدب» المصرية في 1 يونيو (حزيران) عام 2003. وقد عمل رجاء النقاش مراسلاً أدبياً لمجلة «الآداب» بالقاهرة لعدة سنوات منذ ظهورها.

سهيل إدريس شخصية أدبية بالغة القيمة والأهمية في الثقافة العربية الحديثة. وهذه الشخصية لا تقوم على جانب واحد من جوانب الأدب أو العمل الفكري، ولكنها شخصية تقوم على التنوع، ولا يمكن فهمها ولا إعطاؤها حقها من الفهم والتقدير إلا بالنظر إليها من عدة جوانب في وقت واحد. وأول جانب أحب أن أتحدث عنه هو جانب شخصي يتصل بي، فتأثير سهيل إدريس في حياتي الادبية هو نموذج من عشرات النماذج التي تمثل تأثير هذه الشخصية المهمة على الكثيرين من أبناء جيلي. فقد بدأت حياتي الادبية حوالي سنة 1952، وكنت في الثامنة عشرة من عمري وذلك بالعمل كمراسل لمجلة «الآداب» التي أصدرها سهيل إدريس كما أذكر في ذلك العام في بيروت. وكان عملي كمراسل في القاهرة بترشيح من أستاذي الناقد العظيم والإنسان النبيل أنور المعداوي. ولم يكن أحد يعرفني في تلك الفترة، غير زملائي وأساتذتي، ومع ذلك لم يتردد سهيل إدريس في قبولي كمراسل لمجلته الشهرية المهمة، التي كانت في ذلك الوقت أهم مجلة أدبية عربية على الإطلاق. ولم يكن سهيل إدريس يعرف عني شيئا أكثر من قراءته مقالا لي كنت أرسلته إليه ونشره على الفور، وكان عنوان المقال فيما أذكر هو «الماضي المرفوض» وكان المقال يعبر عن ضيق شديد بسيطرة الأفكار الأدبية القديمة ووقوفها في وجه التجديد والبحث عن صورة عصرية للأدب العربي تتناسب مع مشاكلنا الراهنة وهمومنا التي لم يعرفها السابقون علينا. وربما كنت في هذا المقال مندفعا ومتهورا في الهجوم على الماضي الأدبي العربي، وهو أمر عدلت عنه تماما فيما بعد، ولكن المقال مع ذلك كان يعبر عن حنين كبير إلى شيء جديد مختلف في الأدب والثقافة والحياة. وما فعله سهيل إدريس معي، وأنا المجهول الذي لا يعرفه أحد، يمثل الموقف العام لسهيل إدريس. فقد كان رائدا في تجديد الحياة الأدبية العربية، وكان يبحث عن أجيال أدبية جديدة يحتضنها ويقدم لها العون، أي أنه كان يبحث عن بناء مستقبل أدبي عربي جديد، ولم يكن أديبا تقليديا يكرر ما هو موجود ويدفع عن الواقع القائم. بل كان مكتشفا وصاحب نظرة أصيلة تريد أن تضيف إلى الأدب العربي والمجتمع العربي أجيالا جديدة. فهو من هذه الناحية صاحب ريادة وفضل لا ينساه أحد، لأنه فتح الأبواب الواسعة أمام تيارات أدبية جديدة تماما، ولم تكن هذه التيارات تجد فرصة للتعبير عن نفسها، وفي اعتقادي أنه لولا سهيل إدريس لتأخر ظهور هذه التيارات الأدبية الجديدة لمدة لا تقل عن عشر سنوات أو عشرين سنة، مما كان سوف يضعف منها ويجعلها محدودة التأثير ويفقدها حيويتها وقيمتها الحقيقية.

في سنة 1958 صدر لي أول كتاب وهو «في أزمة الثقافة المصرية» وقد قام سهيل إدريس بنشره في «دار الآداب» التي يملكها، وكتب للكتاب مقدمة مهمة وجميلة جدا، وبذلك فأنا أعتبره صاحب الفضل الأول في تقديمي إلى الحياة الأدبية بدون تردد من جانبه. وكنت أيامها في الثالثة والعشرين من عمري. أي أنه أخذ بيدي وأنا في أول الطريق. وهذا ما فعله مع كثيرين غيري من أبناء جيلي ومنهم صلاح عبد الصبور، وأحمد حجازي، وأبو المعاطي أبو النجا، وسليمان فياض، ومحي الدين محمد، وإبراهيم أصلان وغيرهم كثيرون.

هذا عن الجانب الشخصي، أما الجانب العام الذي يمثله سهيل إدريس فهو جانب آخر عظيم الأهمية. فسهيل إدريس هو الذي ساند حركة «الشعر الجديد» التي كانت تعاني من الاختناق والحصار في الخمسينات من القرن الماضي، وحركة الشعر الجديد بكل تياراتها هي التي جددت الشعر العربي ودفعت إلى شرايينه بدماء قوية أعادت إليه النضارة والحيوية والشباب، وهذا تأثير لسهيل إدريس من أكبر التأثيرات التي تركت على وجه أدبنا الحديث علامة أساسية.

على أن هناك جانباً مهماً جداً، كان البطل فيه هو سهيل إدريس الذي تبنى فكرتين كبيرتين وهما «العروبة» و«الالتزام». أما العروبة فقد أخرجت جيلنا الأدبي من النطاق الاقليمي الضيق، وأصبحنا نشعر أننا نكتب ونقرأ ونتعامل كأفراد من أمة كبيرة واسعة هي الأمة العربية. وأنا واحد من الذين ترسخت مشاعرهم العروبية بفضل سهيل إدريس، أي أنه هو الرائد الذي نقل أمثالي من الإحساس الإقليمي المحدود إلى الإحساس القومي الوطني الشامل.

أما فكرة «الالتزام في الأدب» فإن سهيل إدريس هو الذي قام ببناء هذه الفكرة وترسيخها في الثقافة العربية الحديثة. وأهمية هذه الفكرة الخطيرة أنها أتاحت للكثيرين من الأدباء أن يرتبطوا في مشاعرهم وإنتاجهم بمجتمعاتهم وما فيها من مشاكل، بدون أن يضطرهم ذلك إلى الارتباط بنظريات تميل إلى السياسة وتجور على الأدب مثل النظرية الماركسية، ولولا فكرة الالتزام لأصبحت النظرية الماركسية في الأدب هي السائدة. وأظن أن الماركسية الأدبية بسبب صرامتها الشديدة كانت من النظريات القاتلة للإبداع الأدبي الحر. وقد تخلص الكثيرون من هذه المصيدة بفضل فكرة الالتزام التي تبناها سهيل إدريس ودعا إليها بقوة وأصالة.

فالالتزام يربط الأديب بمجتمعه بدون أن يغرقه في السياسة وبدون أن يقتل فيه روح الإبداع الحر المستقل.

وأنتقل من هذا كله لأتحدث عن جانب آخر مهم في شخصية سهيل إدريس هو جانب كتاباته المختلفة، فقد أصدر سهيل إدريس مجموعات عديدة في القصة القصيرة، كما أن له ثلاث روايات مهمة لعلها تكون أهم روايات عربية صدرت في لبنان حتى الآن، وهي «الحي اللاتيني» و«الخندق الغميق» و«أصابعنا التي تحترق»، وهذه الروايات تكشف عن موهبة فنية عالية جدا عند سهيل إدريس. ولو أن سهيل إدريس تفرغ لكتابة الرواية فقط لحقق في هذا المجال قفزات عالية، لأنه كان في أعماله يجمع بين أصالته العربية وثقافته العصرية، وكان يعالج بعمق وجمال مشاكل مهمة يعاني منها المجتمع العربي المعاصر.

على أن النظر لسهيل إدريس كروائي فقط هو أمر خاطئ، فسهيل إدريس من طراز طه حسين، أي أنه كان دائما يجمع بين الكتابة والعمل وتبني الدعوات الجديدة والأفكار التي تدعو إلى النهضة والتقدم، ولذلك فإن قيمة سهيل إدريس تعود إلى التنوع فيه ككاتب، وناشر، وصاحب مجلة مهمة عمرها الآن يزيد على خمسين سنة. وسهيل إدريس مهم جدا كصاحب دور كبير في اتحاد الادباء العرب حيث كان يقف دائما في هذه المنظمة الثقافية إلى جانب الحرية ويدافع عن الاحرار، ولا يهدأ له بال إذا كان هناك أديب مضطهد أو كتاب مصادر، إلا ويعمل مجتهدا ومجاهدا في سبيل الدفاع الشجاع عن كل ما يستحق الدفاع عنه.

هذا هو «بعض» وليس «كل» سهيل إدريس، فلهذا الرجل الكبير دور هو عندي يشبه دور الزعماء المؤثرين في بلادهم والمؤسسين لعصور جديدة من الحرية والإبداع والفكر الذي يضيف إلى مجتمعه ويغيره إلى الأفضل، وليس الفكر الخامل النائم الذي لا يقدم ولا يؤخر. ولذلك فسهيل إدريس يستحق الكثير من الاهتمام والدراسة التفصيلية مني ومن غيري ممن يعرفون فضله ويقدرون دوره العظيم.