بحث عن مفاتيح لتاريخ الحرب في لبنان

الراحل سمير قصير في كتاب بالفرنسية «يهتم باللاعبين أكثر من العوامل»

TT

يعرض مؤلف هذا الكتاب يوميات الحرب اللبنانية بالتفصيل معتمداً على مرجع أساسي، وفق المنهج الذي قرره، وهو الصحافة اليومية التي كانت تنشر الأنباء والتصريحات حول الوقائع المستجدة، فيحللها ويناقش مؤثراتها، رابطاً بين الأحداث والسياقات التي تظهر لاحقاً، وتشكّل النتيجة

التي يمكن تتبعها وتوظيفها

لم تروِ غليل سمير قصير الإجابات عن التساؤلات التي ركن إليها معظم الباحثين في حرب لبنان والتي تتلخص في هشاشة بنية الدولة اللبنانية، والاستقطاب الطائفي، والوجود الفلسطيني في لبنان، والهيمنة السورية، والرغبة الإسرائيلية في زعزعة الاستقرار وغير ذلك، فكانت مساهمته في كتاب «حرب لبنان» مختلفة منهجاً ونتائج.

تفيد الأفكار الشائعة أن لبنان شهد حروباً عدّة ابتداء من 1975. وإذا كانت إحدى السمات الأساسية لحلقة العنف هذه هي التبدل في التحالفات والرهانات والتناقضات، فإن السمة الأخرى هي استمرار الحرب. ممّا يؤكد أن وحدة المكان ليست سوى معطى طارئ، وأن المتحاربين المتعاقبين على هذه النزاعات التي يفترض بأنها مستقلة الواحدة عن الأخرى، لم يأخذوها بالاعتبار، لذلك ستكون الاستمرارية نموذجاً يحدد عمليات التواصل، وتشجع على تأجيج الخصومات وتقود إلى علاقات متعددة بين مختلف المتحاربين، تشكل في النهاية سلسلة واحدة من الأحداث، أي مسلسل «حرب لبنان».

اعتمد سمير قصير على الأحداث نفسها للبحث عن مفاتيح لتأريخ الحرب، والكشف عن عوامل تفجيرها وأسباب استمرارها، وتعاقب فتراتها التأسيسية وانقطاعاتها. فالوقائع تساعد على الكشف عن العناصر الحقيقية لشرح ترابط أعمال العنف. وهذا المنهج فرض على الكاتب قراءة الحدث فور وقوعه، بما يتضمنه من معنى آني ومكاني، وما يتضمنه من معانٍ أسبغتها عليه مختلف الأطراف المعنية لدى تبلغها به، وارتداداته في فترات لاحقة حيث يستمر تفاعل نتائجه مع النتائج التي أسفر عنها حدث آخر.

أدّى هذا المنهج إلى انحياز المؤلف إلى تفضيل الآليات كمادة تاريخية مقارنة بالبحث في الأسباب، مما أسقط الرؤية البوليسية للتاريخ، ونظريات المؤامرة. فالبحث في الأسباب على الرغم من التوثيق والشهادات يبقى بحثاً نظرياً افتراضياً يحيل الحدث إلى نتائجه التي من الممكن أن لا تكون هي المبتغاة والهدف في الأصل. فتضفي على التاريخ طابعاً فلسفياً يسقط التحولات ويلغي انحرافات الأهداف المخطط لها أساساً.

يقر المؤلف بأن البحث الوقائعي يحمل في ذاته قصوراً، لأن النزاعات عادة ما تكون عرضة لممارسات بعيدة عن الأنظار، ولمختلف أنواع المناورات، وأن نقاطاً تاريخية تظل غامضة. إلاّ أنه يقول ان هذه الممارسات المفترضة والوقائع التي بقيت غامضة وغير مفهومة جزئياً لا تؤثر على التماسك المنبثق من الفصول المتعاقبة الواضحة المعالم. وأنه إذا بقيت هناك مشاكل ترتبط بتفسير الوقائع والأحداث، فإنها تجد مبررها في التنافر المستمر بين الخطاب السياسي والممارسة، وفي التفسير الثابت في مجالي الأقوال والأفعال.

تتمثل فائدة هذا المنهج بتغطية أكبر قدر من الأحداث، وعرض شامل للتحديات السياسية للحرب وتحديد طرائق عملها. فالحرب في لبنان تشكل جزءاً من تاريخ الشعب الفلسطيني، ومن تاريخ سوريا، وتجسد إحدى محطات تطور مشروع الاستيطان الصهيوني في الشرق الأوسط، فإذا أردنا أن نفهم كيف أن حرباً اضطلعت بوظيفة أساسية ودائمة في تاريخ المشرق المعاصر، لا بدّ أن نقارن بين مجموعتي العوامل الداخلية والإقليمية، ودرس التداخل فيما بينهما.

قاد هذا المنهج المؤلف إلى التعامل بروية مع العوامل الإقليمية، وإلى إبراز العوامل الداخلية، مهمشاً التفسيرات التي اعتبرت الحرب في لبنان انعكاساً لنزاعات إقليمية، لأنه يرى أن جزءاً مما هو إقليمي ينتمي فعلاً إلى التطور الداخلي للحرب، بمقدار ما تشكل هذه الحرب كلاً متكاملاً. فالممارسة السياسية والعسكرية للمقاومة الفلسطينية، والتدخل السوري العسكري يشكلان في مختلف أحوالهما، عناصر داخلية للحرب، مذ بدأت تؤثر بصورة منتظمة في آلياتها. كذلك فالحوادث المتعلقة بالاجتياحين الإسرائيليين في 1978 و1982 تندمج في إطار الديناميكية الشاملة للحرب. ولا شك أن هذه العوامل الثلاثة أدخلت في سياق الحرب عوامل خارجية صرفة، لأن الممارسات السورية والإسرائيلية، وفي درجة أقل الممارسات الفلسطينية في لبنان، تتكامل مع تطورات أخرى ينبغي تصنيفها في فئة النزاع العربي ـ الإسرائيلي، والاستقطاب الدولي.

ويرى المؤلف أن النظر إلى حرب لبنان برمتها، أي من خلال تطور الأحداث في الشرق الأوسط، بنظرة «الطائفة» وحدها، ألحقت أشد الضرر بالفهم التاريخي. ولا خلاف على البعد الطائفي للحرب في لبنان، فمنذ البداية بدت النزاعات الطائفية عناصر حاسمة. لكن أهمية «الجماعة الطائفية» جزئية لأنها تتيح تفسير بعض الرهانات وتفرض نفسها لفهم مضمون خطابات التعبئة ومرامي عملية التحشيد الجماهيري. لقد ألقت شبكة التفسيرات الجاهزة والعامة والدائمة على الطائفية تبعات سقطت أمام التدخلات الإقليمية والدولية.

يقتفي المؤلف أثر الحقيقة كما هي بدلاً من تخيلها. ويهتم باللاعبين أكثر من الاهتمام بالعوامل. لأن اللاعبين هم الذين يقومون بالعمل، لذلك فهم يتميزون عن العوامل بالقدرة على تجسيد الرهانات من خلال تصرف ملموس. وتطبيقاً لهذه النظرية عمل على دراسة التفاعل بين الساحتين الداخلية والخارجية عبر علاقات المواجهة أو التحالف المعقودة على المسرح اللبناني، من خلال لاعبين دوليين (سوريا، إسرائيل، ولبنان أيضاً) أو لاعبين شبه دوليين (منظمة التحرير الفلسطينية) ولاعبين ما دون الدولة (الطوائف والميليشيات والأحزاب والزعامات السياسية)، في إطار مكون من اتجاهات عابرة للبلدان (القومية العربية، النضال الفلسطيني المسلح..).

هؤلاء اللاعبون ليسوا ثابتين فهم يتعرضون للتحولات، وإن إدراكهم في الأمكنة التي يتحركون فيها، يتطور أيضاً، إلى درجة أن الموضوع الذي يتعاملون معه، أي لبنان، يتغير بدوره.

يعرض المؤلف يوميات الحرب اللبنانية بالتفصيل معتمداً على مرجع أساسي، وفق المنهج الذي قرره، وهو الصحافة اليومية التي كانت تنشر الأنباء والتصريحات حول الوقائع المستجدة، فيحللها ويناقش مؤثراتها، رابطاً بين الأحداث والسياقات التي تظهر لاحقاً، وتشكّل النتيجة التي على المؤرخ تتبعها وتوظيفها. لذلك تعتبر مادة الكتاب سجلاً للأحداث ومرجعاً، لحيادية المؤلف الذي مارس دور «شرطي السير» لتوجيه وتسهيل حركة المرور، والحؤول دون الاحتقان المعلوماتي، والاختناق الجدلي العقيم.

خلاصات الكتاب المعد في الأصل أطروحة دكتوراه، بعد هذا العرض الوقائعي، تطرح سؤالاً مركزياً حول هوية الحرب. هل كانت حرباً أهلية؟ حرباً غريبة؟ في الحالتين يرمى الشر إلى خارج ذاته. وفي الحالتين أيضاً تفضي خطابات التبرير والتعبئة إلى رفض تحمل المسؤولية عن الرهانات والنتائج. فإذا كانت الحرب أهلية، فتكون المسؤولية عندئذٍ داخلية، وتقع على عاتق القيادة الداخلية قبل الحرب، وتصبح التدخلات الخارجية ثوابت تلقائية بصورة حصرية. وإذا كانت غريبة، فتكون المسؤولية خارجية، والمقاتلون اللبنانيون أبطالاً أو خونة بالضرورة. أما مقولة «حرب الآخرين على أرضنا» فقد عممها بعد عودة السلام في عام 1990 بعض المسؤولين الذين شاركوا في الحرب تبريراً لارتقائهم السياسي في زمن السلم. أما صيغة «الحرب من أجل الآخرين» فهي على دقتها تحمل تضليلاً من خلال التعميم الذي تنطوي عليه، لأنه إذا كان النزاع اللبناني، من نواحٍ عدّة، حرباً من أجل الآخرين، فهو كان دائماً حرباً لذاته، وصورة ذاته. فحرب لبنان إذا وضعت في سياق هذا المفهوم تعتبر، بغض النظر عن تقلباتها، ديناميكية عنف أطلق عنانه تفاقم الانقسام الوطني الذي وصل إلى نقطة الانفصال، ديناميكية اندمجت في نزاع إقليمي دائم لن يتوانى عن أن يصبح أبرز مظاهر هذا النزاع. في المحصلة تؤكد نتائج البحث على ديكتاتورية الميليشيات على شعب كان موقفه منها سلبياً. فالرفض الشامل للعنف كان ظاهراً أثناء دورات العنف، مما يعني إجحافاً من وجهة النظر التاريخية، إدانة الميليشيات بالجملة قبل تحليل تبدلاتها. لذلك من الضروري الانصراف إلى درسها من الناحية الاجتماعية. ودرس انتروبولوجيا العنف كما طبقته الميليشيات. فالطوائف هي «مجتمعات مقاتلة بالفطرة» في مرحلة أولى. والتعبئة الطائفية تستنهض الجميع بشحنات عاطفية. ومع استمرار النزاع، أفضت ضرورة إضفاء شكل مجتمعي على لا مجتمعية الحرب، إلى تشريع المحاربين. وسرعان ما ارتفعت الميليشيات إلى ما فوق مستوى المجتمع الذي انبثقت منه لتتحول تدريجياً من «المجموعات الطائفية المحاربة» إلى «مجموعات طائفية ذات محاربين». والمحارب الذي يجسد التذمر يسعى لإطالة مدّة الحرب، ويبحث عن مآثر جديدة لإبقاء صورة البطل، ليس بالتجاوزات على أنواعها فقط بل بالتصعيد أيضاً. مما يشكل عامل ضغط في فترة الهدوء، فتصادر الميليشيا تحت ضغط أفرادها الطائفة وتستقل عنها وتتحكم في مصيرها من خلال احتكار قرار الحرب. قلا تعود الحرب عامل تلاحم ضد الآخرين بل تميل إلى أن تصبح عامل تقسيم، وبالتالي عامل هيمنة داخلية.

لم تكن الحرب ضرورة في لبنان، ولم يكن توالدها قدراً محتوماً، وأيّا كانت قوة آليات الحرب، فإن الحرب كانت مسألة اختيار. وكان من الممكن تجنبها. لكنها ما ان اندلعت بات من الصعب وقفها. فهل يتعظ حاضر لبنان بماضيه القريب ولا يمارس السياسة بوسائل أخرى.