سلطة الشرع .. وسلطة السياسة

سفير لبنان لدى مصر يكتب عن المدينة الإسلامية من منظور فقهي

TT

رؤية ربما تكون مختلفة للمدينة الإسلامية من منظور فقهي، عبر دراسة التغييرات التي طرأت في فضائها على مر العصور من زوايا سياسية واجتماعية ومعمارية، وقضايا الإصلاح والرقابة والفساد الذي اعتراها، وغيرها من القضايا يناقشها هذا الكتاب الذي حمل عنوان «الخسيس والنفيس.. الرقابة والفساد في المدينة الإسلامية»، لمؤلفه خالد زيادة، سفير لبنان بالقاهرة، وصدر حديثا عن دار «رياض الريس» ببيروت.

تتبلور رؤية السفير خالد زيادة للمدينة الإسلامية عبر خمس دراسات يضمها الكتاب، إضافة إلى تمهيد وخاتمة، يناقش من خلالها المؤلف وضع المدينة الإسلامية باعتبارها فضاء فقهيا استمر حتى مشارف القرن العشرين، كما يناقش دور الحسبة في محاربة الفساد، مستعرضا ظاهرة ازدواجية السلطة بين الدولة التي يمثلها الحاكم والمدينة التي يشرف على تسيير أمورها الفقهاء من خلال قضاء الحسبة، ومراحل تطور هذه الازدواجية، معتبرا أن هذه الإشكالية ما زالت مستمرة.

يقول الكاتب إن الرقابة في المدينة كانت بأيدي المحتسب حسب ما توحي به أعمال الفقهاء، خصوصا في رسائلهم الخاصة بالحسبة، فهو الذي يراقب الأسواق والمساجد والحمامات ويزور المقابر والسجون ويمنع حدوث المنكرات على ضفاف الأنهار، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن هناك أماكن أخرى يختص بشؤونها رجل الشرطة الذي كان يُعرف في ذلك الوقت باسم «صاحب العسس»، وعرف في الأندلس والمغرب باسم «الحاكم»، وعرف في مصر المملوكية باسم «الوالي». ويشير الكاتب إلى أنه في بعض الأحيان كان يحدث تداخل واسع في المهام والصلاحيات بين صاحب الشرطة من جهة، والمحتسب من جهة أخرى، إلا أنه يوضح أن الفقهاء كانوا يرسمون قواعد المدينة ونظامها ويقرون في الوقت نفسه بأن الرقابة في المدينة ليست من اختصاص المحتسب فقط، وبذلك كان يمكن وضع حد فاصل بين سلطتين تنازعان المدينة وهي سلطة الشرع ممثلة بالقاضي والمحتسب من جهة، وسلطة السياسة ـ حسب تعبير ابن خلدون ـ ممثلة بالحاكم وصاحب الشرطة.

يقول الكاتب: «المدينة كمكان كانت مقسومة بين هاتين السلطتين، فإذا كان المحتسب يراقب السوق وأهل الصناعات ويدقق في المنكرات وغير ذلك، فإن صاحب الشرطة يراقب بالدرجة الأولى حدود المدينة، وقد عكس هذا التقسيم ما يشير إليه من أن المحتسب عرف باسم صاحب السوق، أما صاحب الشرطة فاعتبر في النتيجة بمثابة صاحب المدينة، وفيما كان عمل المحتسب ينحصر في وقت العمل والصلوات من الفجر إلى العشاء، فإن عمل الشرطة كان بشكل خاص ليلياً، ومن هنا فقد سمي صاحب الشرطة باسم صاحب الليل».

من جهة أخرى، يشير السفير اللبناني في كتابه إلى انقسام سكان المدينة الإسلامية إلى أغنياء وفقراء، وهو ما عكسته وتعكسه الأدبيات المرتبطة بالمدن الإسلامية، إلا أنه أوضح أن الغِنى أو كثرة الأموال لم يكن الشرط اللازم للانضمام إلى الطبقات العليا، التي ضمت ثلاث فئات هي: رجال السلطة، رجال الدين، والتجار، فيما كانت الفئات التي تعاني من الاحتقار تشمل فئات متعددة، وبالأخص أصحاب المهن الوضيعة والمتكسبين والمتسولين وأصحاب العاهات.

ويصف الكاتب مشهد المدينة الإسلامية قائلا: «كان السوق الذي جدَّ الفقهاء في ضبط معاشه وأحواله موقعاً ممتداً للنشاط الإنساني من كل نوع، حيث يتضارب العمل باللهو والجد بالبطالة والخاص بالعام والنفيس بالخسيس».

ويستعرض الكاتب بعض ملامح اللهو في المدينة الإسلامية، مشيرا إلى أن الموانع الفقهية لم تستطع أن تقيد العامة الذين يطلقون لأنفسهم العنان في المواسم والأعياد، خصوصاً في المناسبات الدينية أو السلطانية، فتعتبر هذه المناسبات مواعيد للهو والتسلية. ويستشهد الكاتب بعيد النيروز (الربيع)، الذي يعتبر أحد الأعياد الفارسية وكان المصريون يحتفلون به. وكان العامة ينتخبون رجلا يسمونه أمير النيروز، فيطلي وجهه بالدقيق أو الجير ويطوف في الشوارع ممتطيا حمارا وعليه ثوب أحمر أو أصفر ويسير معه جمع كبير، ومن لا يدفع الرسوم التي يقررها يرشه بالماء القذر. وبرغم ذلك، يؤكد الكاتب، أنه لم يتم العثور في رسائل الحسبة، التي تعتني عادة بذكر أهل الحرف وصناعاتهم ذكراً لأرباب اللهو من بين أصحاب الصناعات، مما يعني أن الفقهاء أخرجوا أرباب اللهو من قوائم أهل الحرف والصناعات.

ويتناول كتاب «الخسيس والنفيس.. الرقابة والفساد في المدينة الإسلامية»، الجدل السائد في الفكر العربي حول مدى الارتباط بين الدولة والمدينة، موضحا أن الفكرة التي كانت سائدة هي أن الدولة وليدة مجتمع مديني وهو بدوره نتاج مدينة أو حاضرة متنامية، ويقول الكاتب «وهو ما نجد تأكيدا عليه لدى فلاسفة اليونان، وكذلك لدى الفارابي، الذي أخذ عنهم فكرته عن المدينة السياسية الفاضلة».

واعتبر الكاتب أن ما يعتبر أنه دولة المدينة في زمن الإسلام الأول، إنما يتضمن نوعا من الازدواج في المغزى، لأنه يعني على السواء نوع الحكم الذي انبثق عن مجتمع المدينة، ولأنه يشكل النموذج الذي صيغ لاحقا لمبدأ الدولة الإسلامية التي هي بمثابة مرجع أصولي.

ويوضح الكاتب الفرق بين دولة المدينة والدولة السلطانية أو الدولة القومية الحديثة، ليس فقط لأن كل نموذج من النماذج الثلاثة، يستند إلى أسس نظرية متباينة عن الأخرى، بل لأن كل نموذج له تجربة مختلفة وأزمنة متغيرة.

ويرى الكاتب أن العرب المسلمين بناة مدن، حيث بنى الفاتحون في العراق مدينتي الكوفة والبصرة، إلا أن نشأة بعض المدن ونموها يعزيان عموماً إلى فاتحين أو خلفاء أو سلالات حاكمة، مشيرا إلى أنه يمكن تمييز المدينة كمكان اجتماع ومسرح للإنتاج والعمل والسلطة.

ويخلص الكاتب في نهاية كتابه إلى التأكيد على أن الفقهاء ابتكروا وظيفة الاحتساب، أي الرقابة على الأسواق، وسعوا إلى توسيع نطاقها عن طريق إعطاء المحتسب صلاحيات واسعة لمنع كل فساد بما في ذلك مجالس القضاء، مشيرا إلى أن وظيفة الاحتساب لم تتحول إلى مؤسسة رقابة إلا حين تعلق الأمر بالكسبة والصناع والحرفيين والنساء والذميين.

ويؤكد الكاتب أن مراقبة مجالس القضاة اكتفت بالشكل دون التفتيش على أحكام القضاة ومدى مطابقتها لشروط العدل، حيث «لم يستطع الفقهاء أن ينشئوا نظاماً للعقوبات، فتركوا تقدير ذلك إلى المحتسب نفسه الذي كان يتطلب منه تأنيب المرتكب وزجره». ويرى أن الفقهاء حالوا دون جعل الاحتساب مؤسسة حصرية للرقابة حين أطلقوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعلوا من كل مسلم محتسباً ورجحوا الجوانب الأخلاقية والمبدئية على حساب إنشاء نظام متكامل للرقابة.