الشاعر الاسباني أنطونيو جامونيدا: أهدي القارئ العربي ديواني «الكذب»

زار دمشق ثم القاهرة فأدهشته صور الرئيس

الشاعر أنطونيو جامونيدا
TT

زار الشاعر الإسباني الشهير أنطونيو جامونيدا ـ أخيراً ـ دمشق والقاهرة واستمتع عشاق الشعر في البلدين بقصائده التي تجسد معاناة الإنسان المعاصر وأشواقه للحرية والعدل والحب. جامونيدا يعد حالياً أحد أكبر الشعراء الأسبان. نال العديد من الجوائز القيمة، آخرها جائزة سرفانتس في الشعر عام 2007 وجائزة الدولة التقديرية. عندما قابلته لإجراء هذا الحوار، كان وجهه مسترخياً استرخاءً زائفاً، مغمض العينين تقريباً، لكنه استرخاء يخفي إنهاكاً غامضاً كأن حال البشر قد أتعبه، وكذلك توتره وثورته الداخلية. إنه الصراع بين التمرد الذي يعد صفة أصيلة من صفات شخصيته، والالتزام الذي يريد أن يغلف به شعره.

داعبته ببعض كلمات إيطالية وفرنسية، فبادرني على الفور بأنه يعرف عدداً من اللغات، لكنه لا يحب أن يتكلم سوى الاسبانية -تضامنا مع لغتي- على حد تعبيره. ولهذا سار الحوار بالاسبانية بحضور المترجمة والإعلامية صفاء رجب التي وضعت كلماته الرشيقة في أسلوب عربي لا يقل رشاقة... وهنا نص الحديث:

> هناك نقاط تشابه بينك وبين سرفانتس، فكلاكما ولد من رحم المعاناة والعوز، وكلاكما كان نبيلا في أدبه. فقد تركت اسبانيا مثله بعد وفاة الأب وعشت في ليون. عرفنا صراع الفارس النبيل سرفانتس، في رائعته «دون كيشوت»، ونريد أن نعرف الآن صراع الشاعر النبيل جامونيدا. فما هي القضية التي تصارع من أجلها؟

- سرفانتس كان يبحث عن النبل لأن ظروف حياته اضطرت إحدى شقيقاته لأن تعمل عاهرة للحصول على قوت يومهم. فمثلاً كان لوب دي فيجا صاحب البيت الذي يعيشون فيه، يسيء معاملتهم، ويوجه لهم أقذع الألفاظ. وكان سرفانتس في غاية الفقر، ورغم هذا، كان يكتب بنبل حقيقي. لم يتلق سرفانتس ما يكفي من التعليم بسبب سوء حالته الاقتصادية، ولكن هذا أيضاً لم يظهر في أعماله. أي أن نبل الرسالة الإبداعية ليس متوقفاً على حياة المؤلف، قاصاً كان أو شاعراً. العالم كله ينبغي أن يكون نبيل المقصد بغض النظر عن ظروف الحياة.

> ما هي قضيتك كشاعر، إن كان على الشعر أن يحارب؟

- ليست هناك فكرة مجتزأة، لأن الأدب هو التعبير عن مكنون كل شخص، عن حياته الداخلية، بما تحمل من قضايا متعددة. وعندما يقرأ الآخرون هذا الأدب، فإنه يترك أثراً في نفوسهم. الأدب ما هو إلا ظاهرة كبرى، تتلخص في السرد، في الخيال، ويظهر هذا جلياً في الرواية. ولكن الشعر له وضع خاص، فهو تعبير عن الوجود والحالة الحقيقية للنفس، لذلك فهو يختلف عن كل أشكال الأدب، لأنه يعبر عن المعاناة والصراع، عن الحب والكره، بشرط أن يكون نابعاً من داخل الشخص. لذلك فالشعر أكثر واقعية من الرواية.

> نعرف أنك تدير مؤسسة لرعاية العمال والفلاحين الفقراء في أسبانيا، تشرف على تعليمهم وتثقيفهم، هل لا بد أن يكون الشاعر ملتزماً بقضية معينة في مجتمعه؟ وما هو موقفك الفكري من العمال والفلاحين الذين ترعاهم؟

- القيمة الشعرية ينبغي أن يكون لها ضمير وسلوك لخدمة الحياة، ليس فقط بالنسبة للشاعر إنما لجميع البشر. ومن يفكر أن الشاعر وحده هو الذي يجب أن يكون له ضمير وسلوك في خدمة الحياة، فهو مخطئ، لكن الشاعر عليه مسؤولية أكبر. الشعر ليس هروباً، وإنما هو حرية الحياة التي لها جذور وجودية أساسية.

> ترجمت إلى الإسبانية أعمال ناظم حكمت الشعرية، فما الذي أثارك في الشعر الشرقي، ولمن قرأت غيره من شعراء المشرق؟

- لم أترجم ناظم حكمت من التركية، لأنني لا أعرفها وإنما من الفرنسية، معتمدا على ترجمة حسن غرك. وهو فرنسي من أصول تركية، قام بالترجمة مع ناظم حكمت، فقد كنت أراهما يجلسان معا ويتبادلان الرأي في الترجمة. أما بالنسبة للسبب الذي جعلني أقدم على ترجمة هذا العمل فهو أن الشعر له شرط أساسي، وهو أن ينبع من الحقيقة الداخلية للشاعر. ناظم حكمت استطاع أن يجسد معاناة الآخرين ويعبر عنها كأنها معاناته الشخصية. وهو ليس أمراً سهلاً، فمن يعبر عن آيديولوجيا سياسية لا بد له من طاعة الآيديولوجيا والحزب. ولم يفعل ناظم حكمت هذا، وإنما عبر عن معاناة الآخرين بشكل صحيح وعادل.

> لمن قرأت من الشعراء العرب، ومن منهم أعجبك؟

- جبران بالطبع، قرأته منذ وقت طويل. وأعجبني الشاعر العراقي سعدي يوسف، وأدونيس، وشاعر لبناني يعيش في فرنسا هو صلاح ستيتية.

> سبقك إلى القاهرة الكاتب الإسباني جويتسولو، الذي يرى أن المجتمع العربي يعيش أزمة سببتها له فترة حكم طويلة تميزت بالاشتراكية العلمانية، ونحن نشهد حاليا موت الاشتراكية موتاً سريرياً، وكذلك الشيوعية. في رأيك، ماذا يمكن أن تكون عليه آيديولوجية الغد؟

- لا أتفق مع جويتسولو، وأرى أن الاشتراكية ليست وحدها التي ماتت، وإنما الرأسمالية أيضاً، لأنها حاولت الحفاظ على مكاسبها، وحرصت على أن يظل ثلاثة أرباع العالم يعيش في الفقر. لا الاشتراكية ولا الرأسمالية، ولا ما يسمى بالرأسمالية الجديدة، عملت لصالح البشرية. فلا يزال الفقراء يعيشون في ظل هذه الآيديولوجيات، والسلطة هي قوة المال. لا أعتقد أن الرأسمالية يمكن ان تحل مشاكل البشرية، فكل ما تفعله أنها تقدم «حلوى» للناس كأنهم أطفال لكي تضحك عليهم، وتقنعهم بالدين الجديد، المتمثل بالنزعة الاستهلاكية. ترى اليوم من يبلغون الخمسين، ومن دونهم عمراً، منشغلين ليل نهار في الاستحواذ على السلع الاستهلاكية: سيارات، تلفونات، ملابس. إنهم لا ينامون الليل كي يستطيعوا سداد فواتير البنوك. ولا بد أن يصل هؤلاء إلى مرحلة من التعب والفقر الشديدين، قبل أن يفكروا في طرح آيديولوجية جديدة يمكنها أن تحل مشاكلهم. لذا أتوقع مزيداً من سوء الحال قبل أن تظهر آيديولوجية جديدة.

> ما أحب شعرك اليك الذي تود تقديمه للقارئ العربي؟

- قصيدة واحدة، لكنها تتكون من 90 صفحة. هي ديوان «وصف الكذب» الذي نشرته عام 1970، وقد كتبته بعد موت الجنرال فرانكو. خامرني إذ ذاك شعوران: داخلي وخارجي. الداخلي هو أننا يجب أن نحارب تلك الاتجاهات الاستبدادية، والخارجي هو أننا يجب أن ندينها في كل مكان. لقد كنت في زيارة لسورية، ولا أريد أن أهاجم النظام السوري، ولكنني أرى هناك نوعا من التأليه لصورة الرئيس، الموجودة في كل مكان. وهذا خطأ كبير، ولا يجب أن تفعل الشعوب ما فعله الروس مع ستالين، فلا يجب تقديس الحاكم بأي شكل. وأتصور أن ذلك الميل عند العرب نابع من ميلهم أصلا لتقديس الأشياء، خاصة كل ما له علاقة بولي الأمر. ولكن الطريق إلى الديمقراطية مختلف تماماً. وأعود لأوكد أنني لا أقصد مهاجمة الرئيس السوري، ولكنني ضد التابوهات الدينية. فالشاب الذي يرتدي حزاماً ناسفاً ويفجر نفسه، يقدم صورة للعطاء، لأنه يبذل روحه فداء لوطنه، لكن موقفه ليس صحيحاً، وينبع من راديكالية، ترسخ فكراً دينياً خاطئاً، تجب محاربته داخل كل منا.

> سألته عن موقفه من المرأة، بخاصة أن زوجته كانت ترافقه، فقال ضاحكا إنه يعرفها منذ كانت طفلة، وإنها حبه الوحيد. «ولكننا مثل الشعوب العربية، لدينا روحانيات عالية، وفي نفس الوقت أخطاء كثيرة. وهناك دائما، ورغم الحب، صعوبات في التوافق بين الرجل والمرأة، بسبب اختلاف الطبائع. لا بد أن شخصيتي الصعبة وميلي الدائم للتمرد هما اللذان يخلقان المشكلات». ووافقته زوجته، مؤكدة أن التعايش بين الزوجين يفترض وجود مثل هذه المشاكل، وهي طبيعية.