استعادات لذاكرة الحرب

غسان شربل في حوارات مع 4 رؤساء أصابتهم «لعنة القصر»

TT

اختار الزميل غسان شربل في كتابه الحواري الجديد أربعة أسماء تربط بينها لعنة القصر. أربعة رؤساء هم الهراوي وبري والحريري وعون. التقاهم المؤلف مرّات عدّة وحاورهم وكانت الحصيلة اعترافات وروايات. لم يجرِ المؤلف أي عملية تحديث أو تشذيب على الحوارات، ولم يدخل أي استنتاجات، لأنه رأى أن المقارنة والاستنتاج هما من حق القارئ. وكان الحوار مع الرئيس رفيق الحريري هو حصيلة لقاءات متباعدة معه بدأت في سردينيا صيف 1999، وكان آخرها في بيروت قبل أسابيع من اغتياله. كان الحريري قد اشترط موافقته المسبقة على توقيت النشر. وشاءت يد الجريمة أن يغيب الحريري قبل استكمال هذه الحوارات.

يكتسب الحوار الصحافي أهميته، ويصبح شهادة تاريخية، ومادة حية في تصرف الباحثين والمهتمين، حينما يتمكن الصحافي من أن يصبح طرفاً في الحوار، يستخرج المعلومات والأسرار، ويستدرج المتحدث إلى الكشف عمّا يحاول تغطيته وما يحاول أن لا يبوح به من غاياته ومنهجه وخياراته.

كتاب الصحافي غسان شربل «لعنة القصر» المتضمن حوارات مع رؤساء لبنانيين أربعة أصابتهم لعنة القصر يندرج في هذا السياق، فهو شهادة ومادة على مرحلة ما زالت تتفاعل في الميدان اللبناني والإقليمي، وفي المدى الدولي.

بعض التواريخ لا يسقط من الذاكرة، وتاريخ لبنان الحديث حافل بالنهارات المؤلمة والقاتلة، لكن يوم 14 شباط (فبراير)2005، يبدو أنه الأشد وطأة وهولاً. في هذا اليوم وضع لبنان على خط الزلازل باغتيال رفيق الحريري «الرجل الذي لا يتسع له المكان»، زعيم المعارضات اللبنانية. اشتعل لبنان بالمخاوف والمواقف، وتلقّى، ولا يزال، آثار الكارثة وذيولها وارتداداتها. فذلك اليوم قصم ظهر لبنان إلى أجل طويل. وتلك الكارثة أعطت لهذه الحوارات الصحافية التي أجراها غسّان شربل في سلسلة «يتذكر» مشروعية إصدارها في كتاب، لتكون في متناول الباحث والمؤرخ.

اختار المؤلف أربعة أسماء تربط بينها لعنة القصر. أربعة رؤساء هم الهراوي وبري والحريري وعون. التقاهم المؤلف مرّات عدّة وحاورهم وكانت الحصيلة اعترافات وروايات. لم يجرِ المؤلف أي عملية تحديث أو تشذيب على الحوارات، ولم يدخل أي استنتاجات، لأنه رأى أن المقارنة كما الاستنتاج هي من حق القارئ.

الياس الهراوي ذاكرة مثقلة بالمحطات والانجازات والأزمات والخيبات. رجل جريء وصريح وعفوي. وهو صاحب أول عهد رئاسي بعد اتفاق الطائف، قاد البلاد لتسع سنوات (1989 - 1998) بصلاحيات رئاسية مختزلة. لم يتردد في اتخاذ قرارات صعبة، شارك أقوياء وواجه أقوياء. كان يعاند مرّة ويناور مرّة أخرى ليحجز للرئاسة موقعاً همّشه اتفاق الطائف، ولنفسه دوراً في لعبة شديدة التعقيد لا تفسح في المجال لأكثر من انتصارات محدودة وهزائم صغيرة تمدد لتوازنات وتجاذبات تحتاج دائماً إلى رعاية الراعي كي لا تتحول الى أزمات مستعصية.

ترأس مجلساً للوزراء يضم بين أفراده مجموعة من «جنرالات الحرب». ورغم الأزمات العاصفة تكلل عهده بإنجازات: إعادة توحيد المؤسسات، ونزع سلاح الميليشيات، وإطلاق عملية إعادة الاعمار، ومحاولة احتواء التدهور الاقتصادي، وإعادة لبنان إلى الخريطة الدولية، ودعم المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي وغيرها.

روى الرئيس الهراوي في هذا الحوار قصّة إزاحة العماد عون من قصر بعبدا، وكشف بأنه نصح سمير جعجع قائد «القوات اللبنانية» بمغادرة البلاد فأبى، فأصبح سجيناً في وزارة الدفاع. تحدث عن الحكومات واعتبر قرار المجيء برفيق الحريري رئيساً للحكومة صائباً، ونفى أن يكون أحرق رؤساء الحكومات من أجله. وكشف. وأكّد أن الجيش التزم أوامر السلطة السياسية في عهده، ونفى أن يكون سعى إلى إزاحة قائده يومذاك العماد إميل لحود.

يكشف الهراوي التطورات التي أدت إلى انعقاد مؤتمر الطائف، ويصرّح بأن الثوابت التي نوقشت في المؤتمر، جاءت من مناقشات اللجنة الثلاثية التي ضمّت السعودية والمغرب والجزائر. ويعترف أنه هو الذي اتخذ قرار إزاحة عون بالقوة رغم اعتراض بعض الوزراء والسفيرين الأميركي والفرنسي، بعد أن رفض الأخير تعيينه «سوبر وزير». ويوضح بأن حرب الكويت هي التي سهّلت الأمور لأن الأنظار كانت مشدودة إلى هناك. أما بالنسبة لتوزير سمير جعجع فقال بأنه كان بناء على طلب الرئيس الأسد الذي نصحه بإشراك كل الأفرقاء واتباع سياسة عفا الله عمّا مضى.

أمّا بالنسبة لتكليف الرئيس رفيق الحريري فقد فرضه الوضع الاقتصادي. كان لديه مشروع وكنّا شركاء في الأهداف. لكنه كان صعباً لأن ما يريده يجب أن يتحقق حتى لو كان الرأي العام غير راض عنه.

كانت الثمانينات العقد الأكثر خطورة في تاريخ لبنان، ففيه بلغت حروب اللبنانيين ذروتها، والأمر نفسه بالنسبة إلى الحروب على الورقة اللبنانية. في خضم هذه العواصف انتهت زعامات وتكرست زعامات. وظهر نبيه بري لاعبا تحمل المحطات المفصلية مذاك بصماته.

يقول المؤلف: لا تكتب قصة الأحداث التي عصفت بلبنان منذ مطلع الثمانينات من دون التوقف طويلاً عند دوره. ويبقى التاريخ ناقصاً ما لم يفتح ذاكرته.

أنصاره كثيرون وخصومه كثيرون، وهو في المعادلة اللبنانية رقم صعب يتعذر شطبه ويستحيل تجاهله. في 6 شباط (فبراير) 1984 وجّه بري الضربة القاتلة إلى الجمهورية الأولى. منذ ذلك التاريخ بدأت عملياً المفاوضات لإعادة صياغة النظام اللبناني، وتوزيع المقاعد، والصلاحيات، والحصص. في عام 1992 سلمته الجمهورية الثانية مطرقة رئاسة مجلس النواب، ولا يزال. بعد الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان والعاصمة عام 1982، وفي خطوة تكتيكية لحماية الكوادر المكشوفة والمعروفة من الاعتقال، حلّ نبيه بري حركة أمل، وأنشأ تنظيماً للمقاومة تحت الأرض يقوم على أسلوب الخلايا الثلاثية العمودية. واستهدفت العملية الاستشهادية الأولى مقر الحاكم العسكري في صور، والثانية التي نفذها بلال فحص وكرت العمليات. يكشف بري في هذا الحوار كيف استعصت الضاحية على الاجتياح الإسرائيلي، وكيف تكونت عناصر الانفجار في 6 شباط (فبراير) 1984 لتنقل الصراع من العصر الإسرائيلي إلى العصر العربي. لكن ما تلا ذلك من حروب الحلفاء أجهض النتائج. ويروي بري كيفية اعتقال الطيار الإسرائيلي رون أراد، وخلفية حرب المخيمات. وعلاقته بالحليف اللدود وليد جنبلاط. وعن اختطاف ركاب طائرة الـ «تي.دبليو.آي» من خاطفيهم بعدما أدرك خطورة الموضوع.

ينتقد بري صيغة «الترويكا» لأنها غيبت المؤسسات، ويصف علاقته بالرئيس الحريري بأنها علاقة ود مع اختلاف في الرأي.

الحوار مع الرئيس رفيق الحريري هو حصيلة لقاءات متباعدة معه بدأت في سردينيا صيف 1999، وكان آخرها في بيروت قبل أسابيع من اغتياله. كان الحريري قد اشترط موافقته المسبقة على توقيت النشر. وشاءت يد الجريمة أن يغيب الحريري قبل استكمال هذه الحوارات.

تردد المؤلف في نشر هذه الحوارات تخوفاً من أن يؤدي التهاب المشاعر إلى تحميل بعض الكلام ما لم يُرده المتحدث أصلاً. لكنه قرر النشر تحية للرئيس الحريري، ولعل هذه الحوارات تفيد القارئ الباحث عن تفاصيل مسيرة شخصية استثنائية. لم يتوقع الرئيس الحريري أن يكون هدفاً للاغتيال، «لأن أي قرار باغتيالي هو قرار كبير وخطير ومكلف لا يمكن أن يتخذه شخص عاقل». وقال: «أما محاولات اغتيالي سياسياً فلم تتوقف ولن تتوقف، وهي تستهدف إبقاء البلد مريضاً. لا مصلحة لهم في موت المريض، ولا يقبلون بشفائه». وحين سئل إن كانت الموافقة على التمديد للرئيس لحود تشبه تجرع كأس السم، رد سائلاً: «من تجرع السم أنا أم البلد»؟. وأكد في اللقاء الأخير مع المؤلف حاسماً: «لن أكون رئيساً للحكومة في عهد لحود، ولا في أي عهد يشبه عهد لحود، أي عهد يأتي بالطريقة نفسها وبالهدف نفسه وبالحسابات نفسها». وقال:«لم استطع التفاهم مع الرئيس لحود لأن مشروع لحود، منذ البداية، كان موجهاً ضد البرنامج الذي على أساسه توليت رئاسة الوزراء». كما نفى الحريري أن تكون له أي بصمات على قرار مجلس الأمن رقم 1559، معتبراً أنه كان يمكن تفادي القرار حتّى آخر لحظة.

تكشف الحوارات قصة نشأته وطريقه إلى النجاح والثروة، والمبادئ التي انطلق منها في عمله السياسي. فاسم هذا الرجل يتكرر في روايات محاولات الخروج من الحرب، رغم حرصه على إبقاء دوره بعيداً عن الأضواء. فكيف نجح الحريري في التحول إلى قطب في مرحلة لا تسمح بوجود أقطاب في لبنان، فهل قوته المالية وراء ذلك؟ أجاب الحريري: «لا أنكر أن المال إذا أحسنت استخدامه يمكن أن يعطيك فرصة، تستطيع بمالك شراء قصر لكنك لا تستطيع بالمال وحده شراء محبة عامل في حديقة القصر. هناك الثقة والمتابعة والمقدرة على إثارة الأمل لدى الناس».

الحوار يكشف جوانب كثيرة غامضة، ويضيء أسئلة لم تستكمل. فالرجل كان يحلم بعد إعادة إعمار بيروت بإعادة إعمار المعادلة اللبنانية إنطلاقاً من اتفاق الطائف. غالب الظن كان ينتظر رئيساً آخر في بعبدا ليستأنف مسيرة الإعمار. ولم يتوقع أن يكون على لائحة الاغتيال لأن «هذا القرار كبير وخطير ومكلف». هذه المرّة أخطأ الحريري، لم ينتبه لقوته الضاربة التي لم تعتد المعادلة السياسية في لبنان التعامل معها أو احتمالها.

جرى الحوار مع الجنرال عون في منفاه الفرنسي. كشف من خلاله ما جرى في اليوم الأخير من عهد أمين الجميل وكيف تم تكليفه لرئاسة حكومة انتقالية. وعن خلفيات الصدام بين الجيش و«القوات اللبنانية». وتحدث عن حرب التحرير ضد السوريين لأن «لبنان لا يحكم من دمشق». وكشف تفاصيل عن عروضات سخية قدمت له منها رئاسة الجمهورية، ومنها 30 مليون دولار لمغادرة قصر بعبدا. لكنه رفض كل العروض لأنها «كانت تطرح حصتي في الدولة بدلاً من البحث في مصير وطن، بمعنى أن أشارك في الحكم في مقابل التخلي عن رفضي». ويكشف خلفيات وتفاصيل خروجه من قصر بعبدا ولجوئه إلى السفارة الفرنسية، ثم إلى منفاه الباريسي. كما تطرق الحوار إلى السلام المقترب من المنطقة، وتصوره للبيت الجديد في الشرق الأوسط وخوفه على لبنان الموجود على طاولة المفاوضات.

هذه الحوارات تتضمن تفاصيل كثيرة ودقيقة برسم الباحثين والمؤرخين، وبرسم المقارنة مع ما استجد بعدها. فهل نتوقع من اللبنانيين الإفادة من ذاكرة الحرب؟ لعلهم يتذكرون.