شبان الضواحي: «الفرلون» لغتهم و«الغرافيتي» طريقهم للعالمية

بعد 100 عام من الهجرة

TT

يزداد القلق منهم في اوروبا كلها. فعدد المسلمين بحلول عام 2050 يكاد يشكل نصف سكان القارة الأوروبية. في فرنسا بلغ عدد المسلمين 6 ملايين، ويبدو انهم يتكاثرون بسرعة. الجيل الثاني من المهاجرين العرب ومعهم أفارقة وبرتغاليون أيضاً، لم تفلح الحكومات الفرنسية المتعاقبة في دمجهم أو احتوائهم، وإن كانت أوروبا كلها تعاني هذه المحن الثقافية-الاجتماعية، فإن فرنسا تكاد تكون نموذجاً ممتازاً لمعاينة هذه الظاهرة، وتجلياتها وأساليب التعبير التي يمارسها الجيل الثاني، لفهم ما يريد، وسبب هذا الصدام المتصاعد معه؟

هل تعتبر نفسك ضليعا باللغة الفرنسية؟ مهما كانت إجابتك، فهذا لن يمنعك من أن تبدو «كالأطرش في الزفّة» وأنت تستمع لشباب الضواحي وهم يتجاذبون أطراف الحديث بتلك اللغة الخاصة بهم التي تبدو كالرموز المشفرة والمسماة بـ«الفرلون». مثلها مثل لغة «السْلانغ» التي نشأت بين الامريكين السود. بضواحي نيويورك في السنوات الستين، فإن «الفرلون» التي ابتكرها شباب الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين العرب، الأفارقة والبرتغاليون أثارت عند ظهورها الكثير من القلق ووصفت بأنها تشويه خطير للغة الفرنسية وانعكاس للضعف اللغوي الذي يُعاني منه الشباب المنحدر من الهجرة. باحث اللسنيات «آلان بن تولينا» يرى أن هذه اللغة التي يلجأ إليها الشباب في كلامهم «هي سجن كبير يكرس فشل المؤسسات التربوية في احتوائهم، وشدّهم نحو التعليم، والنتيجة انقطاع الصلة بين هؤلاء الشباب واللغة الفرنسية الفصحى». اما البروفسور جان بيار غودايي من جامعة السوربون ومؤلف كتاب «كيف تتحدث؟» (دار نشر مزونوف ولاغوز) فهو يرى «أنها وإن كانت بمثابة التوابل التي تعطي نكهة لامتزاج الثقافات التي يعيشها الشباب في محيطهم، إلا أن وجود هذه اللغة الخاصة هو أيضاً تعبير عن التهميش الذي يعانون منه. فهم يتخذون لأنفسهم لغة خاصة لأنهم واعون أن المجتمع يضعهم على الهامش، وكأنهم يرّدون عليه بالمّثل حين يجعلونها تعجّ بالرموز والإيحاءات الغريبة التي لا يفهمها غيرهم. والهّوة اللغوية مضاعفة مع الهوة الاجتماعية قد تكّرس «الغيتوهات» الثقافية التي يوضع فيها هؤلاء». جوليان مدرس اللّغة الفرنسية في ضاحية «كليشي سو بوْا يقول انه احتاج إلى ست سنوات كي يتمكن من التآلف مع هذه اللغة، ويفهم كلام تلاميذه، وقد وجدها لغة عنيفة وسوقية جداً، وإن كان يعترف بتنوع مصطلحاتها إلا انه لا يقبل بتداولها في الأقسام، لأنها تبقى لغة فقيرة جداً». انتشار هذه اللغة بين شباب الجيل الثاني يثير ردود فعل متناقضة، فإلى جانب الهواجس والانتقادات، يوجد الإعجاب والاهتمام والتفّهم، والكّل يتفق على أن خصّوصية هذه اللّغة تكمن في كونها علامة ممّيزة لهذه الشريحة من المجتمع، تعلن عن اختلافهم وإرادتهم في التحرر من سلطة الكبار، وأساتذة ومربين، وهي عالمهم الخاص الذي لا يجوز لأحد الدخول فيه. ولهذا كان أول رّد فعل لتلاميذ بثانوية في ضاحية «إفري» الباريسية حين عرض عليهم أساتذتهم المساهمة في تأليف قاموس خاص بلغة الضواحي أن رفضوا بشدة مُحتّجين: «هذا سيجعل آباءنا يفهمون كل ما نقوله».

المعجبون بهذه الظاهرة يقولون ان شباب الضواحي، ابتكروا لغة جديدة بقواعد تكاد تكون علمية، فهي غالباً ما تعتمد على قلب موضع المفردات كأن تصبح كلمة parents التي تعني الوالدين: remps، أو كلمة bizarreالتي تعني غريب: zarbi ، كما تعتمد على استئصال الجزء الأول من الكلمة كأن تصبح كلمة problème التي تعني مشكلة: blème والعكس، أي أن يتمّ حذف الجزء الأخير من الكلمة فتصبح كلمة association مثلاً التي تعني جمعية: assoc. لغة الضواحي تمتزج باللّغات الأصلية للمهاجرين، وتستلهم منها مصطلحاتها وخاصة اللّهجات المغاربية العربية التي أضحت تدخل في كثير من التعابير كأن يقال:je kiffe من كلمة «أتكيف» أي استلطف أحداً، وكلمات أخرى شائعة الاستعمال مثل: البلاد، شوية، الحشومة، واش، زعما، إلخ. وللانجليزية في هذه اللغة الجديدة حصة، فقد أصبحت تدخل في كثير من مفردات الضواحي، بالإضافة إلى استعمال كلمات فرنسية قديمة جدًا بإعادة إحيائها بعد أن كادت تخرج من القاموس الفرنسي إلى الأبد. لغة الضواحي لا تخلو من الطرافة والتمّيز، خصوصا بأساليبها التشبيهية التي لا نجدها في الفرنسية الفصحى. فالفتاة الجميلة هي «غزالة» أو «قنبلة» والرجل البخيل هو «ملقط» والشرطة هي «الدجاج». تميز هذه اللّغة جعل منها مادة بحث مهمة لخبراء اللّسانيات الذين يعتبرونها أهم الظواهر الاجتماعية-الثقافية التي عرفتها المجتمعات الغربية المستقبلة للهجرة في العقود الثلاثة الأخيرة. كل الأبحاث ابتداء من تلك التي أنجزها البروفسور «وليام لابوف» حول لغة «السلانغ» الخاصة بالأمريكيين السود في السنوات الستين إلى تلك التي أنجزها باحثون فرنسيون حول لغة «الفرلون» تؤكد أن اللّغات الخاصة بأجيال الضواحي ليست نسخة فقيرة من اللغة الرسمية بل هي ابتكار فريد مهمته رسم معالم ممّيزة لهويتهم، والدليل أنهم لا يستعملونها حين يندمجون في وسط مهني أو اجتماعي جديد.

إذا لم يتسّن لك التّعرف على لغة «الفرلون» لن يفوتك الاستدلال على المظاهر الأخرى لثقافة الضواحي: تنانير فوق السّرة، مساحيق كثيرة على وجوه الفتيات، سراويل عريضة هابطة، تخالها على وشك الوقوع، وأحذية رياضية وقبعات من ماركات معروفة واكسسوارات كثيرة من ساعات وحلق، تكسو أجساد الذكور منهم. ميثاق شرف يربط علاقات بعضهم ببعض، يأتي على رأس بنوده التمّرد على الأطر الرسمية التي يرونها غير مناسبة لوضعهم وذهنياتهم. فهُم يبجّلون لاعب كرة القدم ومغني الراب الذي يعتبرون نجاحه بمثابة تكريس «للحلم الأمريكي»، وينبذون وجه السلطة الذي يمثله الأستاذ ورجل الشرطة. كثير منهم فريسة سهلة للعنف والانحراف بسبب التهميش والبطالة، التي تصل في هذه الأوساط إلى 40%، حتى أصبحت أخبارهم لا ترد إلا وهي مقرونة بأحداث الشغب. آخرون فضّلوا المقاومة والتمرد بإطلاق العنان لإبداعاتهم الفنية التي هي بمثابة الماركة المسجلة لطابعهم الثقافي. فبالإضافة إلى كل أنواع فنون الهيب هوب المنتشرة كالراب، البريك دانس، ديجَاينغ، السكراتش، ألغ.ن.بي، المطبوعة غالباً بالخشونة والصخب، كثير من الألوان الفنية الجديدة أتت لتغير ملامح «فنون الضواحي» بفضل طابعها الشاعري الرقيق غير المعهود في هذه الأوساط وأهمها فن «السْلام» الأمريكي المنشأ والذي يقترب من الشعر الشعبي الفلكلوري، حيث يُمنح الشباب فرصة التعبير عن أحاسيسهم ومعاناتهم بالكلمات التي تشبههم بكل حرية، في أماكن عامة بعيداً عن قيود وأحكام الدوائر الثقافية والفنية الرسمية.

في غياب المعاهد الفنية التي ظلت أبوابها موصدة في وجه أجيال الهجرة لأسباب مختلفة، منها ارتفاع التكاليف وصعوبة الالتحاق بها، يجد شباب الضواحي في الشوارع متنفساً لتعبيراتهم الفنية. وهم يتخذون من الجدران الإسمنتية مساحة لامتناهية لإبداعاتهم الناشئة التي لم تجد من يرعاها ويأخذ بيدها، فأينما حللت وجدت رسوم «الغرافيتي» أو «التاج» تكسو بألوانها الزاهية، تلك الأجواء القاتمة للأحياء الشعبية. رسوم غريبة تجمع بين السوريالية وفن المانجا الياباني، وهي لهذا تحسب على «الفنون الحضرية» التي كان إبداع الشباب المتمرد وراء ظهورها، ولا غرابة إن كانت صرخة الغضب تظهر من خلال رشاشة الألوان التي تستعمل هنا كقنبلة لتفجير الطاقات الفنية بدل الفرشاة والألوان الزيتية المعهودة. إنهم فنانون من طراز خاص لا يوقِعون على رسومهم بأسمائهم الحقيقية، ويتخذون من الشوارع المفتوحة ورشاً متنقلة لهم وعادة ما يقضون وقتهم في لعب لعبة «القط والفار» مع أعضاء الشرطة الذين يطاردونهم. وإن أحببت لقاء أحدهم أو التعرف على أعماله، فلا تطلب اسمه أو عنوان معرضه ويكفيك موعد في آخر لحظة في مكان مهجور حتى تتعرف على رسومه، كقصة ذلك الفنان الموهوب الذي ظلّ طويلاً يوقّع على رسوم يتركها على قاطرات المترو باسم «أمُورْ» حتى احتارت الصحافة والبوليس في أمر هويته الحقيقية إلى أن اكتشفت مجلة «ليبرسيون» أن اسمه الحقيقي هو جان لوك درياز. علماً أن الغرافيتي أو الرسم الجداري في أماكن عامة كمحطة المترو، أو جدران الشوارع ممنوع وجريمة يعاقب عليها القانون بغرامة مرتفعة. وقد طالبت شركة النقل الفرنسية سنة 2006 في قضية مشهورة 60 رساماً جدارياً من الشباب بتعويضات مالية تبلغ مليوناً ونصف يورو لتغطية تكاليف تنظيف القاطرات. باحث علوم الاجتماع هوج بازان يقول: «الغرافيتي هو فن المتناقضات، الحكم على جانبه الجمالي دون اعتبار للجانب الفوضوي الغامض الذي يميزه يعتبر خيانة لروح هذه الظاهرة الفنية». هذا لم يمنع فنانين كثُر من الخروج إلى العلانية والانتقال لعرض أعمالهم في اكبر القاعات، وفي وضح النهار كما هو حال اندريه 37 سنة، البرتغالي الأصل الذي بدأ الرسم على قاطرات المترو وسكك الحديد المهجورة، موقعاً على رسومه دائما بـ Mr A إلى أن فتحت له قاعات العرض الفنية أبوابها، فأصبح صيته ذائعاً، يعرض أعماله في قاعة طوكيو الباريسية الشهيرة ويتعاقد مع أكبر شركات المحمول اليابانية للتوقيع على الهواتف برسومه. وهذا ما آل إليه حال رسامين أمريكيين معروفين أمثال: تاكي 183 وجون ميشال باسكيا من شهرة عالمية بعد أن مارسوا أول «إبداعاتهم الفنية» على قاطرات المترو النيويوروكي. النجاح كان على الموعد أيضا مع غناء «الراب» ونجومه الذين نشأ معظمهم في الضواحي ومن أصول أجنبية، حتى أصبحت أكبر واردات شركات الإنتاج تأتي من مبيعات أغاني الراب التي تسجل أعلى الأرقام مقارنة بالأجناس الموسيقية الأخرى. الآن وبعد عشرين سنة من ظهوره، أصبح «الراب» الفرنسي الذي كانت بدايته متأثرة بالطبعة الأمريكية، ذات نكهة محلية متمّيزة، أقل عنفاً وأكثر تركيزا على أزمة الهوية والمعاناة من العنصرية والتهميش بدل مواضيع الجنس والجريمة التي يكثر ورودها في نظيره الأمريكي.

بقيت الإبداعات الفنية لشباب الضواحي منبوذة طويلا من طرف الدوائر الثقافية الرسمية، لا ينظر إليها إلا على أنها نتاج ثقافة سوقية، كما أن المهرجانات التي تقام على شرف هذه الفنون قليلة لا تكاد تعّد على أصابع اليد، إلا أن الاهتمام بهذه الفنون باعتبارها وسيلة لإدماج هذه الشريحة من الشباب في المجتمع هي فكرة جديدة يتم العمل عليها، والمشاريع التي تشجع إبداعاتهم في تزايد مستمر.

فهناك مشروع «المركز الثقافي التجّمعي» (C.C.O) بمدينة ليون الفرنسية، حيث تهتم عدة جمعيات بتنمية مواهب شباب الضواحي ممن يظهرون ميولاً لفنون الهيب هوب، الرسم الجداري، التمثيل... إلخ، وهي تقوم بمساندة من يريد الاحتراف منهم بتقديمهم لأهم المؤسسات الثقافية والفنية في البلاد. وكذلك مشروع «شبكة ضواحي أوروبا» الذي بدأ سنة 2001 بتمويل من المجموعة الأوروبية ويمتد ليشمل كل دول المجموعة التي تعرف ضواحيها نفس الظاهرة، يشرف عليه مفكرون جامعيون، فنانون وسياسيون مُهمتم التفكير في سّبل إشراك الشباب في تظاهرات فنية من وحي محيطهم. كما تنمو هنا وهناك مشاريع أخرى همها الوحيد احتواء الطاقات الإبداعية لشباب الضواحي حتى لا يسقطوا في هاوية الانحراف والعنف.