مدونات: المثقفون المغاربة أرادوها متنفساً فوقعوا في حبائلها

أرخبيلات افتراضية يسبح فيها كل مدون لوحده

المغرب يدوّن ليتنفس
TT

ظهرت المدونات في المغرب نهاية التسعينيات، على يد قيدوم الكتاب والمترجمين محمد أسليم. ثم ارتفعت وتيرة الظاهرة، بتوطين ثقافة الإنترنت في المجتمع المغربي. غير أن عدد المواقع الأدبية لم يتجاوز الثلاثين. وهو رقم ضعيف مقارنة مع المشرق العربي. لكن هذه الجغرافية الافتراضية الملتبسة، تقتضي تشريحا لفهم ميكانيزماتها. لذلك فأول مدخل إشكالي تفرضه علينا هو سؤال المؤلف. ولسنا هنا في حاجة إلى استحضار نظرية رولان بارت عن «موت المؤلف» لنستوعب نسبة الذات المؤلفة في معمعان العالم الافتراضي اللانهائي. يقول محمد أسليم الباحث الأنثربولوجي المعروف على موقعه: «يسرت الرقمية عمليتي النشر والكتابة، تيسيراً غير مسبوق، وكان من الطبيعي أن يتزايد عدد النصوص المعروضة للقراءة، ومن ثم يفقد المؤلف الهالة التي ظلت تجلله طيلة آلاف السنين». في المغرب، كما في باقي أرض الله، تتعدد مرجعيات هذه المواقع. إذ نجد مدونات فكرية ونقدية وأدبية وفنية مثل، مواقع محمد عابد الجابري، سعيد يقطين، عبد السلام الموساوي، محمد معتصم، رجاء الطالبي، عبد الرحيم العطري، فاطمة بوزيان، إدريس علوش، جمال الموساوي، ميلود العثماني، وغيرهم. التعدد في المضامين، يضفي تعدداً في التناول. غير أن الهاجس المؤسس، علاوة على الانخراط في حداثة العصر، يبقى هو التواصل، في ساحة ثقافية، يخيم عليها انسداد الآفاق منذ عقدين؟

تقول الكاتبة رجاء الطالبي عن مدونتها: «كانت فكرة لخلق فرصة ألتقي فيها بذاتي والآخرين، كلما سنحت الفرصة، أطل عليها لأسجل بعضاً من أفكاري، أنقل بعضا من قراءاتي، ولأقتسم وثلة من الأصدقاء ما أقرأ، وما أترجم. هي حاجة لخلق فضاء، يتجسد فيه جزء من شخصيتي أراني فيها حين أتصفحها وأجد ما أحب من أسماء كتاب وشعراء وممسوسين بالكتابة والوجود المختلف». ويضيف القاص والسينمائي محمد شويكة: «المبدع يقبل بطبعه المغامرة، ويقدر ما صدر عن الإنسان، وينتقده متى دعت الضرورة. لذلك أشتغل على جماليات الإبداع بواسطة الإنترنت قصد ردم الهوة فيما بيني وبين مستجدات تكنولوجيا التواصل الرقمي. كما أسهم بقسط ضئيل في دعم الثقافة المغربية والعربية في العوالم الافتراضية».

يعتبر انسداد آفاق الثقافة في المغرب ووقوفها على أسماء بعينها، السبب الرئيس في لجوء العديد من الكتاب إلى الإنترنت. لكن التحولات السياسية التي عرفها المغرب منذ عقد من الزمن عمقت أزمة الكتابة والكتاب، إذ تراجعت صحافة الأحزاب التي كانت تنشر ولا تزال ملاحق ثقافية محدودة الانتشار، يهيمن عليها مثقفو الأحزاب. وظهرت صحافة جديدة، يطلق عليها نظريا اسم «الصحافة المستقلة»، وهي أيضا تهمش هؤلاء الكتاب وتعطي الأسبقية لمواضيع ساخنة تجلب القراء. هذه المعطيات، تدفع بالكتاب إلى معانقة رحابة الإنترنت. وتصير المدونات أداة لمحاربة تسليع الثقافة وسجنها في علائق تتحكم فيها الزبونية. يقول الباحث عبد الرحيم العطري: «هناك مشكلة ارتفاع تكاليف النشر، فأسعار طباعة وتوزيع الكتب تظل الأكثر ارتفاعا في العالم العربي».

لكن هناك من يفرق بين النشر والمدونات، يوضح محمد شويكة: «المدونة ليست بديلا للكتاب، ولكنها مهدد له. لا أظن أن الكتاب واجه في تاريخه أزمة كهذه. لقد بدأنا نلاحظ اهتمام كافة الشرائح الاجتماعية بالإبحار الافتراضي». فهل هذا حل مشكلة القراءة؟

قد يكون التنفيس استراتيجية رئيسة في معظم المدونات العربية. غير أن إرادة كسر طوق الحصار، تختفي أحيانا لتنتج خريطة إبداعية تغلب عليها الصراعات الشخصية. كما أن هذه المدونات تستغل فضاءاتها لتصفية الحسابات. وقد تكون الضحية من ضمن مجموعة الكتاب نفسها. فتصير المدونات أرخبيلات افتراضية يسبح فيها كل مدون لوحده. يقول الشاعر وخبير الكتاب حسن الوزاني: «هذه المدونات بمثابة زنازن صغيرة تسجن المؤلف، حيث نجد مقالات كاتب معين، صوره، حواراته... بخلاف المقصود، أي الحوار مع الآخر. ربما تحيل هذه المدونات على انعدام التواصل، حيث تصير المدونة فضاء تظهر فيه ذات الكاتب بشكل مضخم. وهذه مفارقة».

تطرح المدونات أيضا مسألة جودة النصوص الأدبية. فهذا الكم الهائل من النصوص قد يهيمن عليه التواضع الفكري والأسلوبي، فتصير المدونة بمثابة مذكرات شخصية ينفس فيها المدون عن نفسه. يدقق محمد شويكة في هذا الخلل، فيقول: «المسؤول الأول والأخير عن جودة النص هو صاحبه. النص كاشف لمرجعيات كاتبه وثقافته ومعارفه» ثم يتمم الطرح عبد الرحيم العطري: «بالنظر إلى ما بات يعرفه عالم الإنترنت من سرقات أدبية مفضوحة، واستعمالات غير مأذونة للنصوص من قبل الآخرين فإنه يغدو سيئا للغاية. فهناك بعض المواقع التي لا تجد أدنى حرج في السطو على مواد الغير وتوظيفها شر توظيف، في سياق ما يخدم مواقفها الملتبسة والعدائية». بين مسؤولية الكاتب ومسؤولية المستعملين، تتأسس أخلاقية الإبحار التي ينبغي أن يفكر فيها القانون في العالم العربي. فالخطابات المهينة والشتائم المدسوسة وأكل الثوم بأفواه مستعارة تنشط على الإنترنت، لاسيما في بعض الجرائد المحترمة التي تتوفر على نسخة إلكترونية يجهز فيها المشرفون عليها على أعدائهم الأدبيين والإيديولوجيين بلا خجل.

وفي الأخير، فإن ضآلة عدد المدونات في المغرب وانحسارها في منظومة علائقية محدودة يجعلان دورها إشكاليا. ففي العالم الافتراضي القلة والكثرة نسبيتان، والبقاء للأصلح، أي للمدونات التي يتوفر مدونها على رؤية نوعية تسمح لها بالحوار مع مدونات أخرى. بيد أن التواصل النظري اللازم مع المواقع المغربية الأخرى أو الأجنبية، لم يتحقق. فمد الجسور يجب أن يكون علمياً وازنا كي يساهم المدونون في بناء مجتمع ثقافي فاعل.