رحلة بلجيكية في أراضي الجوع

في بكين وجدت ما هو أسوأ من أسوار الاعتقال حيث طغت «عصابة الأربعة»

TT

لم يعد غريباً، بالنسبة لنا، أن نقرأ أو نسمع مرويات، وقصصاً مختلفة عن مآسي الجوع في هذا العالم، وما يسببه من أزمات اجتماعية حادة تعصف في المناطق، وفي أرواح البشر الذين يعيشون فيها. ولكن أن نقرأ عن مأساة انتفاء الجوع، فهي مسالة أخرى، لم يتطرق لها أحد من قبل، ولم نسمع مرويات عن مدن وأمكنة عاشت تلك المأساة. بالعكس من ذلك، تناولت الحكايات والنظريات الاقتصادية، والسياسية، وحوارات الفلاسفة، حلم البشرية في إقامة مجتمعات خالية من الجوع الذي يقف وراء الكثير من الصراعات والنزاعات وعمليات العنف التي تهدد حياة المجتمعات، والأفراد، والدول.

تنقلنا الروائية البلجيكية الشابة إميلي نوثومب، في روايتها «بيوغرافيا الجوع»، الصادرة عن المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الى تلك المأساة في أرخبيل -فانواتو - أو ما يعرف بـ «هيبريدس الجديدة».

هذا الأرخبيل، بحسب الراوية، لم يعرف الجوع يوماً، لتميزه بالوفرة التي منحته إياها الطبيعة، وظل معزولاً بين أشجار نخيله، ويسر حياته، كما إنه لم يثر اهتمام أحد كي يقصده. فالناس في هذا الأرخبيل يفتقدون شهية الطعام، لا يأكلون إلا من قبيل المراعاة واللياقة «كي لا تشعر الطبيعة بالاهانة»، ويسيطر على نفوسهم السأم وعدم الاكتراث بأي شيء حولهم.

إن الراوية تجد في هذا الأرخبيل التمثيل الجغرافي لنقيضها «الجوع هو أنا». بالرغم من أن لجوعها خصوصية فردية لا يمكن لها أن تفسره اجتماعياً. فهي تنتمي الى بيئة موسرة، وعائلة لم تعان من الجوع يوماً. وكان الجوع، بالنسبة لها، نوعاً من «الفراغ الآسر» وتوقاً الى «الامتلاء الطوباوي».

فالجوع يدفعنا الى التطلع لأن يكون هناك شيء ما يستدعي السعي والرغبة، حتى إن كان هذا الشيء مجرد «سكاكر» شرط أن لا يتحول المرء، في السعي إليها، الى «شهيد غذائي» يحقنه الآخرون بالجوع عنوة، مثلما هو حال أبيها الذي كان خاضعاً لسلطة أمها الغذائية، مما يجعله عاجزاً عن الاستمتاع بنكهة الحصول عليها. إنها تريد أن تبقى - وهي الطفلة ابنة السابعة من العمر - سيدة للمتعة مثلما النهر في أعلى مستويات فيضه.

إنه، الجوع الخارق، يجعلنا نمتلك مبدأ المتعة نفسه أكثر مما يدفعنا للحصول على اللذة. وهذا ما يجعلها تجد في جوعها الدائم للسكر والشوكولاته نوعاً من «الغذاء السماوي».

كان الإحساس الطاغي بالحرية، ومعاقرة اللهو، يضاعف شعورها بالحاجة الى سد الفراغ في داخلها، وأن يكن ذلك، عن طريق الاستمتاع بطعم مسحوق الغسيل في الشراشف المبللة. في أجواء الحياة اليابانية، وجدت ما يحقق لها نوعاً من الإيمان الذاتي، الذي تمتزج فيه مسيحية الأوائل بـ «ميول شتوية»، ترسخه أرض الطبيعة والورد والأشجار التي عاشت فيها أقصى حالات السعادة والانسجام مع الذات. وحين غادرت بلاد الشمس هذه، شعرت بالضجر والغثيان

وفي بكين وجدت «أسوأ ما قد يبتكره الاسمنت من اسوار الاعتقال»، حيث طغت لغة «عصابة الأربعة» الزاخرة بالصوامت على اللغة الصينية، وفعلت ما يشبه «صلة ألمانيّة هتلر بألمانيّة غوته».

وهناك بدأت ابنة السفير الصغيرة تسعى وراء الحب، ونالته من دون إبطاء. وهو ما اعتبرته كارثة تضاعف من حدة جوعها، في بلاد لا تكف عن السعي وراء الطعام.

وبخلاف مغادرة اليابان، كانت العائلة مرتاحة للسفر من الصين الى مدينة نيويورك، حيث وجدت في الأخيرة البهجة والراحة، بالرغم من التباينات الهائلة، والجرائم المرعبة التي تحدث فيها. ولأنها ابنة تلك العائلة التي لم تعرف الجوع يوماً، فقد أطاحت «مباهج الرأسمالية المفرطة» بكل ما علق في نفوسهم من ذكريات ثلاث سنوات في الصين.

وحالما اقلعت الطائرة من نيويورك الى بنغلاديش، بدأ الضجر يتسلل الى داخل الابنة الصغيرة. وهناك اكتشفت بأن شاغل الناس في هذه البلاد هو مقاومة الاحتضار . وشوارعها مكتظة بمن كانوا مشرفين على الموت، والخروج إليها يحتاج الى شجاعة لا توصف:«علينا أن نحصن عيوننا، أن نعد لها دروعاً واقية».

ليس هناك جفن قادر على حجب الجوع في بنغلاديش. وهذا ما جعل ابنة السفير - الراوية تعبر عن كراهيتها لكل أنواع الجوع بما فيه جوعها هي - بل شملت كراهيتها البشر والحيوانات والنباتات، وكل القادرين على الإحساس بالجوع «وحدها الأحجار نجت من كراهيتها».

فالصحافة، وحتى كتابة الرسائل، بدت هناك كما لو أنها مستنسخة عن بعضها بنوع من القدرية اللغوية التي تملي نصاً متطابقاً: ربما هو إيقاع الحياة وصورها المتشابهة في كل مكان. ولكي لا يأخذها «نهر الهلاك» هذا في مجراه، تشبثت الفتاة الصغيرة وأختها بقراءة الكتب واحتساء الكحول. وفي خضم هذا «البهو المفضي الى الجحيم» لا تنسى ما كانت تقوم به المرأة البلجيكية - ماري بول - وهي تصرف ايامها ولياليها في معالجة المصابين بالجذام في إحدى البلدات النائية، برفقة راهبتين تركتا الأديرة الهانئة من أجل إنقاذ مئات المجذومين هناك.

وفي تلك الفترة عاشت الابنة الصغيرة نوعاً من «العدم الهرموني»، حيث تستيقظ ليلاً لتفرط في أكل ثمار الأناناس حتى ترى اللب الأصفر مشبعاً بدمها:«طعم الدماء في الأناناس يرعبني حتى النشوة». كانت تعيش في جنون الرغبات، جائعة لإعصار مدمر يبعدها عن مشهد لا تنسجم وإياه.

ولأنها تعلمت في هذه البلاد الجائعة بأن ألم الجوع يزول بسرعة ولن يعاني المرء إلا من آثاره، قررت التوقف عن الأكل. وبعد شهرين من ألم الجوع حدثت المعجزة «اختفى الجوع، وحلت محله بهجة متدفقة، كنت قد قتلت جسدي . وعشت جريمتي تلك كنصر مبين».

وبدأ الإحساس بالعزلة يداهمها ويشعرها بنفور الناس منها. فلازمت غرفتها على غرار - غريغوار سامسا - في «مسخ» كافكا، وعاشت مشاعره كصرصور عملاق، حتى عادت إلى اليابان، المكان الذي تنسجم فيه مع ذاتها، لتنصرف هناك إلى الكتابة. وهنا تلتفت الروائية - اميلي نوثومب - الى طبيعة الحياة العدمية، وحالات التأزم والإحباط التي يعيشها المراهقون في ظل أجواء متناقضة تفتقر الى التماسك الروحي واستقرار العاطفة.

ويبقى لنا أن نقول بأنه لا يمكن النظر الى معنى مروّية (مأساة انتفاء الجوع)، إلا من خلال مخيلة من كان الشبع المفرط قدراً في حياتهم – سكان أرخبيل فانواتو، عائلة السفير الموسرة - فالجوع ليس «بهحة متدفقة» حينما تكتظ الشوارع بمن كانوا مشرفين على الموت في بنغلاديش وغيرها.