كاتب يقع في مأزق شخصياته

«واحة الغروب» لبهاء طاهر الفائزة بجائزة بوكر العربية

TT

تشكل العلاقة بين الشرق والغرب، اللذين لن يلتقيا أبداً كما يبدو، ثيمة رئيسية في أعمال الروائي المصري بهاء طاهر الأخيرة، بعد أن أبعد عن عمله عام 1975 لأسباب سياسية، وعاش وعمل قرابة عشرين عاماً في سويسرا، كما في روايته «حب في المنفى»، التي تتناول أيضاً المرحلة الناصرية وعلاقة المثقف بالسلطة، وروايته الأخيرة «واحة الغروب»، التي فاز بها بجائزة بوكر بنسختها العربية يوم الاثنين الماضي.

لكن هذه العلاقة ليست علاقة صراع، كما في أعمال عربية كثيرة ربما تكون أبرزها رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح. إنها علاقة بحث روحي عن أحدهما الآخر، وإن ارتدى أقنعة مختلفة، وكأن العالم لا يكتمل إلا إذا التقيا، لكنه لقاء مؤجل دائماً، وإذا تم فسيقتله سوء الفهم، وسوء النية أيضاً، وثقل التاريخ الواقعي والنفسي. والنقطة الأخرى إن هذا اللقاء يتم في فضاء الشرق نفسه، وليس في الفضاء الغربي كما في معظم الروايات الأخرى، التي تناولت هذه الإشكالية الخالدة.

بهاء طاهر يحدد هذه العلاقة، كما يقول في مقابلة معه، بثلاثة أبعاد: الانسحاق التام أمام الغرب، أو الرفض المطلق له، والبعد الثالث يتجسد في ما سماه «الرقص على السلم»، أي الأخذ بتكنولوجيا الغرب، مع رفض قيمهم، متناسين «أن قيمهم على الأرجح، هي التي ساعدت على تقدمهم الحضاري».

إذاً، بالنسبة له، لا بد من البحث عن حل أكثر إيجابية فيما يتعلق بعلاقتنا بالغرب. وربما نعثر على مسعى فاشل للوصول إلى هذا الحل الأكثر إيجابية في رواية «واحة الغروب». لكنه يبقى مسعى بطولياً يقترب من المأساة الأغريقية، التي كان أحد ممثليها «الإسكندر الأكبر» صوتاً من أصوات الرواية، بالإضافة إلى أربعة أصوات أخرى:

محمود، كاثلين، الشيخ يحيى، الشيخ صابر.

والطبع، لا يمكننا أن نختزل الرواية بهذا البعد فقط، وإن كان بعداً مهماً، فشبح بالماضي، الذي يجول في الرواية من أولها لنهايتها، والعلاقة بين المستعمِر والمستعَمر، الذي سيلبس ثوب الأول، والجلاد والضحية اللذين يتبادلان الأدوار، تشكل أبعادا أساسية تتداخل مع البعد الأول في تركيب روائي معقد، وإن بدا بسيطاً من الخارج بفضل لغة الكاتب السلسلة الواضحة.

الإطار الزماني الذي اختاره طاهر لروايته، هو نهايات القرن التاسع عشر، وبداية الاحتلال البريطاني لمصر بعد هزيمة ثورة عرابي. والمكان هو سيوة، التي تسيطر عليها قبيلتان، أحدهما في الحي الغربي، والأخرى في الحي الشرقي، لكنهما تمردتا على السلطة المركزية، وامتنعتا عن دفع الضرائب، فأرسلت لهما المأمور محمود عبد الظاهر لتأديبهما.

ويقول لنا الكاتب، الذي صرف وقتاً طويلاً في كتابة هذه الرواية، وزار المنطقة عدة مرات، إن شخصية المأمور شخصية حقيقية، واسمه محمود عزمي، ونسب إليه تفجير معبد آمون الثاني عام 1897. وباستثناء ذلك، لا توجد أية معلومات تاريخية عنه.

لكن لماذا قام بتفجير معبد آمون؟ أية رسالة يريد أن يبلغنا إياها، ومن بعده الكاتب؟

لقد مر الإسكندر الأكبر يوماً بواحة آمون، وهناك «باح آمون بما أراد هو أن يسمعه، وترك لي أن أفهمه». ثم أخبره كاهن آمون بأن الآلهة اختارته ليكون فرعون مصر. وبعد موته في بابل، نقلته عربة إلى واحة آمون التي أوصى بها مكاناً لدفنه.

نعرف ذلك كله من خلال الإسكندر الأكبر، وهو يخاطب من جاء يبحث عنه، أو قبره، والمعنية بالأمر كاثلين الايرلندية، التي تركت بلادها، وزواجاً فاشلاً، لتتزوج المأمور محمود، الذي التقته في إحدى الجولات السياحية. وكان هاجسها الأكبر العثور على قبر الإسكندر الأكبر لتحقق، كما تقول، «أكبر كشف في التاريخ الحديث».

لقد اختار بهاء طاهر تقنية الأصوات المنفردة، لمنح شخصيات حرية أكبر في التعبير عن ذواتها ومصائرها، وعلاقاتها مع الآخرين والماضي. وهي تقنية اعتمدها كثير من الكتاب عبر تاريخ الرواية، وربما يكون وليم فوكنر من أنجح من استخدمها في روايته الذائعة الصيت «الصخب والعنف».

ولكن فصل «الإسكندر الأكبر» كان في رأينا مصطنعاً إلى حد كبير، بمعنى أنه قطع نمو الرواية، وبقي صوتاً من التاريخ، أكثر من كونه صوتاً روائياً. وكان يمكن تبرير ذلك فنياً، لو إن الكشف الطويل الذي قدمه بحميمية، وبصوته الخاص، عن نفسه وفلسفته وأوهامه، وبطولاته التي قضت عليه أخيراً في أرض غريبة، قد انعكس على علاقة كاثلين به، وعلى تصوراتها عنه التي كانت قد اكتسبتها من كتب التاريخ والآثار الجامدة.

أما مع الأصوات الأخرى، فنجد نمواً بطيئاً، كأنه يتماشى مع إيقاع الصحراء البطيء. ويشعر القارئ أحياناً، أن الكاتب قد تورط بهذه الشخصيات التي أخذت تدور على ذواتها، وأن الخروج بها من تلك الواحة بات مستحيلا.

فكاثلين، الممسوسة بعلاقاتها بالحجر، ستتبدد أوهامها بمحمود، فهو لم يعد يختلف عن زوجها الأول. وستبقى غريبة عن ذاتها ومكانها الجديد بعدما رفضها أهل الواحة. على النقيض من شخصيتها، هناك أختها فيونا، التي التحقت بهم من إيرلنده للعلاج. إنها النقطة المضيئة الوحيدة في ذلك الظلام الحالك. وقد أحبت أهل الواحة لصفاتهم الإنسانية المجردة، وأحبوها بدورهم بسبب ذلك، وإن من بعيد، كما انعكس في موقف الشيخ يحيى الذي أمدها بعلاج طبيعي، رغم رفضه مقابلتها. لكن فيونا تموت.

وكانت مليكة الضحية، الضائعة في الرواية بدون أي صوت كما مع الشخصيات لأخرى، وهو أمر مقصود من الكاتب لهامشيتها كإنسانة، وعدم الاعتراف بها من قبل الجميع، قد انتحرت قبلها، أو قتلت بعدما نبذتها القبيلة، وأساءت الظن بها كاثلين، رغم إن العلاقة بينهما هي من أضعف خيوط الرواية. وكان تدخل الكاتب وموقفه واضحين فيها، خاصة في ذلك المقطع الذي أخذت كاثلين تصرخ فيه:” أنا لست سافو”- إشارة إلى الشاعرة الاغريقية المثلية- في وجة فتاة ريفية ساذجة! ولعله أراد بذلك التعبير عن أحد أبعاد العلاقة التي تحكم بين الشرق والغرب، وهو بعد الانسحاق، الذي أشار إليه في المقابلة التي ذكرناها.

لم يتحقق شىء لأحد في “ واحة الغروب”. ولم يبق أمام محمود سوى هدم معبد آمون.هل أراد بذلك دفن الماضي إلى الأبد؟ أم دفن صورة الغرب عن الشرق كحجر وآثار، أم هدم ماضينا الذي طمر حاضرنا، وغطى على الإنسان فينا؟ أم كل ذلك معاً؟